جون بيرجر حرٌّ كالريح وطنه الوحيد هو اللغة

محمد سيف

 

وضع الكاتب والناقد جون بيرجر حقائبه في قرية من قرى منطقة الهوت سافوا الفرنسية، حيث يعيش ويعمل هناك على إيقاع الطبيعة، بعدما ترك موطنه الأصلي بريطانيا منذ خمسة وثلاثين عامًا. لم يدر بيرجر ظهره للعالم، ولم ينعزل عنه، لأن ممارسة الأدب بالنسبة إليه عمل من أعمال المقاومة.

في فرنسا لم يُكتشَف إلا متأخرًا، لأنه بكل بساطة يعيش على سفح من سفوح جبال الألب. لم يترك نفسه عرضة للترويض، فهو حرٌّ مثل الريح، يقول: "إن وطني الوحيد هو لغتي". ظل هذا الكاتب يبحث عن التغيرات التي تحدث فوق سطح الأرض، فكتب عن المنفى والهجرة وتحركات السكان التي لاحظها بشكل مبكر باعتبارها ظاهرة أساسية ومؤثرة فلسفيًا في القرن العشرين. وعندما حصل على جائزة "بوكر"، استخدم نصف المبلغ الذي تسلمه فأنتج مع المصور السويسري جان موهر، كتاب الرجل السابع عن العمال المهاجرين في أوروبا، الصادر عن دار "ماسبيرو" عام 1976، أما النصف الثاني من المبلغ فأهداه إلى حركة "الفهود السود"، وهذا ما أثار ضجة كبيرة.

جون بيرجر، رجل واحد وليس رجالاً عدة، مع ذلك يرسم ويخطط، ويكتب رواية ودراسة عن غويا وتيتيان، ويراسل بشكل متواصل جريدة "لوموند ديبلوماتيك"، ويلتقي باللاجئين الفلسطينيين، ويكتب دراسة عن صديقه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، الذي ترجم شعره إلى اللغة الانكليزية. إلى كتاباته الأدبية والفنية التي تلاقي نجاحًا كبيرًا في الجامعات الأنكلوسكسونية، يعمل في مجال السينما وخصوصًا مع المخرج السويسري آلن تانر.

يقول عنه سلمان رشدي: "إن جودة بيرجر العالية، أنه كان دائمًا قادرًا على أن يظهر لنا أن ما نراه يمكن أن يكون مغشوشًا". جون بيرجر، روائي غاية في الحساسية، أشتهر في السبعينات بنقده للفن الماركسي. لم يفصل بين الرسم والكتابة السياسية الملتزمة، وهو يجمع بين المعرفة الواسعة والملاحظة اليومية، التي تضيء الموضوعات التي يلامسها، في العديد من مؤلفاته: المنفى، الهجرة، والليبيرالية الجديدة، زوال عالم الفلاحين، ورواية الملك، التي يروي فيها يومًا في حياة مجموعة من لا مأوى لهم في ضواحي عاصمة أوروبية كبيرة.

ماذا تفعل عندما يحطم النظام حياتك، عندما تستنفد كل المحاولات القانونية والسلمية، وعندما تفهم أن انتصار الظلم أمر لا مفر منه؟ هذا ما يتضمنه نص قصير كرَّسه جون بيرجر لعمال المناجم في بريطانيا يوحي فيه بقوة إغراء الانتقام:

بطل من هذا النوع، أنا على استعداد لحمايته بكل الوسائل التي في طاقتي. ولكن تخيلوا أنه تحت سطح منزلي، وكان يقول لي إنه يحب الرسم، أو، لنفترض أنها امرأة ، وتقول لي إنها تحلم دائمًا بالرسم ولكن لم تتح لها الفرصة قط؛ وإذا كان الأمر كذلك، أعتقد أني سأجيبها، أو أجيبه: حسنًا، إذا كنت تريد، فإن المهمة التي تسعى إليها قد يكون في إمكانك تحقيقها بوجه مختلف [...] أنا غير قادر على أن أقول لك ما هو الفن، وكيف يمكن القيام به، لكنني أعلم أنه في كثير من الأحيان يحاكم القضاة، ويرافع من أجل نصرة الأبرياء والانتقام لهم، ويظهر معاناة الأجيال الماضية، وعندما يفعل ذلك، ينجِّي من النسيان. أعرف أيضًا أنه في بعض الأحيان ينتشر بين الناس مثل إشاعة أو أسطورة.

الرسم بديلاً من الإرهاب

عندما نقرأ نصًا نقديًا لجون بيرجر يتطرق فيه إلى أعمال أحد التشكيليين، نلاحظ أنه يريد أن يجعل الرسم بديلاً من الإرهاب، وذلك من خلال إعارته لنا نظرته الحساسة، وجعلنا نشاركه دقة ملاحظته. ثم، من خلال صياغته الكتابية، ومع جميع الاستطرادات العلمية وغير العلمية، يقودنا لاتباع فكرته، مبينًا كيف أن هذه الأعمال ذات صلة بالحاضر، مثلما يجعلنا نلامس بأصابعنا ما تعبِّر عنه وما تطرحه من أسئلة معاصرة. يقول:

صحيح أن اللوحة تنتمي إلى أرض نخبوية لكن الأرض تتوسع، على كل حال. عدد زوار المعارض يتزايد شيئًا فشيئًا في السنوات الأخيرة إلى درجة بتنا نشكو من عدم تمكننا من الوصول إلى اللوحة، وهذا على كل حال شيء غير عادي: إنهم ينظرون، وأعتقد أن بناء جسر بين العقل البشري و"الطبيعة" بأوسع معانيها حاجة عميقة جدًا للإنسان. والرسم يستجيب هذه الحاجة، لأنه يورط النظر حقًا، ويستجوب العيون من خلال هذا الذي أمامنا.

