|
أمل في أزمنة مظلمة٭
أُقرُّ بوجود الطاقة التدميرية، لكنها زائلة وعقيمة دومًا أمام الإبداعي الذي هو
الدائم. فإذا كان للطاقة التدميرية اليد الطولى، فستنهش كل الروابط المقدسة – الحب
بين الأبوين والطفل، الأخ والأخت، السيد والتابع، الحاكم والمحكوم.
يكفي أن يعبس الرأي العام في وجه العنف حتى يفقد كل قوته.
حين بدأت هذه الكتابة، توجَّه مئات الشباب من أمريكا الشمالية وأوروبا وأمكنة أخرى إلى أمريكا الوسطى وغيرها من المناطق لحماية العاملين في مجال حقوق الإنسان المهددين بوجودهم. وما زال عمل هؤلاء الشباب مجهولاً على نطاق واسع للجمهور الأمريكي، كما تصمت وسائل الإعلام صمتًا مُطبقًا على هذه التجربة الرائعة. ومع ذلك، إنهم موجودون هناك. كارين ريد واحدة من هؤلاء الشباب. ففي العام 1989، كانت كارين وأربعة من المتطوعين الدوليين يعملون ضمن مجموعة تُدعى ألوية السلام الدولية PBI عندما وقعوا على حين غرَّة في قبضة الحرس القومي السلفادوري. كان ثلاثة مواطنين إسبان من بين الخمسة، فأُبعِدوا على الفور، تاركين كارين الكندية وصديقتها مارسيلا رودريغويز الكولومبية لمواجهة القادم من الأمور. ولحسن الحظ توفَّر وقت لكارين للاتصال بالقنصل الكندي وتنبيه متطوع آخر في مجموعة PBI صدف أن اتصل في اللحظة المناسبة. كان هذا مبعثًا للراحة إلى حدٍّ ما، مثلما كانت الكياسة – في البداية – من الجنود؛ فلا أحد من الفريق كان قد تعرَّض للاعتقال من قبل (حتى هذا التاريخ، لم يُقتَل أي متطوع دولي في أمريكا الوسطى رغم العنف الهائل الذي يشمل كامل البلاد). سمعت مارسيلا من غرفة أخرى الجنود يصفونهما بالـ"إرهابيتين من الكنيسة الأسقفية البروتستانتية"[1]. ولم ترتفع معنويات الامرأتين، ومحتجزين آخرين معهما، عندما حمَّلوهم في شاحنة وساقوهم معصوبي الأعين إلى ثكنة عسكرية، حيث خضعوا لتحقيق استمر خمس ساعات حول صلتهم المزعومة برجال العصابات FMLN، بينما كانت أصوات التعذيب ونشيج الضحايا يأتي من الغرف المجاورة. كانت كارين تعرف أن PBI ستُنذر سريعًا شبكتها عبر العالم بشأن الاعتقالات لكنها كانت تعرف أيضًا أن الوقت كان قصيرًا – لم يكن هناك ما ينمُّ عما سيحدث في تلك الثكنة إن لم يخرجهم أحد ما قبل حلول الظلام. وفي الواقع، نشَّطت PBI شبكتها العالمية، فأُرسِلت مئات الفاكسات إلى السفارتين الكندية والكولومبية، واتصالات هاتفية ورسائل إلكترونية إلى ممثليهم للحثِّ على إطلاق سراح كارين ومارسيلا فورًا. لكن هذا كله لم يلقَ أي استجابة على الإطلاق من السفارة الكولومبية، لكن كندا مارست ضغطًا رسميًا على الحكومة السلفادورية، ولمَّحت بصورة لا تقبل الشك إلى أنَّ علاقاتها التجارية الواسعة مع السلفادور يمكن أن تتعرض للاهتزاز إن لم يُخلَ سبيل كارين على الفور. مهما كان ما أُنجِز، ولأي شخص كان، فقد كان عملاً مسؤولاً. وهكذا وجدت كارين نفسها تعبر ساحة الثكنة بعد بضع ساعات وبانتظارها موظف في السفارة: لقد أصبحت امرأة حرَّة. لكن عندما أزال الجنود العصابة عن عينيها داخل الثكنة، اختلست نظرة إلى مارسيلا ووجهها إلى الجدار: "صورة كاملة للتجريد من الإنسانية"[2]. وبقدر ما كانت كارين سعيدة لكونها على قيد الحياة، إلا أن شيئًا ما انقبض فيها. إنه شعور فظيع؛ فاعتذرت إلى المسؤول الكندي الساخط الذي كان قد تجشَّم عناء السفر من سان سلفادور لكي يصل إليها، واستدارت عائدة إلى الثكنة، غير عارفة بما سيحدث لها هناك، لكنها كانت تعلم أنه لا يمكن أن يكون هناك ما هو أسوأ من التخلِّي عن صديق بأمسِّ الحاجة إلى المساعدة. بُوغت الجنود، وشعروا بالسخط؛ فقاموا بتقييدها من جديد. وفي الغرفة المجاورة كان أحد الجنود يضرب رأس مارسيلا بالجدار ويقول إن "عاهرة بيضاء" كانت غبية بما يكفي لأن تعود إلى هنا، "والآن سترين المعاملة التي يستحقُّها الإرهابي!". لم يعد الرجال لطفاء، لكن بادرة كارين تركت أثرًا غريبًا في نفوسهم. لقد تحدثوا إليها مُكرَهين، وهي حاولت أن توضِّح لهم السبب الذي جعلها تعود: "أنتم تعرفون ماذا يعني أن تُفصَل عن رفيق" – أثَّر فيهم ذلك. وبعد وقت قصير، أُفرِج عن كارين ومارسيلا، وخرجت الامرأتان معًا تحت النجوم، يدًا بيد. القصة تتحدث عن نفسها، ولكن لا ضير من توضيح ما تعني. لقد قامت كارين بما غيَّر عقول بعض الجنود غير المتعاطفين والمجرَّدين من إنسانيتهم إلى حد ما. ما معنى ذلك؟ وهل هو أمر يمكننا تعلمه من أجل ممارسته؟ إنه كما لو أنَّ هشاشة حالها وضع بين يديها نوعًا من القوة التي صنعت معجزة صغيرة، بالرغم من أنَّ كارين لم تكن قد أخذتها بالحسبان. فعندما رجعت إلى ذلك المكان الجهنمي لم تكن قد فكرت في كيفية ردِّ فعل الجنود – كانت تعرف فقط أنه لا يمكنها التخلي عن صديق. حوادث مثل هذه (وهي ليست نادرة) لا تُذكَر عمليًا في وسائل الإعلام السائدة على الإطلاق، ولا ما كان يفعله المتطوعون الدوليون في أمريكا الوسطى والخليل وهاييتي وسري لانكا وإيرلندا الشمالية، إلخ. فالحقيقة هي أن طريقتنا المعتادة في التفكير بشأن الصراع لا تقدِّم تفسيرًا جاهزًا لمثل هذه الحادثة. فعندما، وإذا، تحولنا ضد العنف، تصبح لدينا لصاقات صادَّة تشجعنا على "ممارسة أفعال شفقة عشوائية وأفعال جمال فارغة المعنى". لكن شيء ما يتواصل هنا، وهو ليس عشوائيًا ولا فارغًا من المعنى. ثمة نوع من المنطق لحوادث كهذه، ونحن لا نألفه ببساطة. على أية حال، وفي حقل البحث السلمي الناشئ، بدأ الناس في تجميع ديناميات مثل هذه الحوادث. أحد الباحثين الأوائل في مجال السلام في القرن العشرين، هو كينيث بولدينغ، حين اقتربت نهاية مهنته الموسوعية الثقافية، طوَّر نموذجًا بدا وكأنه يوضح الموقف بصورة جيدة جدًا. وبولدينغ، الكويكري[3] والاقتصادي البارز والشاعر الذي كان ذات مرة رئيسًا للأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم الرفيعة المستوى التي ساهمت مساهمة هائلة في بحوث السلام، كتب حين قارب نهاية حياته كتابًا دعاه ثلاثة أوجه للقوة[4]. فنحن، كما جادل، لا نعمل بطريقة الجزرة والعصا فقط: نحن نجعل الأمور تعمل بثلاثة أنواع مختلفة من محاولات إقناع نمارسها على من حولنا. وقد دعاها القوة التهديدية: "افعل ما أريده وإلا سأفعل ما لا تريده"، والقوة التبادلية: "أعطني ما أريده وسأعطيك ما تريده"، والقوة التكاملية (التي سأعيد صياغتها على النحو التالي: "سأفعل ما أعتقده صائبًا وجديرًا بالثقة، وسننتهي في النهاية إلى أن نصبح أكثر قربًا"). وكل الأنواع الثلاثة تلعب دورها الخاص في سلسلة الأحداث المترابطة التي نأخذها بعين الاعتبار – وقد سارع بولدينغ مضيفًا أنَّ مثل هذا الخليط يشبه سير الحياة الواقعية عادة. ومن الواضح تمامًا أن الجنود السلفادوريين كانوا يستخدمون فقط القوة التهديدية. وقد اعتمدت الحكومة الكندية أيضًا على قوة تهديدية من نفس النوع، لكنها اعتمدت أكثر على القوة التبادلية نظرًا إلى أنها لمَّحت إلى انسحابها من المعاهدات التجارية ما لم تحصل على ما تريد (فبالإضافة إلى التجارة الاقتصادية، كان هناك وسيط تبادل غير ملحوظ من احترام وشرعية متضمن دون شك أيضًا). لكن كارين استخدمت النوع الثالث، وهو شكل غير مألوف يدعى بالقوة التكاملية. ولا داعي لأن نتفاجأ كثيرًا إذا كنا مرتبكين في تفسير كيفية عمل هذه القوة. فكما أشار بولدينغ: القوة التهديدية خصوصًا هي محط اهتمام العلماء السياسيين، والقوة الاقتصادية من اهتمام الاقتصاديين... [لكن] يبدو من دراسة القوة التكاملية أنها لا تنتمي إلى فرع خاص من فروع المعرفة[5]. فلنباشر في منظومتنا الخاصة مبتدئين بهذا الإقرار: إنَّ إحدى أقوى حاجات الحيوان البشري هي التكامل والترحيب والتجمُّع والصُّحبة. ففي كتابها البحث في الطبيعة البشرية، أشارت صديقتي وزميلتي البيولوجية ماري كلارك إلى أن جميع الكائنات البشرية تكافح من أجل ثلاثة أمور تتجاوز الغذاء واللباس والمأوى وهي: 1. الترابط (بمعنى القبول غير المشروط من قبل الكائنات البشرية الأخرى). 2. الاستقلالية (أو حرية السلوك الفردي). 3. المغزى (بمعنى إحساس بالغاية في الحياة). وأعتقد أنَّ كلارك فعلت حسنًا بوضع الترابط في المقام الأول. ما صاغه ويليام بلاك بشكل جميل في زواج الفردوس والجحيم حين قال: "الطائر عش، العنكبوت شبكة، الإنسان صداقة"[6]. لدى كل شخص هذه الحاجة، بل حتى الأشكال "الدنيا" من الحياة تُبدي ميلاً جارفًا نحو تشكيل تجمُّعات، مثلما يُدرك جيدًا علماء الحياة. في الحقيقة، وقبل فترة طويلة من توثيق علماء النوع الحديثين هذا الدافع، جعله القديس أوغستينوس أساسًا لنظرية السلام التي طورها في عمله الكلاسيكي البارز مدينة الله. وفي المقطع التالي، وحسب معرفتي كانت هذه هي المرة الأولى في الحضارة الغربية التي يكون فيها السلام موضوعًا أكثر منه مجرد إشارة عابرة، فقد لاحظ أوغستين أنه حتى الحيوانات تشكِّل عائلات ومجتمعات من النوع نفسه لكنه على درجة أكبر لدى الإنسان؛ فبحسب القوانين ذاتها لطبيعته يبدو، إذا جاز التعبير، أنه مُجبَر على العلاقة، وبحسب أوضاعه، على السلام مع كل إنسان.[7] (التوكيد من عندي) عن طريق قانون الطبيعة هذا امتلك فعل مثل فعل كارين قوة. لقد أزالت الغشاوة عن أعين الجنود فيما يتعلق بإنسانية مارسيلا من جهة، ووفرت لهم فرصة الإفلات من حالاتهم العدوانية الخاصة من جهة ثانية. وبسب هذا القانون تُحركِّنا دائمًا قصص المصالحة، وخاصةً حين تأتي بعد عزلة مريرة. فكِّر في الحاكم السابق جورج والاس وهو يتوصل إلى إعادة تشريع مسيرة الحقوق المدنية من سيلما إلى مونتغومري ليعتذر عن نزعته العنصرية السابقة. أو، في وقت أبكر نوعًا ما، صورة غلاف التايم للبابا يوحنا بولس الثاني وهو يمسك بيد محمد علي آغا، الرجل الذي حاول اغتياله قبل سنتين. من قد لا تهزه مشاهد كهذه؟ فرغم أنَّ الجنس البشري يرتكب أفعال كراهية مؤثِّرة وشيطنة للآخر، ما زالت هناك، على ما يبدو، حاجة أساسية في داخلنا من أجل التجمُّع، ومن أجل تكامل قائم على إنسانيتنا المشتركة. بوسعنا كبح هذه الحاجة لكننا لا نستطيع القضاء عليها كليًا. اللاعنف هو علم مناشدة تلك الحاجة. لأنَّ الكائن البشري، حسبما سمَّاه أرسطو، "حيوان اجتماعي" يلتمس الصحبة مع الكائنات البشرية الأخرى رغمًا عنه. لهذا السبب يكون السجن الانفرادي أسوأ شكل من أشكال العقاب حتى بالنسبة لأقل الناس اجتماعية. ولهذا، بالمقابل، يمكن لأيٍّ كان يمتلك الشجاعة أن يقدِّم لخصومه مخرجًا من نزاعاتهم، وأن يجد نفسه مستخدِمًا قوة غير متوقعة. ما العنف؟ يمكن تحليل نموذج "الوجوه الثلاثة" إلى إحدى قوتين متعارضتين يمكننا ببساطة أكثر أن ندعوهما، تقليديًا: العنف واللاعنف. وللقيام بذلك علينا استحضار كلمات لا تقل وضوحًا عن الكريستال. تتحدَّر كلمة "عنف Violence" من الجذر Violare في اللغة اللاتينية الكلاسيكية. وفي ذلك إفادة، لأن الإيتيمولوجيات[8] (الاشتقاقات) غالبًا ما تتيح لنا التمعُّن في زمن كانت فيه بعض الأمور مفهومة على نحو أكثر فطرية مما هي الآن. وتعني Violare "يُكرِه بالقوة"، وفي المرحلة الكلاسيكية أصبحت تعني "يؤذي، يُهين، ينتهك حرمة، يُدنِّس"[9]. ومثل كل الكلمات ذات الأهمية، أخذت كلمة "عنف" معانٍ مجازية متسعة. فنحن نتحدث عن "عاصفة عنيفة"، أو نقول "تعرَّضت سيارتي لصدمة عنيفة عندما وقعت في أخدود"، لكن ليس هذا هو العنف الذي يهمنا في هذا الكتاب. فحتى السلوك الضاري للحيوانات ليس حقًا ذلك النوع من العنف؛ فربما يكون الأسد قاسيًا على حَمَل، لكن تلك هي إحدى الطرق التي تجري بها الطبيعة. فالأسد لا "يُهين" أو "ينتهك حرمة" أو "يغتصب" الحمل، إذ إنَّ دوافعه الغريزية هي التي تدفعه للقتل، وهذا ليس خيارًا ولا يدعو للشفقة، وليست هناك من مدارك تتُجِلُّ الرابطة بينه وبين الحمل كمخلوقات حيَّة؛ فالحيوانات تمتلك نطاقًا واسعًا من العواطف لكن السخط المُبرَّر أخلاقيًا ليس من بينها، بقدر ما بوسعنا أن نقول. العنف الذي أقصده ظاهرة بشرية. فنحن نكون عنيفين عندما نُلحِق الأذى بأيِّ شخص آخر أو، بدقة أكثر، بأيِّ جزء من محيط الحياة المترابط (البيوسفير). وإذا رفعنا ذلك الإحساس بالترابط المقدس الذي يؤذيه العنف إلى أسمى درجة، حينها يمكننا القول، مع المقاتل في المقاومة الفرنسية جاك لوسيران: "الله هو الحياة، وكل ما يفعله العنف في هذه الحياة معادٍ لله"[10]. فالحيوانات تتنافس فيما بينها، وتفترس بعضها بعضًا، لكنها تقوم بذلك بطريقة متوازنة ومتناغمة ومنظمة على نحو غامض، ويمكن أن تستمر بصورة غير محدودة – ما يعني باختصار، قابلية إطالة البقاء. لكن البشر ليسوا كذلك؛ فعندما نفترس بعضنا البعض يحدث شيء ما مروِّع، فقد أدت الاستباحة إلى دمار مجتمعات برمتها. بهذا المعنى، يكون التعدي على نظام الأشياء هو وحده الذي يجعل البشر عنفيين أو لاعنفيين. والآن، يجب أيضًا تحديد مفهوم العنف، بوصفه أذى، بطريقتين. الأولى تقول إنَّ إيذاء شخص لشخصٍ، أو لشيءٍ، بالصدفة ليس عنفًا حتى بالنسبة للكائنات البشرية. والقانون يقرُّ ذلك. حيث يمكن أن يؤذي أحد الأشخاص شخصًا آخر بصور غير متعمدة، وأن يبقوا أصدقاء – وهذا يحدث طوال الوقت. لكن أن يتسبَّب أحد الأشخاص بأذى لشخص آخر عن قصد، فسيكون على أحدهما أو كليهما القيام بما من شأنه محو ذلك الأذى. وهذا العمل، على فكرة، هو جزء من العملية اللاعنفية. الطريقة الثانية، تترتب على إدراكنا بأنَّ العنف يمزِّق نسيج الحياة، فالعنف الحقيقي لا يكمن في الفعل وإنما في النية على الإيذاء ذاتها، وهذا هو بالضبط معنى الكلمة السنسكريتية بشأن العنف، himsa، وهنا يجب علينا الغوص بإيجاز في علم اللغة، من أجل توضيح نقطة أساسية. إنَّ كلمة Himsa (حيث يشير حرف "m" إلى صوت نفي كما "dans" في اللغة الفرنسية) تتحدَّر من الجذر "han" (بمعنى يضرب، يذبح)، ويُعتقَد أنَّ كلمة himsa هي شكل خاص لذلك الجذر. وربما هي مما يدعوه اللغويون التمنِّي الاشتقاقي؛ فهي لا تعني الفعل وإنما تعني الرغبة في، أو النيَّة على القيام بهذا الفعل، الذي هو في حالتنا الأذى. فعقل القدماء واقعي تمامًا حيث جاء: "قد سمعتم أنه قيل للأولين: "لا تقتل"؛ فإن من قتل يستوجب القتل، أما أنا فأقول: إنَّ كل من غضب على أخيه يستوجب الدينونة"[11]. في الحقيقة، نحن نؤيد لفظيًا فقط واقعية العقل هذه: ألم تُعلن منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة UNESCO أن "الحرب تبدأ في عقول البشر"؟ ومع ذلك، تعلِّمنا النقطة الأساسية استخدام تلك الحكمة الراسخة، وهكذا لا تعود مجرد بدهية تزخرف بعض المستندات الطنانة، بل تغدو مُمارَسة حقًا. وبالتالي، يبرز كل العنف في العقل. وللسبب ذاته، يمكن للأذى الذي يسببه العنف أن يكون نفسيًا أو روحيًا بالإضافة إلى كونه ماديًا وجسديًا، وهذا ما يقرِّبنا من جديد من الكلمة اللاتينية "يُدنِّس، يهين". هناك ما هو جيد وما هو سيئ في هذا الإدراك. سيئ لأنَّ من المُقلق أن نعي أنَّ بوسعنا أن نكون عنيفين في حين أننا ساكنون فحسب، أن نضمر أفكارًا سيئة دون أن نؤذي أحدًا جسديًا. هذا ليس مريحًا على وجه الخصوص لكن، مع ذلك، من الأفضل أن نكون واعين له إن كان حقيقيًا. إنَّ أغلب مقاربات العنف التي نأخذ بها حاليًا في الولايات المتحدة فاشلة. ومعظمها، حتى ولو نجح في احتواء المشكلة هنا، يزيد الأمور سوءًا هناك. إنَّ نظرتنا إلى الجريمة أدخلت المزيد من الناس السجن (في حين بالكاد تمسُّ بنسبة الجرائم في الشوارع)؛ وتبدو نظرتنا إلى السلام العالمي وكأنها تقود إلى سلسلة غير منتهية من الحروب؛ فـ"الحرب على المخدرات" و"الحرب على الإرهاب" هي حالات مُكلِفة وعنيفة. لذا من المريح جدًا أن نجد أنفسنا وجهًا لوجه مع المنبع الحقيقي للمشكلة، حتى إذا ثبت في النهاية أننا ننظر إلى مرآة. والقول بأنَّ العنف يبرز في العقل يخالف القول بأنَّ كل العنف له علاقة بإرادتنا الواعية. فهناك نوع من العنف نرتكبه دون أدنى وعي، وفي الحقيقة الكثير مما كان علينا أن ندعوه عنفًا لا يبرز من أية حالة عدائية محسوسة، وإنما من الرغبة السلبية، أو حتى اللاواعية، في استغلال الآخرين. هل القميص الأنيق الذي أرتديه آتٍ من مصنع يتمتَّع بكل متطلبات الراحة في ويسكونسن، أم من معمل معرِّق[12] في تايلند؟ هل ذلك الرجل المشرَّد هو ثمن نجاح شركتي أم ثمن الإنفاق العسكري لبلادي؟ هل دُمِّرت غابات الأمطار الاستوائية في بعض الأمكنة لتوفير الغذاء الذي أنظر إليه الآن في صحني؟ وما هو مقدار مساهمتي في غسل الأموال والفساد عندما أحتسي قهوتي اليومية في المقهى؟ لأن الاستغلال القائم على نظام اجتماعي يُدعى عنفًا هيكليًا، وهو مصطلح ندين به إلى باحث عظيم آخر في السلام يدعى يوهان غالتونغ. ورغم أن العنف الهيكلي واسع الانتشار جدًا اليوم بسبب الأسلوب الذي تعمل به الأنظمة الاقتصادية الحديثة، فمن المحتمل أنه وُجِد حالما نُظِّمت الكائنات البشرية في إطار مجتمعات معقدة. فعندما عرَّف البوذا الشخص اللاعنفي منذ قرون مضت استخدم العبارة الصائبة Na hante, na hanyate (هو أو هي من لا يقتل ولا يتسبَّب في القتل". هو أو هي من لا يتعاون بصورة واعية مع أي نظام يؤذي الحياة.) على أية حال، حتى في حالة العنف الذي لا ندركه تكون القضية الأساسية هي النيَّة. فهناك قول مأثور باللغة اللاتينية: Quad ultimum est in excutione, primum est in intentione "ما يتبدَّى في النهاية للعيان كفعل كان في البداية مجرد نيَّة". إنَّ الأطفال الذين يشبُّون في عالم قائم جزئيًا على العنف الهيكلي قد يستغرقون وقتًا طويلاً لإدراكه، وإلى أن يدركوا ذلك ربما يستفيدون بلا دراية من الآخرين: ولن يدعوهم أحد عنيفين بسبب هذا. فقط عندما يواصلون الاستفادة ببهجة، وبعدما يصبحون مدركين للأمر، يمكن تسميتهم، إلى حدٍّ ما، بالعنيفين، وقد يكون هذا هو أحد الأسباب التي تجعل الناس يقاومون تعلُّم ما له علاقة بالعنف. وسيكون من التضليل تسمية المشاركة غير المتعمدة في نظام خاطئ عنفًا، وبعبارة أخرى، يختلف الوعي المقموع عن الوعي الذي لم يكن قد بزغ إلى حينه. تكمن هذه الاعتبارات ضمن التعريف المفيد جدًا للعنف الذي وصلنا من غالتونغ: "العنف هو إهانة يمكن تجنبها بالقياس إلى الحاجات الإنسانية"[13]. هذا التعريف يُبقي، في المشهد، العنف المخفي أو "الهيكلي" الذي كنت قد وصفته للتو، عنفٌ يشقُّ طريقه عمليًا في مؤسسات كل المجتمعات المعروفة. لكنه يوحي أيضًا بأمر ما بالغ الأهمية حول ذلك النوع أو أي نوع من العنف؛ فعبارة "يمكن تجنبه" توحي بأنَّ الحياة يمكن أن تُعاش بدون مثل هذه الإهانات، وأنه يمكن تجنب كل أشكال العنف في عالم مثالي. وهذا صنف من الإيمان يتشارك فيه كل المعتقدين بإمكانية لاعنف واسع الانتشار في كل العصور، ولا يشمل زمننا الخاص. الأحداث تجري، والصراع حتمي، والنزاعات ستظهر بصورة عادية، لكن لا شيء من هذا يسبب عنفًا بالضرورة؛ فالصراعات والنزاعات يمكن حلها على نحو خلاق دون عنف لأن العنف شرٌّ لا ضرورة له. هنا أيضًا يمكن لنموذج القوة التكاملية أن يكون مفيدًا. فعلى المستوى العميق، من يرتكب العنف الحقيقي، أي من يغذِّي نية إيذاء شخص آخر يعاني من جراء النية ذاتها دون الاهتمام مطلقًا بعواقب أي عمل قد ينتج عنها. كلنا سمعنا عن اضطرابات الإجهاد ما بعد الصدمة PTSD، ولكن هناك مفهوم آخر يدرسه علماء النفس يُسمى ارتكاب إجهاد صادم حثّي PITS، بمعنى الأذى الذي نخلقه لأنفسنا عندما نؤذي الآخرين، حتى في وضع "شرعي" كالحرب[14]. العنف يقطع كلا الطريقين؛ فإذا تمزقت شبكة العلاقات بين طرفين سيشعر كلاهما بالتمزُّق (وفي الحقيقة، سيشعر به كل واحد في الشبكة بإحساس أكثر بعدًا). ما يعني أنَّ العنف هو قضية علماء النفس قبل أن يصبح قضية المشرِّعين أو الباحثين في علم الجريمة. ومرة ثانية كان القديس أوغستين هو من أدرك طبيعة العقل كما فعل ربما بضعة رجال آخرون في العالم الغربي، وصاغه بشكل جميل حين قال: تصوَّر أنَّ شخصًا ما يفكِّر بأنَّ عدوه يمكن أن يعامله بنفس القدر من الأذى العدواني الذي يضمره له![15] يمكن أن يُقدِّر كثير من الناس اليوم هذا المبدأ من خلال برهان طبي شامل على ما تفعله الكراهية بصحتنا، عندما نصبح عاجزين على الغفران[16]. وبأي تعريف ذي مغزى، فإن العنف ظاهرة تصرخ طالبةً تصحيحها، وتتعلق بما لا يمكن للكائنات البشرية في عالم مثالي أن تفعله ببعضها، أو بالبيئة أو أي من قاطنيها الأحياء. والأكثر أهمية هو أنَّ من المحتمل تمامًا أن يتوقفوا عن ممارسته إذا ما استطعنا بطريقة ما جعلهم يدركون أنهم يلحقون الأذى بأنفسهم وبضحاياهم. أبقِ هذه الفكرة في خلفية ذهنك لأنها المفتاح إلى طريقة جديدة كليًا للتعامل مع العنف – إنها المفتاح إلى عالم جديد نسعى إليه. ثلاثة منظورات في كافة أنحاء العالم تشتبك مجموعات غاضبة في صراع مرير لأنها غير قادرة على التواصل، وخصوصًا حول قضايا مثل المثلية الجنسية أو الإجهاض. إنها لا تستطيع التواصل لأنَّ إحدى المجموعات تنظر إلى القضية من خلال إطار أو نموذج سياسي بينما الأخرى تفكر فيها من خلال إطار ديني أو أخلاقي. وما نحن بحاجة إليه هو منطق يختلف كليًا، أو لنقل نافذة أو إطار مرجعي مختلف، نفكر بهذه المشكلات من خلاله، أو بمشكلة العنف بحدِّ ذاته. وسأوجز ثلاثة من تلك المنظورات، أو "العدسات" (إن استخدامنا مصطلح هوارد زِهر في كتابه الهام الصادر عام 1990، عدسات متغيرة): واحدة هي الأكثر شيوعًا من حيث الاستخدام؛ وواحدة أفضل وهي تدخل حيِّز الاستخدام؛ وواحدة أعتقدُ، أنا على الأقل، أنَّ علينا استخدامها. النموذج الأخلاقي إن الطريقة التي يفكر بها معظمنا في العنف اليوم هي من خلال النموذج الأخلاقي؛ فنحن نميل إلى التفكير بالعنف كخطيئة (لأنه ينتهك قوانين الله) أو كجريمة (لأنه ينتهك قوانين المجتمع أو الجنس البشري). ولسوء الحظ، لم يعد لدينا مفهوم مُتَّفَق عليه عمومًا حول ما تعنينه "الخطيئة" أو حتى "الجريمة": كيف نحدِّد ما هو "الأخلاقي" بالنسبة للبعض منا الذين لا يزالون يستعملون هذا التعبير؟ في الثقافة الحديثة، التي تهيمن عليها التكنولوجيا والنزعة المادية، يبدو أن العلاقات الإنسانية تنزلق أكثر فأكثر نحو حالة من المنافسة المحض؛ حيث يتم التفكير أكثر فأكثر في تفاعلات متبادلة من خلال إطار الربح/الخسارة. في حين أنَّ تعريف ما هو قانوني يصبح، بصورة متزايدة، مسألة مفاوضات بين المحامين، ويضعف بشكل مطرد مفهومنا المُتَّفَق عليه للقانون الطبيعي. وتُحال سلطة تقرير ما هو خطأ وما هو صواب تدريجيًا إلى المؤسسات المتخصصة، تاركة معظمنا، من غير الأخصائيين، دون حافز يدفعنا للتفكير بأنفسنا. ولوسائل الإعلام تأثير سيئ في هذه العملية المؤسفة. فبقدر ما تكون وسائل الإعلام مهتمة، غالبًا ما تُفسَّر العملية القانونية، مثلها مثل العملية السياسية، كصراع على السلطة بين المشاركين، وبشكل ثانوي كعملية ترفيهية تقدَّم للجمهور. إنَّ للنظر إلى العنف باعتباره خطيئة أو جريمة، في حين أن كل من الجريمة والخطيئة أصبحتا مفهومين غامضين يكمنان في برج عاجي، تأثيرًا بالغ الأسف على تفكيرنا يذكِّرنا بوصف جاك إلول لعصرنا بأنه العصر الذي بدأنا ندرك فيه العنف بطريقة جديدة. لدينا الآن فرصة لا نظير لها لاتخاذ خطوة عظيمة إلى الأمام في الثقافة الإنسانية، وذلك باستغلال هذا الوعي الجديد المتعلق بالتعامل مع العنف أخيرًا. لكن، بدلاً من ذلك، حدث العكس تقريبًا، وبات العنف شيئًا نريده. قالت المجلة النقدية "كرونيكل" في 6 حزيران 1997: "للقصة المثيرة الجديدة التي اخترقت الأرض في مسارح Bay Area كل المزايا الحديثة". فما هي تلك المزايا؟ إنها "العنف والحجم والحماقة" – (أي) كل تلك الأمور الخيِّرة. وفي حين أنَّ هذه المجلة كانت ربما ساخرة جزئيًا، فإنك إذا تحقَّقت في أي مخزن لأشرطة الفيديو أو على رفوف مكتبة عامة لوجدت أن "العنف" يعني الآن "الإثارة"، وأن الإحساس بالصواب والخطأ قد تلاشى. فما النفع من دعوة العنف شرًّا لا ضرورة له، وهو كذلك فعلاً، إن لم يكن بمقدور أحد أن يذكر مصطلح الشر إلا كمصطلح تقني تتضمنه بعض المفردات الدينية والتخصصية لأناس يملكون وحدهم سلطة تعريفه؟ كما أنَّ استخدام النموذج الأخلاقي كنافذة على العنف يمكن أن يزيد طبيعة العنف حدَّة بدلاً من أن يحجبها، وهنا تصبح المشاكل المطروحة أكثر خطورة. ونظرًا لأنه ما زالت لدينا استجابة عاطفية قوية تجاه العنف (وهذا بحدِّ ذاته أمر جيد)، فإنَّ وصف شخص أو مجموعة ما بـ"العنيفـ/ـة" يمكن أن يجلب لها أقوى مشاعر الكراهية والسخط المُبرَّرة أخلاقيًا. أما الخطوة التالية فهي أن نختمهم بلصاقات استقطابية، مثل "مُدنَّس" أو "مُذنِب"، الأمر الذي يجعلنا ننسى سريعًا أنَّ هؤلاء الناس كائنات بشرية رغم كل شيء. هذا يُدعى إلقاء المسؤولية على الآخرين، ورغم أنه يمكن أن يبرز كردَّة فعل غير مُفكَّر فيها تجاه العنف، فإنه بحدِّ ذاته، وهذا ما يدعو إلى السخرية، شكل خطير من العنف. فليس مصادفة أن مصممي المحرقة استخدموا عن عمد صور قذارة ودنس لوضع ضحاياهم المقصودين بمنأى عن التعاطف الإنساني، وقد كان لهم الكثير من المقلِّدين. إنَّ إلقاء المسؤولية على الآخرين، كشكل خطير من أشكال العنف، هو فقط، وبحدِّ ذاته، خطوة واحدة مقصرة لتبرير العنف. عندما ظهر كتابي أمريكا بدون عنف عام 1982، أجرت معي إحدى المحطات الإذاعية الرئيسية في نيويورك مقابلة في وقت متأخر من الليل، فصدمتني ردود فعل المستمعين. لقد بدا أنَّ كل متصل كان يلقي بلوم العنف (العنف كله) على عدوِّه، أو عدوِّها، المفضَّل. "أنت تعلم تمامًا أنهم البورتريكيون"، "هل قرأت الإحصائيات حول السود تحت سن الخامسة والعشرين؟"، "إنهم البيض الذين يسبِّبون كل العنف"، وهلم جرًّا. إنه الخطأ نفسه الذي كان يرتكبه طلاب بيركلي عندما ركَّزوا على جرائم الكراهية ضد الآسيويين، فقط هنا أصبح المُضحُّون بالآخر بدلاً من الضحايا هم الذين صُنفوا ضمن مجموعات، وكأن القضية أصبحت المجموعات وليس العنف. منذ ذلك الوقت، وعوضًا عن اتخاذ الخطوات الضرورية لننتقل بتفكيرنا من المظهر إلى السبب (مشيرين هنا إلى أنَّ أحدًا لا ينكر، ومهما كان السبب، واقع أنَّ بعض المجموعات ترتكب العنف أكثر من الأخرى)، فصنفت مجموعة أكثر مأسوية من أجل لومها: "إنهم المراهقون". العنصرية سيئة بما يكفي، أما إذا كنا قد وصلنا إلى حدِّ إلقاء المسؤولية على أطفالنا، حينئذٍ ستكلفنا نظرتنا إلى العنف أكثر من الداء – قد تكلِّفنا حضارتنا. لذلك فإن ما أقترحه للعمل الآن هو أن نغلق معًا النافذة الأخلاقية تمامًا، إذ لسنا بحاجة لاكتشاف مَن نلوم على كل ما نشهده من عنف بطريقة ميتافيزيقية؛ نحن بحاجة فقط لاكتشاف كيفية إيقافه. النموذج الطبي الذي هو نموذج أحدث وكانت له فعالية أكبر بكثير؛ فبالنسبة لطريقة التفكير هذه يصبح العنف مرضًا، والسلام صحة. ومن المحتمل أن تكون هذه الطريقة للتفكير حول العنف أكثر دقَّة بكثير من تفسيره كخطيئة أو كجريمة. لاحظ كيف أنَّ العاملين في الحقل الطبي قادرون بيسر على تغيير اتجاه التعقُّب بحيث لا يقعوا، وخاصة فيما يتعلق بالعنف، في شرك التفصيلات. ففي الإصدار الأول للنشرة الإخبارية لـ Medical Abstracts نقرأ: إنه اليوم المسبب الرئيسي لفقدان الحياة في الولايات المتحدة؛ فهو يقتل من الناس أكثر مما يقتله الإيدز أو السرطان، ولم تظهر أية مؤشرات لعلاجه: إنه العنف...[17] (التأكيد من عندهم) كون العنف مرضًا ليست فكرة جديدة بالطبع. وقد أحسن أوغستينوس استعماله لتطوير تعريفه المشهور للسلام بأنه "التناغم الناجم عن العلاقة المنتظَّمة بين كل أجزاء الجسد"، على سبيل المثال. لكن معظمنا يتذكر كيف أنَّ حركة السلام، خلال الحقبة المناهضة للأسلحة النووية، بلغت ذُرى لم يسبق لها مثيل عن طريق الأطباء، وخصوصًا على يد طبيبة رعاية بليغة جدًا هي هيلين كالديكوت. وما جعل "أطباء من أجل المسؤولية الاجتماعية" ونظراءهم الأوروبيين فاعلين جدًا لم يكن فقط حقيقةُ أنَّ للأطباء سلطةً مُحترمة لدى معظم الناس أو اتساع دورهم في الحفاظ على صحة الناس فردًا فردًا وإبقاؤهم بالملايين على قيد الحياة، فهذا أمر طبيعي، إذ كانت الصورة الحيَّة لنظام الحرب كمريض مختل وظيفيًا، إن صحَّ القول. الأمر الذي جعل عمل ملايين البشر لمناهضة هذا النظام أكثر سهولة، بمن فيهم الكثيرون ممن كانوا يرفضون أي نقد للحرب كعمل وطني رفيع وشكل من أشكال "الدفاع". لقد جعل ذلك المنظور الجديد النشطاء المناهضين للحرب أكثر فعالية إلى حدٍّ ما لأنه ساعدهم على تقديم شيء محسوس للناس بدلاً من تبادل الاتهامات بخصوص الحرب؛ فالإشارة فقط بإصبع اللائمة إلى الآخرين يجعلهم يتحجَّرون في موقفهم، إن لم يكن في قلوبهم[18]. وقد أصبحت قوة المنظور الطبي حقيقة واقعة في أحد أيام صيف 1993 في غرفة الطوارئ في مستشفى في لوس أنجلس، وذلك حين دخلت امرأة هائجة المستشفى قاصدة إطلاق النار على ممرضة كانت تعتقد أنها على علاقة جنسية مع زوجها المُجافي لها؛ فوجدت من كانت تبحث عنها وأطلقت عليها النار لكنها لم تقتلها. راحت الممرضة الجريحة تترنَّح نازلة إلى غرفة الطوارئ تطاردها المعتدية، وكانت الممرضة المناوبة في غرفة الطوارئ جوان بلاك قد سمعت إشارة بالشِفرة إلى أنَّ هناك شخصًا مسلَّحًا طليقًا في المستشفى قبل لحظات من دخول زميلتها الممرضة الجريحة ومن ورائها المرأة المسلَّحة باندفاع عبر الباب. ردَّت بلاك، ذات الاثني والستين عامًا، بغريزة الشخص الطبي الخبير: "وضعت ذراعي حولها وبدأت الحديث معها. كانت المرأة تواصل القول بأنها لم يعد لديها ما تعيش من أجله، وأنَّ هذه المرأة سرقت عائلتها. وأنا كنتُ أواصل القول: "أنت تتألمين، وأنا آسفة، لكن كل الناس يعانون آلامًا في حياتهم... أنا أتفهم ذلك ويمكننا أن نحل الأمر""[19]. (وتصدَّرت قصة إطلاق النار أخبار الصفحات الأولى، أما إنقاذ الممرضة بلاك البطولي للموقف فقد ظهر فقط في قسم تالٍ). لقد أتاح الحديث بمثل هذا الثبات، وفي الوقت نفسه إبعاد المسدس في كل مرة كانت المرأة تحاول فيها استعماله، أتاح لبلاك أخيرًا تهدئة المرأة. الإنسان الكلاسيكي الذي في داخلي يُوجب عليَّ الإشارة ههنا إلى أمر ما قبل أن نواصل. لقد اتبعت الممرضة بلاك غريزيًا، نقطة بنقطة، النموذج المستعمل من قبل القدماء من أجل تهدئة الناس المهتاجين أو الذين لا عزاء لهم. فهي، أولاً، لم تتماثل معهم ولم توجِّه اللوم إليهم ("أنت تتألمين. أنا آسفة..."). ومن ثم تعطيهم بعض الاستقلالية في الرأي بتذكيرهم بالشيء الأول الذي نفقد جميعًا بصيرتنا بصدده في مثل هذه الحالة، وهو أنَّ ما يعانون منه هو تجربة إنسانية عالمية ("كل الناس يعانون آلامًا في حياتهم"). كما يمكنك أيضًا تذكيرهم بأنَّ اللحظة غير المحتَملة التي يواجهونها يجب أن تمرَّ، ومن ثم أخيرًا تحضهم على تغيير موقفهم ("يمكننا أن نحلَّ الأمر"). والحقيقة أن الممرضة بلاك كانت مُلهَمة في نقل هذه المحاكاة المثالية لعزاء كلاسيكي في لحظة كهذه يوضِّح شيئًا له علاقة بعالمية الديناميات الإنسانية التي سنستخدمها لاحقًا. لا بدَّ أنَّ جوان بلاك كانت ممرضة غرفة طوارئ عظيمة. وقد أفلحت في هذه الحالة بالتأكيد في تهدئة موقف بالغ العنف، وهذا تمَّ جزئيًا لأنها ممرضة ومناوِبة في غرفة الطوارئ. لقد أتاح لها كل هذا رؤية الموقف بشكل مختلف تمامًا أكثر مما لو واجهت رجلاً مسلحًا في زقاق مظلم. فهي لم "ترَ" مجرمًا يدخل عبر الباب، بل رأت مريضًا، وقالت حرفيًا: "لقد رأيتُ شخصًا مريضًا وكان عليَّ الاعتناء به". تغافلت الصحف كليًا تقريبًا هذه النقطة، وتشبَّثت بملاحظة لها مضللة بالكامل تقول فيها: "من المحتمل أنَّ هذا العمل كان أغبى عمل عملتُه في حياتي". لكن تلك مشكلة الصحف وليست مشكلتنا؛ فقد كانت جوان بلاك بطلة وقادرة على القيام بعمل استثنائي في مواجهة العنف. لماذا؟ لأنها رأت في المُرتكِب شخصًا مريضًا، شخصًا يعاني مشكلة، وليس مجرمًا. على بعد ألف ميل، في غرفة طوارئ أخرى، احتفلت طالبة طب اسمها ديبورا بروثرو سميث بعيد غطاس مختلف نوعًا ما. ولحسن الحظ كانت قادرة على الإمساك بزمامه، وفي الحقيقة، على تحويله إلى عُرف. حدث هذا ذات ليلة بعد أن خاطت جرح شاب كان قد أُصيب في معركة بالسكاكين. وبينما كانت تحضِّره للخروج، التفت إليها وقال: "لا تذهبي للنوم... فالشخص الذي فعل هذا بي سيكون هنا في غضون ساعة". كان الأمر جزئيًا يبدو كدعابة، وجزئيًا كتبجُّح ذكوري؛ لكن بروثرو سميث، وهي طبيبة وأم لابن مراهق، فكَّرت مليًّا بما قاله. فثقل عليها التفكير بعبث وسخف إصلاح ضحايا العنف بعد أن يكون هذا العنف قد حدث دون عمل أي شيء لمعالجة الأسباب، لأنه مناقض مع كل ما تتعلمه في الطب ويقول إنَّ: درهم وقاية خير من قنطار علاج، ويصلح لمعالجة مرض العنف كما لأي مرض آخر. لاحقًا، وعندما أصبحت بروثرو-سميث مندوبة الحكومة للصحة العامة في ماساشوسيتس، أنشأت برنامجًا تربويًا للحيلولة دون عنف المراهقين مع منهاج اتبعته 325 مدينة في 45 ولاية. وصاغته على النحو التالي: المهمة في نظام العدالة الجنائي هي إثبات المسؤولية عن الخطأ عندما تقع حادثة عنفية واتخاذ الإجراءات العقابية. تلك مهمة مناسبة لكنها ليست وقائية. لذا فإن ما أؤيده في ]كتابي[ عواقب مهلكة، وفي هذه الحركة التي تنظر إلى العنف كمشكلة صحية، هو أن نباشر بالتحدث عن الوقاية[20]. وعلى نحو ممتع، قدمت بروثرو-سميث تعريفًا رائعًا للعنف الهيكلي في مقابلة أُذيعت على نطاق واسع: بأمانة تامة، إذا ما عرَّفتَ العنف بشكل محدود جدًا كمجرد أذى جسدي، فإنك تُقيد فهمك... فالافتقار إلى الفرص، ونظام تعليمي لا يعمل، وحتى عائلة لا أثر لها – تعتبر تجارب عنيفة جدًا[21]. لأنَّ الصحة والمرض هما صنوا السلام والعنف؛ واستعمالهما أكثر فعالية بكثير من محاولة استخدام مفهوم الجريمة والعقاب، مهما كان ذلك ملائمًا لمشاعرنا. فالتفكير بالعنف بوصفه مرضًا يخرج اللوم من الصورة: ما لم تكن جورج برنارد شو لا تلُمْ الناس على مرضهم. ومن جهة أخرى، هو يركِّز بؤرة اهتمامك إلى حيث يجب، إلى حيث يحتاج الأمر للكفاءة وللرحمة – إلى حيث الوقاية. عندما يكون بوسعك القيام بعمل خلاَّق ما يركز على الأسباب العميقة للعنف الضاربة جذورها في الأنظمة المجتمعية والعائلية، والتي استشهدت بها بروثرو-سميث للتو، فأنت تقوم بعمل أكثر فاعلية بكثير من نشر المزيد من رجال الشرطة في الشوارع، أو وضع أقفال أمتن على الباب الأمامي لمنزلك؛ إنه عمل دعاه بعض المهنيين الصحيين، وأستعير هذا التعبير من الباحث في مجال السلام جون بيرتون، بـ"الوقاية الاستباقية". النموذج التربوي رغم منافع النموذج الطبي، سأفتح منظورًا ثالثًا. فإذا لم يكن العنف خطيئة، بل يشبه كثيرًا المرض، لا بل يشبه نوعًا من أنواع الجهل؛ فإني أعتقدُ أن الصوفي المحبوب في الهند الحديثة، سوامي رامداس، قد عنى ذلك حرفيًا حين قال: الجهل هو علَّة النزاعات والصراعات في العالم. والجهل ليس جريمة، ولا يستحق الإدانة، لكنه يجب أن يُزال. وبمقدورك أن تزيل الجهل بقوة محبتك[22]. وهذا يبدو لي تلخيصًا لطبيعة العنف بكلمات قليلة، ويوجِّهنا نحو "الوقاية الاستباقية" منه. فالنظر إلى العنف كضرب من الجهل يساعد بصورة مباشرة على رؤية الحكمة والمحبة كحل، وتقدير قوة التعليم في البحث عن مستقبل لاعنفي. خضتُ، ذات مرة، مناقشة حامية مع مجموعة من الصحفيين في حلقة دراسية مرتجلة في سان فرانسيسكو. فالتفت إليَّ زميل لي من جامعة بيركلي وقال: "حسنًا، ما هو العنف؟"، فأجبت بسرعة: "إخفاق الخيال". وفي حين أنني لم أكن متيقِّنًا تمامًا مما قصدته، أعتقد أنني كنت أتلمس دربي المعتم نحو بصيرة سوامي رامداس. فإذا لم أكن أمتلك خيالاً لإدراك أننا – أنت وأنا – واحد، رغم انفصالنا الجسدي واختلاف نظراتنا إلى الحياة، فما الذي قد يمنعني من استعمال العنف ضدك إذا اعتقدتُ أنك تقف حجر عثرة في طريقي؟ قد تقول إنَّ هناك نوعًا من العنف يُرتكَب من خلال الإخفاق في رؤية أننا واحد – يطال الحقيقة. يمكن الشفاء من الجهل، كما ألمح سوامي رامداس، كما يمكن أن تُعكَس إخفاقات الخيال. وتلعب المحبة دورًا ما في كلتا هاتين العمليتين. حسنًا، ما هو اللاعنف؟ كنت وصديقي الحميم آلان ريشار نتواسى خارجين من مطعم في سان فرانسيسكو قبيل عودته إلى موطنه فرنسا بعد عدة سنوات قضاها في العمل كناشط لاعنفي رائد. كان موضوع تشكِّينا هو أن كلمة "لاعنف" لا تفيد المعنى المقصود غالبًا، وكيف لم يقدِّم أحد بديلاً سليمًا لها. لكن آلان كان قد وجد طريقة لوصف اللاعنف دون أن يسميه باسمه حينما كان يدرِّب ورشات عمل في ريف أفريقيا في وقت سابق. "انسَ اللاعنف – قال لي – تحوَّلتُ إليهم لأسألهم، هل استخدم أيٌّ منكم قوة أخلاقية داخلية في مواجهة قوة بدنية؟" وبلا ريب، ارتفعت أيدٍ. وعرضت إحدى النساء قصتها: اعتاد زوجها على ضربها كثيرًا. وذات مرة، أحسَّت بشيء ما يقدح في داخلها. وبدلاً من محاولة حماية نفسها، وقفت بثبات ونظرت في عيني زوجها وقالت: "لماذا لا تقتلني فحسب وتنتهي من الأمر كله؟". لم يضربها مرة أخرى مطلقًا. كل ما قلته عن "الجانب الظليل" للعنف كان تهيئة جيدة، لكنها تهيئة فحسب، من أجل العمل الحقيقي الذي يمكن أن نعكف عليه الآن، والذي يتفهَّم القوة التي غيَّرت بشكل مثير زوج هذه المرأة. فالعنف ليس تكامليًا، واللاعف قوة تكاملية. إنه، كما النية في الأذى، أولاً وقبل كل شيء، قضية عقل، ومن ثم فقط تعبير عن حالة العقل في فعل. ويمكن أن يُعلَّم. ومقتضيات هذه العملية التعليمية هي التي تهمنا بصورة رئيسية. وكما بيَّن اختبار دافيتز، يمكن بسهولة مدهشة تعليم الناس السلوك الإيجابي والسلوك التعاوني، وحتى سلوك التضحية بالذات. ويجادل مؤيدو اللاعنف أنَّ ما يفعلونه حقًا هو لا–تعليم السلوكية العدوانية والسلوكية التنافسيية وسلوكية التضحية بالآخر، التي ألبسناها للآخر. وعندما أقول إنَّ اللاعنف يمكن أن يُعلَّم لا أعني أنه لم يكن موجودًا من قبل، فقد كان موجودًا بالفعل، لكن يبدو أن المقدار الكبير من التكيف الذي يجعلنا اليوم كائنات اجتماعية يُعمِّي عليه. لكن التكيُّف ثانوي، ولذا يمكن أن يُزاح بسهولة نسبيًا: الأخير في الداخل، الأول في الخارج. ففي حضارتنا نتمسك دومًا وبطريقة ما بالظلِّ عوضًا عن الضوء. فلنُعرِّج على الإيتيمولوجيا (الاشتقاق)، كما فعلنا مع كلمة "عنف". بالكاد ظهر مصطلح اللاعنف (أو اللا-عنف، كما لا يزال يُهجأ أحيانًا) للمرة الأولى منذ قرن مضى (على خلاف مصطلح العنف!)، وبدقة في العام 1923. ويفيد اللاعنف كترجمة حرفية (لكن مُضلِّلة، كما أصبحت تفهم) للكلمة السنسكريتية أهيمسا Ahimsa، وهي نقيض هيمسا Himsa (الرغبة في، النية على) الأذى. وبموجب ما رأيناه للتو، تعني أهيمسا "غياب الرغبة، أو النيَّة، في الأذى". لكن هذا النفي (البادئة "لا: a" في اللغة السنسكريتية تشبه أساسًا البادئة نفسها في اللغة اليونانية، والتي تبيُّنها في اللغة الإنكليزية: (لاأخلاقي amoral) يتطلَّب بعض الشرح. فعلى خلاف الوضع في الإنكليزية، كلمة لا none في السنسكريتية قديمة قِدَم نقيضها، إذ تظهر أهيمسا حتى في النصوص الأقدم من "المرجع" المبجل لغاندي، البهاغافادغيتا (كُتِب ما بين 200 قبل الميلاد و200 ميلادي). ومرة أخرى على خلاف الوضع في الإنكليزية، غالبًا ما تُسمي الأسماء المجردة في السنسكريتية خاصية إيجابية على نحو غير مباشر بنفي ضدها. وهكذا تُعرَّف الشجاعة بـ "أبهايا abhaya" التي تعني حرفيًا "عدم الخوف non-fear"؛ أو نجد "أكرودها akrodha"، "عدم الغضب non-anger"، مقابل "اللطف"، و"أفيرا بوذا Budha's avera"، "عدم الكراهية non-hatred"، وتعني "المحبة"[23]. والسبب الذي دعا المفكرين العظماء الهنود القدماء للتعبير عن أنفسهم بهذه الطريقة الملتوية على ما يبدو هو أن ظواهر مثل المحبة والشجاعة المطلقة والرحمة هي أمور أصلية لا يمكن التعبير عنها تمامًا بلغة بشرية مشروطة وغير معصومة. وكما تذكِّرنا الكثير من النصوص أنه مهما تفكرنا أو قلنا عن الله فإننا نخفق في الوصول إلى الحقيقة. أما اللغة الإنكليزية فهي مختلفة (مع أن "اللاتناهي infinite" قد تدعو إلى المقارنة)، ما يعني أن مصطلح اللاعنف لا ينقل حقًا معنى أهيمسا باللغة السنسكريتية. في الواقع، أهيمسا ليست مصطلحًا سلبيًا، كما هو بلا ريب وقع مصطلح اللاعنف على أسماعنا. فأهيمسا توحي بشيء ما إيجابي إلى حدٍّ عميق، وقد يكون هذا الشيء غير قابل للتسمية بصورة مباشرة. فأهيمسا، كنوع من النفي المضاعف، ترمز إلى شيء ما أصلي إلى درجة أننا لا نستطيع الإمساك به تمامًا بلغتنا الضعيفة. لقد جلتُ بك عبر كل علم اللغة هذا لأنه – حسنًا، لأسباب عدَّة. لأنَّ من المهين أنَّ هذه اللغات الحديثة ما زالت تجاهد من أجل كلمة تعبر فيها عما كان مقدسًا في كلمة أهيمسا منذ ألفيات مضت. ولأنَّ ذلك المصطلح القديم كان متقدمًا علينا إلى هذا الحدِّ في تفضيل البعد العقلي للعنف/اللاعنف؛ ولأنه، أخيرًا، في تلك الترجمة المضلِّلة لأهيمسا التي تحولت إلى نفي في الإنكليزية نرى سوء الفهم الأكثر أهمية للعنف، ذلك الحاجز العقلي الذي يحول دون امتلاكنا الإدراك بأنَّ اللاعنف، مهما كان اسمه، هو قوة إيجابية تحمل الحل لمعظم مشاكلنا الرئيسية، الشخصية والاجتماعية والعالمية. لقد واجه غاندي هذه العقبة منذ بداية عمله في جنوب أفريقيا. فعندما طرق سمعهم للمرة الأولى صيغته الجديدة المُربِكة للمقاومة، بحث غربيون وهنود غربيو التعليم عما هو مألوف جزئيًا بالنسبة لهم ويمكنهم على الأقل المقارنة به؛ فافترضوا أنّ هذه الصيغة شبيهة بفرض الضريبة على الطوائف "المنشقَّة" (غير الأنجليكانية) في إنكلترا، ومماثلة، على وجه الخصوص، لحركة حق الاقتراع للنساء التي كانت مثار دهشة في ذلك الوقت[24]. كما كانت هناك، أيضًا، أقلية تكافح من أجل حقوقها دون استخدام العنف الجسدي لكن، للأسف، توقَّف التشابه هناك. وهذا التشابه السطحي كان من الممكن أن "يتسبَّب في سوء فهم فظيع"، وكان غاندي يخشى، وهذا ما حصل لسخرية القدر، أن يقع صديق أوروبي مخلص للحركة في "سوء الفهم الفظيع" بطريقة لا يبقى فيها أمام غاندي من خيار سوى انتشاله[25]. ففي السنة المحورية 1906، عندما أظهرت المقاومة الهندية جَلَدها مما أقلق المستوطنين البيض، رتَّب هذا الصديق، وهو ويليام هوسكينز، لقاءً مع أوروبيين بارزين لسماع ما كان يشغل الهنود، وفي ذلك اللقاء قدَّم غاندي مع الملاحظات حسنة النيَّة التالية: لقد لجأ الهنود في الترانسفال إلى المقاومة السلبية في حين أثبتت كل الوسائل الأخرى من أجل الإنصاف الآمن عدم جدواها... عدديًا، هم قلَّة فقط. وهم ضعفاء وعُزَّل من السلاح، ولذلك اتخذوا سبيل المقاومة السلبية التي هي سلاح الضعفاء[26]. يمكن لهذا الخطأ الكلاسيكي أن يُجفِل أي باحث لاعنفي معاصر لكن غاندي، عندما سمع ذلك، ألقى خطابًا رقيقًا كان قد هيأه وناقض فيه صديقه حسن النية نقطة فنقطة. كان يرغب في أن يكون واضحًا قدر الإمكان أنَّ الحركة الهندية مختلفة في النوع عن حركة المنادين بحق الاقتراع، وإن كانت كلتا القضيتين عادلتين ولم تعتمدا العنف الجسدي. فقد أوضح غاندي، أولاً، أنَّ حركة حق الاقتراع لم تتوانَ عن استخدام القوة الجسدية في حين لم يكن للقوة العنيفة مكان مطلقًا في الحركة الهندية، وفي شتى الظروف، و... لا يهم كم كانت معاناتهم قاسية، فالساتياغراهيون لم يستخدموا القوة الجسدية على الإطلاق، رغم أنه كانت هناك مناسبات كانوا فيها في وضع يؤهِّلهم لاستخدامها بفعالية. ثانيًا، ورغم أن الهنود كانوا محرومين من أي حق دستوري وكانوا ضعفاء، لم يكن لهذه الاعتبارات أي أثر على تنظيم الساتياغراها[27]. كما بوسعنا أن نرى، لقد ابتكر غاندي كلمة جديدة من أجل ما كان يقوم به، رغم ما يمكن أن يولده كل من تعبيري اللاعنف والمقاومة السلبية من سوء فهم. فالساتياغراها، أو "قوة الروح"، التي استعملها غالبًا، ليست نفيًا مضاعفًا بل تعني، حرفيًا، "التشبُّث بالحقيقة". إنها ليست "سلاح الضعفاء"، كما اعتقد هوسكينز، بل هي سلاح الأقوياء لأنَّ هناك نوع من القوة لا يُستَمَدُّ من كثرة العدد أو من السلاح. ولصالح هذه القوة، التي يؤمن اللاعنفي أنها أعظم، تخلى الساتياغراهيون (ممارسو الساتياغراها) عن استخدام القوة الجسدية، بشكل طوعي وكمبدأ. وبعد العودة إلى الهند، لم يعد عدد المقاومين 13000 إنما أصبح 300 مليون تقريبًا مقابل 150 ألف مستعمر بريطاني فقط. وظلَّ الهنود يستخدمون الساتياغراها كخيار. وحتى هذا اليوم، بعد قرن تقريبًا من زلَّة هوسكينز، نواصل تكرار نفس الزلَّة، ولكن في غياب غاندي الذي لم يعد بوسعه أن يصحِّحها لنا. فمؤخرًا، أعلن صحفي مشهور أن المستوطنين الإسرائيليين في الخليل، الذين ربعهم تمامًا مُدجَّج بالسلاح ومتعصِّب إيديولوجيًا، يستخدمون "التكتيكات الغاندية: أي المقاومة السلبية"[28]. لم يكن (هذا الصحفي) يعرف، ولن يعرف معظم قرَّائه، أنَّ اللاعنف والمقاومة السلبية يمكن فعليًا أن يكونا مختلفين بقدر اختلاف العنف واللاعنف. فالساتياغراها ليست سلبية وأنت ليس بوسعك أن تكون "غانديًا" حين تكون مليئًا بالكراهية حتى لو كنت – في هذه اللحظة – نازعًا إصبعك عن الزناد. ويمكن للمرء أن يسترسل في الاستشهاد بأمثلة عن مثل هذا التشوُّش. وهذه الأمثلة مثيرة للسخرية حين لا تكون بالغة الضرر. غالبًا ما يكون من الأيسر رؤية هذا التشوش حين ننظر بمقياس أكبر؛ فمن المعروف والشائع إلى حدٍّ ما الآن أن السلام هو أكثر من غياب الحرب (مع أن هذا غير واضح لصانعي القرار ولمعظمنا). لقد ذكرتُ أنه كان من المفترض أن تجلب اتفاقية دايتون السلام إلى يوغسلافيا السابقة لكنها أخفقت في التوجُّه إلى المسبِّب لحروبها – الكراهية الإثنية التي كانت تثيرها محطات التلفزيون الرسمية والسياسيون القوميون. واليوم، تُدعى حالة غياب الحرب هذه بحق بـ"السلام السلبي". وأحد أكثر الأمثلة وضوحًا، والذي نال تمامًا ما يستحقه من سخرية من قبل المنظمات المناهضة للتسلح النووي، هو ما قدَّمته، بكل جدية، إدارة القوات البحرية التي اقترحت تعريف السلام بأنه تلك الحالة التي "تسبق العداوة المستمرة". فهل هذا هو السلام؟ كما أنَّ من السخف أن نعتقد بأن اللاعنف هو مجرد غياب للعنف (الجسدي)، والتفكير بأن السلم هو مجرد استقطاع بين الحروب. فكلتا الحالتين هما كمحاولة فهم الضوء من خلال دراسة ظله. لقد حان الوقت للالتفات ورؤية الشيء بحدِّ ذاته. في الثمانينيات، كانت فكرة "الطبيعة حمراء السنِّ والمخلب"[29] مُستحوذة على الخيال الشعبي. وقد خضتُ معركة شاقة محاولاً إظهار أنَّ الصورة المقدَّمة من قبل بعض شعبويي علم السلوك الحيواني Ethology هي صورة خاطئة. بضعة علماء وفلاسفة فقط، مثل آشلي مونتاغو وماري ميجلي، كانوا يحاولون تصحيح ما أسمته ميجلي وجهة نظر "متفاخرة ومتهوِّرة" بأنَّ الطبيعة مكان عنيف وأنَّ الكائن البشري دمية تحرِّكها الطبيعة بخيوطها. وقد بدأ هذا الفهم في التغيُّر؛ فحالما ظهر كتابي دعت منظمة اليونسكو إلى حلقة دراسية لبعضٍ من أبرز علماء السلوك في العالم لإصدار بيان عام بشأن نظرية العدوان الفطري هذه. وقد شهَّر إعلان إشبيليا، غير المُعلَن لكن الحاسم، الصادر عام 1986، بوجهة النظر الشعبية التي كانت تقول بأنَّ سلوكًا معقَّدًا مثل العدوان البشري يمكن أن يكون مُبرمَجًا من قبل جيناتنا، ولذلك نحن متمسكون به. هذا القول لا يعني أن الاتجاه العام لسلوكية هؤلاء العلماء – ونحن هنا لا نذكر الجمهور – كان سيتخلى بسهولة عما قدَّمه من صورة "متفاخرة ومتهوِّرة". فالمدُّ القوي للمذهب الكلبي[30] Cynicism في ثقافتنا الراهنة يجرُّ الكثيرين منا إلى بحر من اليأس في الوقت الذي لدينا فيه فرصة للوقوف على أرض يابسة، لكن، وفي كل مكان، باشر بعض العلماء بتحويل ذلك المد. في يوم من أيام عام 1975، وقبل حوالي عقد من ظهور إعلان إشبيليا، حقَّق العالم البريماتولوجي[31] primatologist الهولندي فرانز وال اختراقًا نوعيًا في مهنته في حديقة حيوانات آرنهيم. حين أدرك على نحو مفاجئ أن قرود الشمبانزي لديها نظام شامل للسلوك التصالحي – لم يسبق للعلماء أن أولوه الدراسة مطلقًا. الحرائق تشتعل، لكن الحرائق تنطفئ أيضًا. حيث من الواضح أنَّ العلماء الذين كانوا يهتمُّون بالعدوان، كنوع من الحريق الاجتماعي، أهملوا كليًا الوسائل التي بوسعنا عن طريقها إطفاء نيران هذا العدوان. ونحن نعرف الكثير جدًا عن أسباب السلوك العدواني للحيوانات وللبشر، بدءًا من الهرمونات ونشاط الدماغ وصولاً إلى التأثيرات الثقافية. ومع ذلك، لا نعرف إلا القليل عن سبل تفادي هذه النزاعات – أو، حين تحدث، كيف يكون من الممكن إصلاحها وتطبيعها بعدئذ. وكمحصلة، يميل الناس إلى الاعتقاد بأنَّ العنف هو أكثر تكاملاً مع الطبيعة البشرية من السلام[32]. هذا الاكتشاف يبدو مألوفًا لكلِّ من يدرس العنف البشري. لذلك، وأيًّا كان النموذج الذي نستخدمه للتفكير بشأن الإمكانية البشرية، فإن ما نؤمن به حول أنفسنا سيميل بقوة لأن يتحقق. فعدم معرفة أن اللاعنف ممكن التحقيق، أو التفكير بأنه فقط مجال اختصاص بعض النشطاء المحتشدين عند حافة اجتماعية خشنة، يعني الاستسلام أمام العنف المتزايد باستمرار في ثقافتنا، ما يجعلنا محكومين بتحمُّله بكل معانيه. ولمعرفة