|
عمى حيثي
عمى حيثي متأبطًا حقيبةً (سوداءَ مزركشة مرسوم عليها جمجمة على خلفيتها عظمتين متقاطعتين؛ فضلاً عن كتابات تحذيرية مما تحتويه باعتباره: قابل للكسر وقابل للاشتعال وشديد الانفجار...) اعتاد أن يندس بين الجموع كل يوم يتعامل معهم ويتعاطون مع ما لديه... من كثرة تواجده في الشارع يعتقد الكثيرون أنه مشرد لا بيت له. لم يثق الناس فيه يومًا رغم قدم عهدهم به، واختلاطهم اليومي الذي يبدو للكثيرين منهم أنه مفروض عليهم وليس اختيارًا فرضته قوته (الفائقة التي تجعل منه عملاقًا عند مقارنته بأي واحدٍ من الناس) وصلفه الذي يمارسه مع من تشرئب صورته في أذهان الجماهير كبديل أو حتى شريك، وأنفه المندس في كثير من مشاهد حياتهم حتى أنهم يتندرون أحيانًا أنه لم يبق إلا أن يجدوه متسربًا إليهم مع مياه الصنبور أو بديلاً عنها! ويبالغ آخرون أنهم يحسون به متسللاً مع ذرات الغبار إلى رئاتهم عند كل شهيق. حالات متداخلة من السُكْر حتى الثمالة والشرود والتوهان والدروشة والخوف، بل الجبن، تمنع الناس من الانتباه إلى الحقيبة السوداء المعلقة في كتفه، وغاز مجهول ينشره كل صباح ومساء في الفضاء يمنع المحذرين (الذين اكتشفوا وجودها) من أن تتجاوز أصواتهم سقوف حلوقهم. عندما حدث الانفجار أمام كنسية القديسين في الإسكندرية كان يتساءل مع الناس لماذا؟! ومَنْ يا تُرىَ فعلها؟! شاركهم جمع الأشلاء، والتظاهر، والمطالبة بالتعرف على الجاني. لم ينتبه الكثيرون إلى أنه ليس فقط يداه وملابسه ملطختان بدماء الضحايا (رغم أنه بدَّل ملابسه وغسل يديه ثلاث مرات) بل أيضًا مازالت هناك حقيبة تحت إبطه برسومها وكتاباتها التحذيرية، غير أنها كانت "صفراء باهت لونها"! 10 يناير 2011 *** الصندوق الوردي منذ أن أطفأ ظمأه – أو ربما جوعه – بما في هذا الإناء، تكشفت له الحقائق، وتجسَّدت له المعاني، وظهرت الأفكار مادية كأنها صناديق ثقيلةً على كاهله. وكلما فكر في إنسان وجده ملاصقًا له لا يفارقه، متجسدًا، حاضرًا لا يغيب. كلما استحضر انطباعه عن صديق أو رئيس عمل أو إمرأة، أحاطت به انطباعاته شاغلة حيزًا لا يفرغ من حوله. منذ ذلك الحين وهو يقف في الميدان الكبير على حالةٍ من الذهول والتوهان. الابتسامة البلهاء الماكرة أحيانًا – والصافية حينًا – إلى حد القهقهة. تعبيرات يظن المارة أنها إمارات جنون، فيتحاشون الاحتكاك به، بينما يرى ابتعادهم عنه منطقيًا لأن اقتربهم لا يعني – لديه – سوى اصطدمهم بهذه "الكتلة" من الأفكار والانطباعات والاستحضارات البشرية المتجسدة المحيطة به. أما ما كان يدفعه للاندهاش والابتسام وربما البكاء المعجون في القهقهة، فهو ما يراه من اصطدام صناديق المارة وحشودهم. إنه لا يرى أفكاره وانطباعاته هو فقط متجسدة، بل يرى أفكار الناس أيضًا وانطباعاتهم محتشدة سائرة معهم لا تفارقهم. وكلما رأى المارة – مثقلة أعناقهم بصناديق أفكارهم، مصاحبين لانطباعاتهم، مصطحبين لكل من يشغلون تفكيرهم – يصاب بالذهول؛ إذ كيف يتحركون وسط كل هذا الزحام الخانق؟!. ألا يستشعرون الاحتكاك الرهيب الذي يُحْدِثُونَهُ بين صناديقهم، حتى أنه يراها تتحطم جراء الاصطدام؟!. يذهله أنهم لا يأبهون لهذه الجلبة. ويضحكه أن يكتشف ما في هذه الصناديق من أفكار ومشاغل وانطباعات وخيالات وتطلعات، وما يصطحبونه معهم من رفقاء ورفيقات يعربدون في خرابات عقولهم المظلمة. وتنشق شفتاه عن ابتسامته الصافية عندما تمر صبية بضفيرتين تحمل صندوقًا وردي اللون مِلْؤُهُ بالوناتٍ وعرائسَ وأحلامٍ وأراجيحَ، وحشدها عصافير تغرد وأزاهير تتفتح وملائكة تنشد أغنية الحياة. يقف – منذ أن تناول ما في الإناء – متجمدًا في مكانه يخشى على صناديق أفكاره وانطباعاته وصحبه الذين استدعاهم خياله. يشفق عليهم من الاصطدام بالمارة والتحطم على أرض الميدان الذي لا يكاد يفرغ إلا في ساعات السحر، حيث يكون غاطًا في نوم عميق لا يفيق منه إلا على أصوات الحشود المتضاربة والصناديق المتكسرة والأفكار المتصادمة!. 22 ديسمبر 2010 *** *** *** |
|
|