|
قراءة في لوحات لسعد يكن
أغلبُ لوحات "سعد يكن" بانورامية، جلساءُ مقهى ليليٍّ، روَّادُ صالة غناء أو مسرحية. إنها بانورامية ومتداخلة بزوايا تكاد تكون هندسية تحت انهمار حزم إضاءة جامدة. ثمة تقاطيعُ نحيبية تحدِّدُ الوجوهَ الغائرة مدهوشة ومضغوطة، ثمة فواصلُ خطيةٌ نحيلة قوية، وثمة جموعٌ برؤوس شبه متماثلة تموج وتختلط أطرافُها المتطاولة تحت ضوء بارد. حدَّةُ الضوء تكشف عن عزلة ووحشة ضاريتين، عن اختلاط ضروري صعب وانطواء أصعب مرير، لكن التموج كالاختلاط يعيد العزلة ويكررها ويحفرها حتى تصبح أرقَّ وأكثر غورًا وإحاطة وقربًا. قربٌ لا يلمس قدر ما يتفتت داخل حيِّز تشارك عسير، رغم نقائه اللوني الحاد. كأنما للنقاء المأمول وزنًا ثقيلاً داخل اليد التي تشوَّهتْ وأمام العين التي فقدتْ رغبتها في النظر فتقعَّرتْ وغارتْ، اسودَّتْ وتحجَّرتْ، صارت مرميةً ومرئية في مرتبة واحدة من السطوع الكتيم وشدة القسوة والمرارة.
إنها العزلة التي لا تلغي النعومة المحزنة، والقسوة التي تسأل الرأفة البعيدة، وتسأل الغاية المرتجاة، إذْ ثمة إحساسٌ بدنوِّ نهايةٍ لا تنتهي، واقترابِ فجرٍ لا يسيل. الوجهُ مرآة، غير أن النظرة في الوجه مكلومة، ممزقة ومتعاكسة وحائرة، إنْ لم نقل ممتلئة تصدُّعًا وجرحًا وممتلئة إهانة وضعفًا وترديًا وخورًا وندمًا. الأطراف تتطاول وتبدو الأظافر أقرب إلى مخالب وبراثن. إنه هذا الغور الذي يكشف نزيف الحيواني داخل الإنساني ويتغطى به حتى يتحول إلى قناع لا يلبث أن يهرأ وينقسم ويتماثل تحت سطوع الضوء الذي يوحِّدُ المرئيَّ إذ يعرِّيه طبقة بعد أخرى.
هذه كائناتٌ من مشاعر فحسب، إذ ليس هنا من كتلة جسدية حقيقة ولا كثافة عضوية متماسكة. لذا يبدو الضوء أقرب إلى شعاع مخبري لا يبقي من الكائن سوى الجوف الذي يزداد بياضًا وهشاشة كلما إزداد سطوعًا وقربًا. كأنما هي في طور الاعتراف الذي لا يشفي والكشف الذي لا يحدُّ ولا ينتهي. هي إذنْ معلقة داخل دوائر محفورة، كما لو أن الحفرَ يزيدها بُعدًا وكتامة مقطعية. تتشابه الرؤوسُ والأضواءُ المسلَّطة عليها، تتكرَّر بشكل زجاجي صقيل يوحي بالبرد والقسوة وخواء المسافة والحميمية المفتقدة دومًا والمتمناة دائمًا. إنها القسوة التي لا تسمح بالتعدد قدر ما تعيد العزلة وتضخِّمها هيئاتٍ خاوية ومفزعة، لكنها مكلومة وبلا سند. هكذا يكون الجمعُ في المقهى واحدًا وبلا فم، كثيرًا وبلا حيِّز، ممتلئًا وبلا دفء. هو إذنْ عالمٌ هشٌّ مصدوم ويستدعي تعاطفًا يحمله وقربًا يدنيه. ربما لذلك يأتي الضوءُ أكثر برودة، وأشد عريًا. ضوءٌ بلا ظل، ساطعٌ واحد ومباشر وضيق في آن. لم يكن هذا عالمَ اللون المتموج والرقيق والمحلق كما في لوحة أقدم تحتفي بالمغني الحلبي التراثي الشهير الراحل "صبري مدلل"، الذي يظهر ويترافق مع نفسه في ثلاث صورٍ طيفية غائمة، على خلفية قوس قزحية داكنة. يبدو المطربُ الشيخ، مخمورًا بالموسيقى التي تصفِّي كيانه ويصفو بها، أشبه بطائر داخل صوته الذي ينجب أطيافًا حوله كما لو في منامات صوفية هائمة. إنه يتكاثرُ ويبقى وحده، يهيمُ ولا يجد، يطيرُ ولا يصل، لكنه مغمور بما يحبُّ ويشتهي ويأمل: الخفَّةُ والارتعاشُ، الوجودُ في الصوت الذي لا ينتهي، كما لو أن تموُّجَ الصوتِ النشوان قد عثر على بيتٍ له في ألوان كالغيوم ومرايا تعيد إليه وجهه في أكثر من وجهٍ وحالة. ربما يكون الصوتُ مصدرَ لوحات سعد يكن لا اللونُ، الفراغُ لا الامتلاء، الوحدةُ لا الكثرة. ثمة مزاجٌ صوفيٌّ هنا، غير أن لوحاتٍ أخرى تطير كائناتها لا تقفُ عند حدِّ الصوفية الملتبس والمغري، بل هي تنشد الإغراءَ والانجذابَ اللطيف. إغراءٌ أقربُ إلى مزحةٍ، كما في لوحة تظهر مغنيَّات بصحبة عازفين في هيئات ضخمة ومائلة ومحلقة في آن. هي مشوَّهة، نَعم ، لكنها مرحة. هنا يتحول اللونُ إلى قناع آخر، إنه يظهر مدى الخفَّة التي يمكن أن تحملَ ثقلَ الكائن الكوميدي، الكائن الذي تحوَّل إلى عرضٍ ساخر، الكائن الذي يعريه صوته، ويمنحه فرصة أن يتعرَّى كلونٍ يجذب الصوتَ نحو منطقة تتماثل فيها الرغبةُ مع التهريج، والمزحة مع العري، والحقيقة الكتيمة مع النبرة الأقسى. كلُّ شي لطيف هنا وممكيج ومغناج وهائم، كما لو أن صوتًا مدفونًا قد وقع وانكسر وأنجب داخل وقوعه اللونَ والذكرى صامتيْن ضاحكيْن، عن ألمٍ، متحدّين كطفلٍ يثب هاربًا داخل مرآة. *** *** *** |
|
|