الفن لدى جون بيرجر، وسيلة لإثراء رؤيته للأشياء، لكنه أيضًا، وسيلة من وسائل الاتصال بطريقة خفية لبلوغ غاية ما، ومن نقطة إلى أخرى في الأرض، ومن حقبة إلى أخرى. يقول عن الرسام الفرنسي من القرن الثامن عشر جان سيمون شارادان، الذي يكثر الحديث عنه الآن، إنه عندما يبدأ باللوحة، يغطيها بنوع العجينة المصنوعة من أصباغ الطلاء. ينشرها على السطح ويشتغل عليها كثيرًا، ثم يدخل بعد ذلك، على هذه العجينة التي تمثل سطح اللوحة جوهر الكون. بلا شك، إن باقي الرسامين لا يشتغلون بالطريقة نفسها؛ لكن يبقى الرسم في اعتقادي على قدر عال من التواصل، مع الجوهر الغامض للعالم، والطبيعة، والحياة. في هذه الجوهرية تكمن الأشياء الأخرى: قوانين العلة والمعلول، الاحتكاك بين الرغبات والواقع، وهناك ضرورة لكل ما يولد: المأساة، وكذلك إمكان الحب. لكن وسائل الإعلام ليست على هذا النحو، وإنما هي مثلما تستخدم اليوم، تميل نحو فصل الروح عن الجسد، ولكل ما هو افتراضي: لكن ما هو الافتراضي؟ إنه الظواهر الواضحة والخالية من الجوهر. حيث الضرورة فيها غائبة، إذ يوجد في كل ما هو افتراضي نوع من الجنس الظاهري، وهذا كل شيء. النتيجة التي ينتجها، هي شعور عميق بالعزلة.

الملك

على غلاف كتاب الملك لجون بيرجر لا يوجد اسم مؤلف. "إنها رواية من الشارع"، يقول، "لقد استمتعت بالاستماع إلى كلام المجهولين الذين لم يُسمَع كلامهم، لذلك لم أوقِّع هذا الكتاب أو أضع اسمي عليه". يتحدث موضوع الرواية عن حفنة من لا مأوى لهم في مدينة سانت فاليري، ألبرتو، يواكيم، ألفونسو، فيكو، وفيكا، الذين يعيشون في ساحة خالية بالقرب من الطريق السريع، بين القمامة وجميع الكائنات البرية، والآلات المكسورة. يحكي الملك أربعًا وعشرين ساعة من حياة هؤلاء المهمشين. لكن من هو الملك؟ هو صوت الراوي. وهو في الرواية عبارة عن كلب، أو إذا كنا نفضل، وجهة نظر كلب في وحول هذه الإنسانية الهشة – من لا مأوى لهم – الذين يحاولون، في فجر القرن العشرين، أن يعيشوا أو بالأحرى أن يبقوا على قيد الحياة، في العيش وسط القمامة التي خلَّفها المجتمع الاستهلاكي. يمزج جون بيرجر في هذه الرواية السردي بالوثائقي بالسياسي، ويتحدث إلى الفقراء ومن أجلهم، لا نيابة عنهم. لذلك فإن اسمه لا يظهر على الغلاف.

يكاد موضوع الرواية أن يكون فخًا يصعب عدم الوقوع فيه، مع ذلك فإن الروائي لا يقع في شراك الواقعية البكائية التي تستجدي شفقة القارئ أو في فخ إعطاء المواعظ المقيتة.

من الألف إلى الياء

من وراء الجدران المغلقة الثقيلة، كزافييه متهم بتكوين خلية إرهابية تخطط للقيام بعمليات تخريبية لإثارة البلبلة وزعزعة النظام. هو محتجز في الزنزانة رقم 73، حيث يمضي عقوبة السجن مدى الحياة. إنه في دهليز أحد السجون التي يمكن أن تكون في أميركا اللاتينية أو في الأراضي المحتلة في فلسطين. يصمد ويتحمل قسوة السجن بفضل حبيبته عايدة التي ترسل إليه رسائل حب يحتفظ بها على رف داخل عبوات سجائر المارلبورو الفارغة. نلاحظ أن هذه الرسائل المليئة بالغضب والحنان كتبها بيرجر من داخل أحشائه، تخيلها ووضعها على الورق بطريقة تجعل العزلة أقل إيلامًا. رواية من الألف إلى الياء، عبارة عن مجموعة من الرسائل. إذًا ما هو نوع الرواية؟ على الرغم من أن الحب موجود في كل جملة من جملها، لا يمكننا أن نقول إن الحب هو موضوعها الأصلي، إنما يمكننا أن نعتقد أنها كتاب عن المقاومة أو عن التمارين الروحية. تبدو قصة كزافييه وعايدة بسيطة، وتشبه إلى حد كبير القدر المحتم. هو مسجون وعايدة حرة. إذًا هي تكتب إليه بعض الكلمات من خلف الأحرف. كما لو أن كل شيء يجري في هذه الرواية من خلف شيء ما، من خلف الجدران، ومن خلف الكلمات. سرد عايدة اليومي يملأ فراغ كزافييه، لكن الخيال وحده يصعب عليه أن يملأ الفجوات والثغر التي يخلِّفها السرد في صوت واحد، والحوار في اتجاه واحد، والمحادثة التي تكاد أن تكون مريبة، على رغم أن الصور التي فيها لا تفشل في استحضار العمل الرائع لجون بيرجر، وتجعله حاضرًا.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود