|
الإيكولوجيا والإيديولوجيا٭
يطمح الوعي الإيكولوجي، بما هو وعي فلسفي، إلى التحقق في الواقع في إطار العلاقة الضرورية بين الفكر والعمل. ولذلك فهو يتصل بالإيديولوجيا باعتبارها "تصور منظومي أو شبه منظومي لمجموعة من الحلول المنسقة المقترحة كعلاج لمشاكل إحدى الجماعات أو أحد المجتمعات"[1]. نحن هنا نختار فهمًا للإيديولوجيا فحواه أنها مجموعة المفاهيم التي تكوِّنها جماعة من البشر عن أوضاعها في ظرف تاريخي محدد. وبالتالي تكون الإيديولوجيا ضرورية كي لا يظل الوعي الإيكولوجي، بما هو تجلٍ لإدراك فلسفي، فرديًا ونظريًا، بل يتحول إلى عمل جماعي من خلال القيم الإيكولوجية التي أنشأها بالاستناد إلى منظومة معرفية دعوناها النظرة الإيكولوجية إلى العالم. أي إن على الوعي الإيكولوجي أن يتحول إلى حركة نضالية تجهد لإزالة القيم المخالفة ولتحقيق قيمه الخاصة. ولذلك يحتاج الوعي الإيكولوجي إلى حامل اجتماعي له لأن الإدراك الإيديولوجي إما أن يكون مجتمعيًا أو لا يكون[2]. من جهة أخرى، تبدو الإيديولوجيا ضرورية لأن الحامل الاجتماعي للوعي لا يستطيع أن ينطلق في مشروعه للتطوير أو للتغيير إلا بعد أن يبني تصورًا عن الحاجات والمتطلبات والوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك. ويسمي البعض هذه التصورات عن الواقع وعن معضلاته وعن أسباب تعثره وعن مرتجياته، يسميها فلسفة اجتماعية. لكن عندما لا تعود تكتفي بالمعرفة النظرية يأتي الوقت كي تتحول الفلسفة الاجتماعية إلى حركة نضالية ملتزمة وتصبح بالتالي إيديولوجيا. إن سيرورة التغيير تستوجب اندفاعًا ملتزمًا مع ما يحمله ذلك من شحن المعرفة النظرية بزخم إرادي وشعوري لجعلها فاعلة، أي لابد من تحويلها إلى نمط من الفكر الملتزم الذي نسميه إيديولوجيا لتجسيدها في إنجازات واقعية. وبالتالي ليست الإيديولوجيا، وعيًا زائفًا، بل وعي محرك للتاريخ[3]. وثمة مستوى آخر للإيديولوجيا هو مستوى التعامل الذي يتجلى في قيام مجموعة من العلاقات التبادلية السلبية (كالتنافس والصراع وربما الحروب) أو الإيجابية (الحوار، النضال السلمي) فيما بين جماعات ذات أبعاد تاريخية وذلك بوساطة المنظومات الفكرية التي تستخدمها هذه الجماعات للتعبير عن هويَّاتها التاريخية والدفاع عن مصالحها وتطلعاتها ولمعالجة مشكلاتها المتجددة[4]. يعني هذا أن صورة الآخر تكون حاضرة لدى الذات الإيديولوجية لكنها تظل محكومة بمنطق الإيديولوجيا المبني على الانحيازية والمنفعة. وبالتالي فإن معرفة الآخر ليست مطلوبة سوى من أجل تأمين أكبر قدر ممكن من مصالح الجماعة الإيديولوجية. ويعسر بالتالي الارتقاء إلى مقاربة الآخر على مستوى الفهم العقلي المضبوط، بل تتم هذه المقاربة، مدفوعة بالمصلحة الجماعية وشروط النضال الجماهيري، على مستوى الصورة المتخيلة التي يوفرها المتخيل الجماعي ويتم بالتالي تقديم الصورة على المفهوم[5]. نستخلص مما سبق أفكارًا رئيسية تخص الإيديولوجيا وهي: الحامل الاجتماعي بما هو ذات إيديولوجية، أي جماعة أو فئة أو طبقة، ثم مصلحة هذا الحامل التي تتطلب الانحيازية والنفعية، ثم فكرة الآخر بما هو حامل لمصلحة مغايرة، وأخيرًا وسائل العمل الكفيلة بتحقيق المصلحة، سواء كانت هذه الوسائل برامج فكرية أو أساليب نضالية. لننظر الآن إلى هذه الأفكار في سياق علاقة الوعي الإيكولوجي بالإيديولوجيا، أي في مسألة تحقيق تصورات هذه الوعي وقيمه في الواقع. لنبدأ أولاً بالمصلحة. إن الأزمة البيئية والأخطار المتعلقة بها لا تخص جماعة معينة، سواء كانت فئة أو طبقة اجتماعية أو بلدًا من البلدان دون غيره، بل تخص المجتمع البشري بأكمله باعتبار أن مستقبله مهدد. ومن جهة أخرى، إن كوكب الأرض ومنظوماته الإيكولوجية مهددة وبالتالي لها "مصلحة" في وجود وعي إيكولوجي وتحققه. هذا يعني أن الانحياز والنفعية الخاصة بأية إيديولوجيا إيكولوجية تتطلب الانحياز لمصلحة البشر كنوع حي ولمصلحة الأرض ككوكب صالح للحياة. أي ثمة مصلحة مشتركة في البقاء. هنا ينبثق تساؤل: من هو، إذن، الحامل الاجتماعي للإيديولوجيا الإيكولوجية، ومن هو الآخر الحامل لمصلحة مغايرة؟ إذ طالما أن البشر جميعًا لهم مصلحة مشتركة في البقاء، فلا نستطيع التحدث عن مصلحة مناقضة لذلك عند أي فرد أو جماعة. أفلا توجد إذن إيديولوجيات ووعي مرتبط بها يناقض الإيديولوجيا الإيكولوجية؟ ما هو شأن الليبرالية والاشتراكية باعتبارهما الإيديولوجيتين الرئيسيتين في عصرنا، وما علاقتهما بالوعي الإيكولوجي والإيديولوجيا المرتبطة به؟ يذهب المفكر أنطوني جيدنز Anthony Giddens إلى أن الحركات الخضراء وإن اعتادت أن تضع نفسها غالبًا على اليسار إلا أن ذلك لا يعني أن الأفكار الإيكولوجية هي على نحو مميز أفكار اليسار، ولا هي أيضًا أفكار اليمين. فليس ثمة ما يجمعها كثيرًا سواء مع اليسار أو الليبرالية. فهي تعارض النزعة التقدمية، أي الاعتقاد بالتقدم المادي الاقتصادي والاجتماعي وأن كل شيء يمكن أن يتغير نحو الأفضل. لكنها، أي هذه الحركات وأفكارها، تدعم في الوقت نفسه أشكال الراديكالية التي تتجاوز بدلالاتها أي شيء يمكن أن يتطور داخل الأطر العادية لليبرالية[6]. الإيكولوجيا والليبرالية يمكننا وضع العلاقة بين الليبرالية، بما هي إيديولوجيا، والإيكولوجيا في السؤال التالي: هل الليبرالية وسياساتها صديقة للبيئة[7]؟ ثمة من البداية ملاحظتان. الأولى أن الوعي الإيكولوجي شق طريقه إلى النور ليس في البلدان النامية بل في الدول الصناعية المتقدمة التي هيمنت فيها الليبرالية كنظام سياسي[8]. وبالتالي فقد أتاحت الليبرالية مجالاً لبروز الأفكار الخضراء والحركات البيئية والوعي المرتبط بها، وهذا ناجم بالتأكيد عن مناخ الحرية السياسية السائد في الإطار الليبرالي للتنظيم السياسي. أما الملاحظة الثانية فهي أن الوعي الإيكولوجي لم يبدأ من الحكومات الليبرالية لكنه نبع من الشعوب أي من الجمعيات غير الحكومية والتجمعات الشبابية وغيرها المعبرة عن مشاعر الناس[9]. لكن الليبرالية تواجه مفارقة في علاقتها بالمسألة البيئية، "فمع أنها تسمح بمناقشة القضايا البيئية إلا أنها لا تتيح الفرصة لإنجاز وتحقيق السياسات البيئية والحفاظ عليها وتبريرها، لذلك فهي تعوق العمل العام من أجل حماية البيئة"[10]. ولعل ذلك عائد إلى أن التأثير في السياسة العامة يرتبط بالأغلبيات الحاكمة في ظل الليبرالية والتي ترتبط بالأحزاب المتنافسة على السلطة. ونحن نعلم أن الأحزاب البيئية في البلدان الليبرالية قليلاً ما تصل إلى البرلمان وبالتالي حتى لو وصلت فإنها تشكل أقلية ضئيلة. لننتقل الآن إلى مناقشة الأفكار الليبرالية ومدى انسجامها أو تنافرها مع الأفكار الإيكولوجية. لقد أصبحت المجتمعات الليبرالية، على صعيد الشعوب، أرضًا خصبة لتعزيز نشوء المواقف والمعايير البيئية نتيجة لأربعة أسباب رئيسية: أولاً، لأن الليبرالية، إذ تعترف بالآخر وتقرُّ به وبحقوقه، تقف ضد الشوفينية التي لا تعترف بالآخر. لكن المشكلة التي تواجه الليبرالية هنا تتمثل في أن الأزمة البيئية، بكونها تلحق الأذى ليس بالبشر فحسب، بل بالأحياء الأخرى والمنظومات الطبيعية، تعبر عن شوفينية بشرية لا تقر بالآخر–غير البشري ولا تعترف بحقوقه، فهو في الأصل ليس في منظورها. لكن مع ذلك فقد أتاح المجتمع الليبرالي نشوء مفكرين يؤلفون بين الأفكار والمواقف الإيكولوجية المتمثلة في احترام الآخر – غير البشري، والأفكار الليبرالية التي تهتم باحترام الآخر البشري وحسب[11]. والسبب الثاني يتمثل في أن الليبرالية تؤمن بالانفتاح والتسامح من خلال تقبل النقد، سواء تعلق بالمواقف أو القيم أو النظريات، وسواء في الحياة السياسية أو في المجادلات الأكاديمية والفلسفية. فقد أتاح المجتمع الليبرالي للمفكرين الإيكولوجيين أن يعبروا عن آرائهم، حتى أولئك الذين كانوا يهاجمون التقاليد الليبرالية ويحملونها مسؤولية عدم قدرتها على فهم ومن ثم علاج وحل المشكلات البيئية[12]. والسبب الثالث يتمثل في أن الليبرالية أتاحت من خلال رفضها للواحدية، رغم سيادة المركزية البشرية في تقاليدها، وجود وسط فكري وفلسفي تفتحت فيه الأفكار الإيكولوجية التي تنبذ المركزية البشرية في طرائقها وتتمركز بدلاً من ذلك إيكولوجيًا أو حيويًا[13]. أما السبب الرابع فهو المناخ الذي يرافق السياسات الداخلية في المجتمع الليبرالي والذي يدافع ويؤسس لحقوق الفرد سواء مقابل الكنيسة وسلطتها، كما حصل في بدايات تشكل المجتمع الليبرالي، أو مقابل الدولة والشركات والمجمعات الصناعية. لقد كان نشوء أفكار ومنظمات حقوق المواطن في هذه المجتمعات في القرن العشرين نتيجة للشك في إمكانية استبداد الأغلبية بالأقلية، وتطورت هذه إلى بزوغ منظمات حقوق الإنسان وفكرة القانون الدولي. وقد دعم هذا الأمر أنصار البيئة في صراعهم ضد الشركات والمجمعات الصناعية التي لا تتبع سياسات مستدامة في نشاطاتها، وبالتالي تنكر حق المواطن في بيئة نظيفة. وكذلك أتاح لهم الاعتراض على سياسة الدولة عندما لا تتوافق مع الاعتبارات البيئية[14]. لكن مع أن المسائل السابقة تأتي في صالح الليبرالية من حيث علاقتها بنشوء الوعي الإيكولوجي، إنما لا يبدو أن الليبرالية يمكنها أن تواجه التحدي الذي تمثله الأزمة البيئية. والسبب في ذلك يكمن في أن الإيكولوجيا تستلزم تدخل الدولة الذي تسوغه فكرة الخير المشترك وبالتالي يتناقض هذا مع حيادية الدولة في الليبرالية. كما أنه في عصرنا، عصر الإيكولوجيا، يجب أن تؤدي المسؤوليات البيئية والاجتماعية دورًا أكثر أهمية من دور المصلحة الفردية وحرية الأسواق وصناعة القرار بغرض المنفعة. ولذلك قد يكون التطلع إلى ليبرالية تتمتع بالمزيد من البعد الاجتماعي، أي إلى الليبرالية التي رافقت دولة الرفاه، مناسبًا لتسويغ السياسات البيئية بمصطلحات ليبرالية تناسب عصرنا، عصر الإيكولوجيا[15]. لكن الليبرالية كما نشهد حاليًا لم ترجع نحو دولة الرفاه، هذا عدا عن كون دولة الرفاه قد ألقت أكبر الضغوط على البيئة من خلال تركيزها على الاستهلاك، بل أصبحت ليبرالية متوحشة يصعب في إطارها توقع اهتمام بالوعي الإيكولوجي وحماية البيئة إذا كان الإنسان نفسه، أو الفئات الأعظم من البشر، موضوعًا للمزيد من الاستغلال والإفقار والنهب. الإيكولوجيا والاشتراكية لعبت الإيديولوجيا الاشتراكية دورًا كبيرًا في المجتمع الحديث وقد جرى تبينها من قبل ثلاثة اتجاهات. الشيوعية التي رأت فيها مرحلة انتقالية نحو المجتمع الشيوعي، والحركات الوطنية التي أعقبت استقلال البلدان المستعمرة في العالم الثالث، وكذلك الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في البلدان المتطورة. ومع أن الوعي الإيكولوجي لم ينشأ في البلدان الشيوعية، بسبب النظام الشمولي الذي كان سائدًا فيها، إلا أن التخريب البيئي كان على أشده في هذه البلدان. ويعود ذلك إلى أن هذه البلدان حاولت أن تقيم مجتمعات اشتراكية متطورة بتأخر قرن أو قرنين من الزمن عن البلدان والأنظمة الرأسمالية في أوروبا والولايات المتحدة واليابان. وكان تدمير البيئة هو عاقبة الاستراتيجيات التي اتبعتها لهذا الغرض وهي التصنيع الموسع والمكثف، واستثمار مصادر الطاقة الداخلية بهدف الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة، والتقليد المبكر للمنتجات وللاستهلاك البتروكيميائي الذي لدى المجتمعات الرأسمالية الأكثر تطورًا منها[16]. أما البلدان التي استلمت فيها الحركات الوطنية ذات الطابع الاشتراكي السلطة وإدارة الدولة والمجتمع فقد كانت شمولية وديكتاتورية في معظمها، فهي أولاً لم تتح نشوء أي وعي أو فكر مغاير، وثانيًا لم يكن ليتسنى لها الاهتمام بالمسألة البيئية نتيجة تركيزها على مسألة التنمية وتلبية حاجات معدلات النمو السكاني المرتفع فيها. ومع أن البلدان الشيوعية انهارت إيديولوجيتها، والبلدان في العالم الثالث بدأت تتخلى في معظمها عن الإيديولوجيا الاشتراكية وتخضع لمتطلبات اقتصاد السوق والإيديولوجيا المرتبطة به، إلا أن الاشتراكية وفكرة العدالة الاجتماعية المرتبطة بها ما تزال تؤدي دورًا كبيرًا في البلدان المتطورة من خلال الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الفاعلة في هذه البلدان، أو من خلال فكرة العدالة الاجتماعية المرتبطة بالاشتراكية. ولذلك سوف نستعرض التباينات والتوافقات بين الاشتراكية والإيكولوجيا. لنلاحظ أولاً أن الاشتراكية، حتى بما هي نظرية ناقضة للرأسمالية، قد اشتركت معها في النظر إلى الطبيعة كمورد واعتناق فكرة السيادة على عالم الطبيعة واستغلاله من أجل نفع البشر حصريًا. وهذا عائد برأينا إلى أن كلاً من الاشتراكية والرأسمالية قد اشتركتا في النظرة الحديثة إلى العالم وتبنيتا افتراضاتها الأساسية التي سبق أن تعرضنا لها. وقد يكون الأمر مبررًا لأن علم الإيكولوجيا لم يكن قد ظهر عندما وضع منظرو الاشتراكية أسسها. لننتقل الآن إلى رصد العلاقات بين الاشتراكية والإيكولوجيا. يذهب الباحث جيمس أوكونور James O'Connor إلى أن ثمة ثلاثة ميول اقتصادية اجتماعية معاصرة قد تتيح بروز سياسة خضراء–حمراء أو نوع من الاشتراكية الإيكولوجية وهذه الميول تتمثل فيما يلي: 1. الاقتصاد العالمي الذي يخصع لسيرورة التراكم من خلال الأزمة مخلفًا وراءه إفقار الملايين وتدمير المجتمعات وتخريب المنظومات الإيكولوجية وبالتالي إثارة أزمة بيئية عالمية. 2. الحركات الاجتماعية المتنامية التأثير، كالحركات البيئية والعمالية وحركات المزارعين وغيرها التي تدافع عن البيئة وعن شروط الإنتاج والحياة للعمال والفلاحين. 3. الحلول المطروحة للأزمة البيئية تفترض مسبقًا حلولاً للأزمة الاقتصادية والعكس بالعكس[17]. وفي دعوته إلى اشتراكية إيكولوجية لا يغيب البعد الطبقي عن منظور أوكونور إنما يضعه في إطار جديد. فالاشتراكية الإيكولوجية تفترض، كما يقول، تطوير سياسة طبقية عالمية وذلك لسببين: الأول لأن الاستغلال والحرمان الاقتصاديين يتزايدان، والثاني لأن التدهور البيئي يصبح على نحو متزايد قضية طبقية، إنما نادراً ما يكون قضية طبقية وحسب[18]. لقد أشار تقرير اللجنة العالمية للبيئة والتنمية (مستقبلنا المشترك)، إلى أن كلاً من الفقر والرفاه يعدان من أهم العوامل التي تؤدي إلى التدهور البيئي. الفقر يلوث البيئة لأن الفقراء والجياع غالبًا ما يدمرون بيئتهم المباشرة في كفاحهم من أجل البقاء، أي من أجل تأمين الحاجات الضرورية جدًا كالماء والغذاء. أما الرفاه المتمثل في الطلب المتنامي على الموارد الطبيعية لتحقيق مستويات عالية من الحياة فإن بلوغه يتم من خلال طرائق مؤذية للبيئة[19]. وعندما نلاحظ أن مستويات الرفاه العالية تقترن بالاستغلال الطبقي على المستوى الاجتماعي الوطني، وبالاستغلال على المستوى الدولي من خلال علاقات عدم التكافؤ بين الدول الغنية والفقيرة، فإننا نوافق أوكونور على فكرته التي تقول بأن ثمة "دَيْن إيكولوجي للفقراء والمحرومين ولدول العالم الثالث يجب على الجماعات والدول المهيمنة في العالم أن تدفعه"[20]. لكن ثمة تعارضات بين الاشتراكية، وأنصارها من العمال واتحادات العمل والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، وبين الإيكولوجيا وأنصارها في الحركة الخضراء. ويشمل هذا الأمر مسائل الإنتاج وقضايا البيئة والعمل. ينظر الاشتراكيون إلى الإيكولوجيا على أنها إيديولوجيا تقشف أو محاولة لضمان راحة الطبقات الوسطى أو الأعلى من الوسطى خصوصًا أن أغلب أنصار البيئة من الطبقة الوسطى وبعض النخب الثقافية والشبابية. كما أن الحركة الخضراء في سعيها إلى علاج تدهور البيئة تطالب بالنمو البطئ أو اللانمو أو التنمية المستدامة. وهي تشدد على المحلية والاكتفاء الذاتي في الأقاليم الحيوية. وفي مقابل ذلك، يعتقد الخضر أن الاشتراكية إيديولوجيا تدعم النمو بلا حدود، أي النزعة الإنتاجية. فقد اتبعت السياسات الاشتراكية وسيلتين لتحسين مستوى العمل والعمال: الأولى من خلال زيادة الإنتاجية دون اعتبار الكلفة البيئية لذلك، والثانية من خلال التوزيع المتكافئ للدخل والثروة. ومن جهة أخرى، إن الاشتراكية مركزية أكثر منها محلية وأنصارها من الفئات العاملة فحسب[21]. ثمة إذن ما يجمع وثمة ما يفرق بين الإيكولوجيا وكل من الليبرالية والاشتراكية. وكل من هاتين الإيديولوجيتين له نفوذ وتأثير في عالمنا المعاصر. فهل ننحو إلى التوفيق وانتقاء ما يجمع وضمه في سياق إيكولوجي أم نتبع سبيلاً غيره؟ إن مجرد بزوغ الوعي الإيكولوجي على أساس من إدراك الحاجة إلى نظرة إيكولوجية إلى العالم، نظرة جديدة، يمنعنا من التفكير في ذلك، هذا إن كان في الأصل قابلاً للتحقق. لذلك سوف نتطرق إلى علاقة الوعي الإيكولوجي بالإيديولوجيا، أي تصور كيف يمكن تحقيق المطلب الإيكولوجي، من خلال درب جديد. شبكات العمل الإيكولوجي إن تحقيق الوعي الإيكولوجي في الواقع يتطلب جملة مبادئ تشكل برنامج عمل يكون وسيطًا بين الأفكار والقيم الإيكولوجية والأساليب والتدابير العملية والمباشرة الهادفة إلى تحقيق هذه الأفكار والقيم. قدم آرني نيس وجورج سيسشنز George Sessions في العام 1984 ثمانية مبادئ برنامجية كأسس أو توجيهات للعمل لأنصار الإيكولوجيا وهذه المبادئ هي:
ربما لا تكون هذه المبادئ واضحة تمامًا، وقد أثارت بالفعل اعتراضات عديدة تتعلق بذلك. ولما كان أي برنامج عمل يجب أن يبتعد عن الغموض والتشوش كي يكون مرشدًا وموجهًا للعمل على نحو سليم فيجب القيام ببعض التوضيحات. إن الإشارة إلى الحياة عمومًا، البشرية وغير البشرية، تعني النطاق الإيكولوجي بأكمله بما فيه من أفراد وأنواع حية وتجمعات سكانية وموائل إيكولوجية. وهذا يعني أن السيرورات الإيكولوجية على كوكبنا يجب أن تبقى سليمة[23]. إن تنوع أشكال الحياة له علاقة، من وجهة النظر الإيكولوجية، بالتعقيد والتعايش بما هما شرطان لتعظيم التنوع. ويفهم التعقيد هنا بالمعنى المأخوذ من نظرية التعقيد، أي إنه يضمن للمنظومات مرونة في الاستجابة للشروط والضغوط التي تخضع لها. لذلك فإن ما يدعى أشكال الحياة البسيطة أو الأنواع البدائية من النباتات والحيوانات تسهم في تنوع وثراء الحياة ككل وليست مجرد درجات تقود إلى الأشكال العقلانية أو العليا من الحياة[24]. ولكن ما هي الحاجات الضرورية التي قد تؤدي إلى إنقاص أو تخفيض ثراء وتنوع الحياة؟ وهل ثمة معايير أو مقاييس تحدد متى يكون عمل ما، كذبح حيوان أو قطع شجرة أو إقامة سد، هو تحقيق لحاجة حيوية ضرورية أم لحاجة لا تتصف بذلك. ربما يكون المصطلح غامضًا قليلاً، كما يقول نيس، لكنه صيغ بهذا الأسلوب كي يتيح حرية اختيار عند التعرض لمواقف معينة[25]. مثلاً، إن ذبح الحيوان لتأمين الغذاء يعد حاجة ضرورية حيوية أكثر من ذبحه لتأمين فرو أو جلد فاخر، كما أن الصيد الجائر أو الصيد في مواسم معينة، كمواسم التكاثر، ليسا ضروريين طالما أن ثمة بدائل معينة موجودة. هذا يعني أن المبدأ لا يضع تحريمات بل ضوابط يتم مراعاتها وفق الوعي بأهمية الحاجات وبضرورة الحفاظ على التنوع الحيوي. ويثير المبدأ الرابع قضايا لا تتصل بصدقية المبدأ من حيث أن عدد السكان المتزايد يمثل خطرًا على البيئة، بل من خلال بعض المعضلات المرتبطة به، كالإجهاض ومنع الحمل التي تستدعي تفكرًا في كيفية إيجاد حلول تحظى بالموافقة والقبول من قبل ثقافات مختلفة[26]. ويقصد من المبدأ الخامس حول التدخل البشري الكثيف في الطبيعة الاعتدال أكثر من اللاتدخل، لأن التفاعل بين الإنسان والطبيعة سوف يستمر، إنما يجب أن يكون مدى وحجم هذا التدخل مأخوذًا بالحسبان. كما أن المبدأ يفترض الحفاظ على البراري والمحميات الطبيعية كي تواصل القدرة على القيام بوظائفها الإيكولوجية في دعم سيرورة الحياة[27]. ويعني تغيير السياسات، كما ورد في البند السادس، العمل على إحلال التنمية المستدامة على الصعيد الاقتصادي محل النزعة نحو النمو الاقتصادي غير المضبوط في البلدان الصناعية المتقدمة أو في البلدان التي تحاول اللحاق بها. ويقتضي هذا الأمر الكفاح ضد إيديولوجيا الاستهلاك أو النزعة الاستهلاكية التي يجري تعميمها عبر العالم بوسائل كثيرة. وكذلك ضد التقانات والصناعات الملوثة والمخربة للبيئة[28]. ويشير المبدأ الأخير في البرنامج إلى ضرورة العمل من أجل إنجاز التغيرات الضرورية وذلك من قبل من يؤمنون بالبرنامج. والمبدأ هنا يثير سؤالا ذا شقين: من هو الحامل الاجتماعي للوعي الإيكولوجي، وما هو السبيل العملي لتحقيق البرنامج السابق؟ لقد قلنا إن المصلحة المشتركة لدى جميع البشر في البقاء وكذلك الانحياز لمصلحة الأرض هما اللذان يحددان المصلحة الإيكولوجية. لكن، وخلافًا للإيديولوجيات السابقة، لن نعثر على فئة أو طبقة أو بلد محدد له صلة أكثر من الآخر في هذا الميدان. المصلحة تخص الجميع، على الأقل من حيث التحليل النظري. فيبدو أن الحامل الاجتماعي غير محدد الهوية، بل يتعلق الأمر أساسًا بالوعي، وليس بالوضع الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي أو غيره. كذلك لا يتعلق الأمر ببلد معين أو مجموعة بلدان فالأزمة البيئية تخص الجميع. هل معنى ذلك أنه لا يوجد حامل "موضوعي" للوعي الإيكولوجي كما كان الأمر مع البرجوازية والطبقة العاملة اللتين حملتا الوعي الليبرالي والوعي الاشتراكي؟ ثم، ما شأن الحركات والأحزاب البيئية التي نشأت، أليست هي مثل هذا الحامل؟ أولاً، إن الأحزاب البيئية وإن كانت تلفت الانتباه إلى أهمية حماية البيئة والعمل على صونها إلا أنها تواجه مشكلة المساومات السياسية في تحقيق أهدافها وتخضع بالتالي لمنطق القوة والنفوذ في سياسات السلطة، سواء في البلدان الديمقراطية أو غير الديمقراطية، وإن أهداف وغايات الوعي الإيكولوجي والمصلحة المرتبطة بها لا يمكن تحقيقها بهذه الطريقة لسبب بسيط هو أنها ملحة وعاجلة والمساومات السياسية تعيق أكثر مما تسرِّع. ثانيًا، إن الحركات البيئية بما هي منظمات للمجتمع المدني تبدو برأينا الإطار الأنسب للعمل الإيكولوجي لأنها تستطيع أن تتخلل الجسم الاجتماعي بتنوعاته المختلفة، وبالتالي يكون تأثيرها في صناع القرار وفي تعاظم الوعي الإيكولوجي أكبر. صحيح أن هذا الحركات نشأت في دول الشمال منذ الستينات لكنها امتدت إلى بلدان الجنوب وأصبح لها تأثير في سياسات دولها وحكوماتها[29]. ومن الملاحظ أن انتماء القائمين الأساسيين على عملية التعبئة البيئية، كشكل من أشكال العمل السياسي، هم في بلدان الشمال في أغلبهم من الطبقة الوسطى، وبالتالي، فإن مطالبهم تتجاهل نسبيًا المطالب الاقتصادية. أما في بلدان الجنوب فيشمل الانتماء المجتمعات المحلية سواء من المزارعين أو السكان الأصلين أو مجموعات عرقية معينة، وكذلك بعض امتدادات منظمات عالمية كالسلام الأخضر أو تلك التابعة لبرامج الأمم المتحدة. وتتركز المطالب لدى هذه المنظمات على سبل العيش والرزق المهددة نتيجة تدهور البيئة[30]. إن كلاً من الاتجاهين في المطالب ضروري، لكنّ التنسيق بينهما ضروري أيضًا لأن الترابط بين المحلي والكوكبي هو أحد الخصائص الرئيسية للمشكلات البيئية. إن الترابط بين المحلي والكوكبي يتطلب "عولمة الاحتجاج البيئي" وهذا الأمر يتم من خلال العمل بأسلوب الشبكات، خصوصًا أن وسائل الاتصال والإعلام والتطورات في مجال تداول المعلومات تتيح تنسيق الأفعال وذلك من خلال توثيق التأثيرات وحشد الرأي العام وحشد الموارد والمشاركة في الاحتجاجات بحيث تتمكن شبكات العمل الإيكولوجي من دعم وإسناد جميع القضايا المحلية أو الكوكبية[31]. يحاكي النموذج الشبكي في التنظيم ما نجده في المنظومات الإيكولوجية من تآثر وتفاعل يأخذ شكل الاعتماد المتبادل. لكن المجتمع البشري يختلف عن المنظومات الإيكولوجية التي تكون السيرورات فيها طبيعية ضمن الشبكة. ففي المجتمع البشري يكون الوعي الإيكولوجي هو الحافز الأساسي لشبكات العمل في نشاطها وفعالياتها من أجل تحقيق أهدافها. ولذلك يجب أن تختار الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف بالانسجام مع القيم الإيكولوجية والمبادئ البرنامجية التي ذكرناها. والسؤال الأساسي الذي تطرحه مسألة الأساليب النضالية في تحقيق الإيديولوجيات هو: الثورة أمْ الإصلاح؟ الثورة تعني التغير المفاجئ والانقلاب السريع، وهي بؤرية تحدث في مركز ثم تنتشر، والإصلاح يعني الاعتماد على خطوات متدرجة تشمل تغييرات بطيئة. هنا يجب أن نضع في منظورنا مسألتين: الأولى، أن الوعي الإيكولوجي يهدف إلى غاية بعيدة المدى هي سيادة النظرة الإيكولوجية إلى العالم باعتبارها تمثل حقبة جديدة من التاريخ. والثانية، أن الوعي الإيكولوجي، إذ يفتقد الحامل الاجتماعي الواضح، أي يفتقد المصلحة المباشرة والقريبة، يتطلب التوعية والتثقيف للوصول إلى إدراك أن المصلحة المشتركة في البقاء تعلو على المصالح الأخرى، وسيرورة التوعية والتثقيف ليست مما يتم في أمد قصير. من جهة أخرى، إن النموذج الشبكي في التنظيم لا يتيح وجود بؤرة للثورة، بل انتشارًا للبؤر وتوزعًا لها، مما يقتضي الانسجام والتناغم في عملها وليس الانقلاب المفاجئ. للأسباب السابقة ربما نقول مع آرني نيس إن أسلوب النضال الإيكولوجي "ثوري في توجهه وإصلاحي في خطواته."[32] فعلى صعيد الممارسة يمكن أن يأخذ أسلوب النضال الإيكولوجي "طابعًا ثوريًا" من خلال الحملات والانتفاضات والاعتصامات ضد أخطار تقتضي علاجًا سريعًا (التخلص من نفايات نووية من دون معايير سليمة، إقامة مصنع أو منشأة في موقع طبيعي ذي أهمية إيكولوجية عالية...)، ويمكن أن يتخذ أيضًا "طابعًا إصلاحيًا" من خلال الأسلوب المطلبي والسعي الدؤوب إلى إجبار الحكومات وأصحاب الأعمال والنشاطات الاقتصادية على إتباع سياسات وإصدار قوانين ومراسيم وتخصيص موارد مالية مما يتصل جميعًا بالقضايا البيئية.[33] تبقى مسألة الآخر الإيديولوجي الذي يتوجه إليه النضال الإيكولوجي. فهل وجود مصلحة مشتركة في البقاء تعني غياب هذا الآخر؟ لقد ذكرنا أن شبكات العمل الإيكولوجي هي حامل الوعي الإيكولوجي وأن هذا الوعي هو الذي يحدد الذات الإيديولوجية. وعلى هذا الأساس أيضًا سوف يتحدد الآخر الإيديولوجي بأنه من لا يحمل مثل هذا الوعي؛ إما لأنه لا يعرف حقائق الإيكولوجيا والأخطار المترتبة على الأزمة البيئية أو لأنه يعرف ولكنه لا يريد الالتزام بما يترتب على هذه الحقائق بسبب تعارض مصالحه المباشرة والآنية معها. تتطلب الفئة الأولى أن تبذل شبكات العمل الإيكولوجي جهودًا في سبيل توسيع دائرة التوعية والتثقيف لكسب المؤيدين والأنصار من هذه الفئة. وتتطلب الفئة الثانية إقناعها بالحوار أو قسرها بالضغط في حال الممانعة. ٭ من كتاب: من البيئة إلى الفلسفة، تأليف معين رومية، معابر للنشر، دمشق، 2011. [1] رشيد مسعود، إيديولوجيا (علم الأفكار)، الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الأول (المصطلحات والمفاهيم)، ط1، تحرير: معن زيادة، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1986، ص 164. [2] المرجع نفسه، ص 164. [3] مسعود، مرجع سابق، ص 168. [4] ناصيف نصار، الإيديولوجيا على المحك، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 1994، ص 106. [5] المرجع نفسه، ص 110. [6] جيدنز، بعيدًا عن اليمين واليسار، ص 244، 246. [7] De-Shalit, Avner, Is Liberalism Environment-Friendly?, in Zimmerman et al., op. cit., p. 403. [8] أسامة الخولي، البيئة وقضايا التنمية والتصنيع، سلسلة عالم المعرفة، العدد 285، الكويت، 2002، ص 19. [9] المرجع نفسه. [10] De-Shalit, op. cit., p. 404. [11] De- Shalit, op. cit., pp. 404, 405. [12] Ibid., p. 406. [13] Ibid. [14] De- Shalit., op. cit., 406, 407. [15] Ibid., p. 419. [16] عصام الزعيم، المسألة البيئية: مقاربة دولية نقدية، ت: نبيل مرزوق، مجلة النهج، السنة الثامنة، العدد 35 – 36، مركز الدراسات والأبحاث الاشتراكية في العالم العربي، 1991، ص 74، 76. [17] O'Connor, James, Socialism and Ecology, in Zimmerman et al., op. cit., p.423. [18] O'Connor, op. cit., pp. 423-424. [19] اللجنة العالمية للبيئة والتنمية، مستقبلنا المشترك، ترجمة: محمد كامل عارف، عالم المعرفة، العدد 142، الكويت، 1989، ص 63. [20] O'Connor, op. cit., p. 424. [21] Ibid., pp. 425, 433. [22] Devall , Deep Ecology, op. cit., p. 70. [23] Ibid., p.71. [24] Naess, Arne, The Deep Ecological Movement: Some Philosophical Aspects, in Zimmerman et al, op. cit., p. 188. [25] Ibid., 189. [26] Ibid., 190. [27] Devall, op. cit., p.72. [28] Devall, op. cit., p.73. [29] رانجيت دويفيدي، الحركات البيئية في الجنوب الشامل، ت: شهرت العالم، الثقافة العالمية، العدد 111، مارس-إبريل، الكويت، 2002، ص 11، 92. [30] المرجع نفسه، ص 99، 101. [31] المرجع نفسه، ص 194. [32] Naess, op. cit., p. 156. [33] حول هذه الأساليب انظر: فيركيد، أوليفيا، محاربو قوس قزح، ت: عدنان جرجس، الثقافة العالمية، ص 76-91. دويفيدي، مرجع سابق، ص، 100، 103. |
|
|