هل اللاعنف ممكن، لمعرفة أنه ليس نفيًا لشيء إنما هو قوة متجذرة في الطبيعة وهناك أمثلة عنها في التاريخ، هو نقطة البدء لإعادة ثقافتنا إلى سياقها. والقول بأنَّ اللاعنف محتمل يعني أمرين اثنين، وكلاهما هام: الأول هو أننا نحمل اللاعنف في داخلنا، ما يعني "استعدادنا للساتياغراها"، حتى في ظروف بالغة الصعوبة، كما عبر عن ذلك الغانديون. والثاني هو أنه يعمل حين نتبناه، وهذا ما سأبيِّنه ببعض التفصيل في الفصل الرابع. لكن دعوني أُبدي بعض الملاحظات التمهيدية حول كيفية تأثير اللاعنف على من هم حولنا – أو من هم ضدنا. هناك تصريح لافت حول الساتياغراها عرُض للمرة الأولى وبكل وضوح في العصر الحديث، أثناء كفاح الهنود من أجل استعادة كرامتهم المنتهكة في جنوب أفريقيا، وهو لسكرتير الجنرال جان كريستيان سموتس، رئيس حكومة مقاطعة الترانسفال في جنوب أفريقيا، والخصم الرئيسي لغاندي في هذا الصراع. ويقدم لنا هذا التصريح لمحة لما يبدو وكأنه ساتياغراها فائقة النوعية يقوم بها نشطاء ملتزمون ومدرَّبون بصورة جيدة. أنا لا أحبُّ شعبك، ولا تهمني مساعدته على الإطلاق. لكن ماذا عليَّ أن أفعل؟ أنت تساعدنا في أوقات حاجتنا، فكيف يمكن أن نضغط عليك؟ أنا غالبًا ما أتمنى أن تنجرَّ إلى العنف مثلك مثل المضرِبين الإنكليز، حينها سنعرف في الحال كيف نسوِّي الأمر معك. لكنك لا تؤذي حتى العدو. فأنت ترغب في إحراز النصر عن طريق معاناتك الذاتية وحدها... وهذا ما يضعنا في وضع عجز مطلق[33]. وكما تقول ميجلي: يجب أن تكون الطبيعة خضراء لفترة طويلة قبل أن تصبح حمراء. فإذا قرأنا بين سطور هذه الشهادة (وهناك أمور مماثلة مدوَّنة عن الغزو الفرنسي البلجيكي لراينلاند، بعد حوالي عشرين سنة، كما عن أحداث أخرى). ونشعر هنا بدافع إلى العمل يمكننا أن نسميه بالدافع لشيء عميق، وربما غير مرئي بشكل عادي، في الطبيعة البشرية. وتفسير غاندي الخاص لقوة مثل هذه الدعوة يشكِّل، من وجهة نظري، أحد أكثر الأوصاف تبصُّرًا والتي قُدِّمت للاعنف على الإطلاق. إنَّ ما تفعله الساتياغراها، في مثل هذه الحالات، ليس قمعًا للعقل بل تحريرٌ له من العطالة، وتأسيسٌ لسيادته متجاوزًا الإجحاف والكراهية والعواطف الوضيعة الأخرى. وبكلمات أخرى، إذا كان بوسعنا أن نعبِّر بشكل مُفارِق، إنها لا تستعبد العقل بل ترغمه على أن يكون حرًا[34]. في الحديث عن النموذج التربوي، سيقول لك أي معلم إنَّ هذا هو نوع التعليم الذي نحلم به، حيث لا يتعلم الطالب فقط بعض الحقائق بل يصحو على إدراك جديد. إنها تجربة نمو أكثر مما هو مجرَّد اكتساب للمعرفة، وبعد هذا النوع من التعليم لن يعود المرء إلى النوم من جديد. لا بل أكثر من هذا، فمنذ صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب (2001)، تراكمت شواهد علمية "صارمة" تظهر أنَّ "الإلزام" الذي يدَّعيه غاندي للساتياغراها هو، أو له، واقع فيزيولوجي. وباستخدام تقنيات جديدة غير تداخلية، يعرف العلماء الآن أنَّ هناك "خلايا عصبية عاكسة" خاصة في كلٍّ منا تستجيب على الفور للحركة – والعاطفة – التي نراها عند الشخص الآخر. وكمثال آخر، حين يمكننا أن ننظر إلى الآخر كفرد بحدِّ ذاته بدلاً من كونه عضوًا منتميًا إلى عرق، تكون لدينا استجابات مختلفة (صحية أكثر) لعمق ذلك الشخص في أعماق دماغنا[35]. فيما مضى، كان لي صديق اسمه بيل يدخِّن ثلاث علب سجائر في اليوم. ومع معرفته الواعية لتأثير التدخين على صحته، استمر في ذلك على نحو ما. وقد حاول عدة مرات الإقلاع عن التدخين لكنه لم يفلح. وذات ليلة راوده حلم رأى فيه أنه كان يجتاز فناء كنيسة، وفيما كانت عيناه في الحلم تطوفان على شواهد القبور، استرعى انتباهه نقش على ضريح، فوجد نفسه يكبِّره:
هنا
يرقد بيل أُسلِّم بأن حادثة لاعنفية ناجحة تفعل على هذا المستوى اللاشعوري أيضًا. فعلى نحو مفاجئ، ورغمًا عنهم تقريبًا – كما يلمح غاندي، ويعترف السكرتير سميث – سُمح للجنود السلفادوريين بـ"رؤية" مارسيلا، ليس كشيء مربوط إلى كرسي، ليس كـ"ضحية"، بل كشخص، بفضل اهتمام كارين الفائق بها، ما خلق صلة رائعة بين همِّها الخاص وبين شعورهم الرفاقي تجاه بعضهم البعض – رفاقيتهم. فشجاعتها ومحبتها وافتراضها أنهما أيضًا كائنان بشريان لهما نفس المشاعر حول الجنود عمل على إيقاظهم. هذا النوع من الصحوة، هذه الإعادة للأنسنة، هو أكثر أنواع التعليم رُقيًّا، وهو النوع الذي يسعى إليه الفاعلون اللاعنفيون. وكما سنرى من الأمثلة التالية، فإنَّ اللاعنف تجربة كلية للوجود لها تأثير بعيد المدى أقوى بكثير من تلك التأثيرات المُكتسَبة – أو المُكتسَبة أحيانًا – عن طريق قوة التهديد. لا بد لأي فعل إكراه من أن ينتج ردَّ فعل مكافئ ومعاكس. وكما لاحظت حنة آرندت: مثل أيِّ عمل آخر، تغير ممارسة العنف العالم، لكن التغيير الأكثر احتمالاً هو نحو عالم أكثر عنفًا[36]. وعلى العكس، نادرًا ما يكون للاعنف الحقيقي حركة ارتجاعية لأنه، إذا كان لاعنفًا حقيقيًا، لا يعمل عن طريق الإكراه – إنه يعمل عن طريق الإقناع، وفي غالب الأحيان من خلال نوع من الإقناع العميق يحرك الناس إلى ما دون مستوى الوعي. فـ"إرغام العقل على التحرر"، أو كما صاغه غاندي في موضع آخر، "تحريك القلب"، يختلف نوعيًا عن إجبار الآخرين فحسب على القيام بشيء ما عن طريق العقاب أو الردع. وبما أن العناصر المعترضة قد تغيرت طوعيًا، فإنها لن تبحث عن فرصة للعودة إلينا. لأنه عندما تفعل الساتياغراها، فإنها لا تغير فقط موقف طرف واحد، إنما تغير العلاقة بين الأطراف. فحالما "رأى" أولئك المعارضون لنا فيما مضى الموقف من وجهة نظرنا، انتقلوا إلى موقع أقرب منا روحيًا. هذه هي القوة التكاملية، وهي على ما يبدو ليست قوة عادية لأن شجاعة كارين فعلت ما لم تكن حكومة كولومبيا مجتمعة قادرة أو راغبة في فعله. ذلك مقدار كبير من القوة! شيء ما يصحو في كارين ريد أو غاندي – أو فيك أنت أو فيَّ أنا – وسيغير الناس. إنه ليس بالشيء الذي نتعلمه عن طريق فكرنا (رغم أن الفكر يمكن أن يساعدنا لاحقًا على فهمه) بل بمعرفة القلب. وأحد خصائصه أنه يُبلِّغ عن نفسه على "المستوى الباطني" نفسه للمراقبين. باشر [مارتن لوثر] كينغ عمله مركِّزًا بشكل أساسي على القناعة الدينية الأساسية التي تقول إنَّ في قلب كل كائن بشري، سواء كان أبيضَ أم أسود، أم نائبَ مدير اشرطة أم عاملاً يدويًا أم حاكمًا، وإن بشكل واهن، نوعًا من التماهي الطبيعي مع باقي الكائنات، ذلك أنه في قلب التصميم الشامل للكون، الذي يربطنا ببعضنا بعضًا في آخر المطاف، نميل إلى الشعور بأنَّ ما يصيب أندادنا البشر يصيبنا نحن أيضًا بطريقة ما، لذلك لا يمكن لإنسان أن يحطَّ من قدر كائن بشري آخر، أو أن يسيء إليه، دون أن يشعر في النهاية، في نفسه على الأقل، ببعض الأذى المُطابِق غير الواضح والاضطراب المُخزي. لذلك، خلال تطهير مواجهة حياتية من الخطأ، وعندما نُقابل عنف المضطهِد بمحبة متسامحة، فمن الممكن أن تتأثر حياته، وأن يتجدَّد، مؤقتًا على الأقل، ككائن بشري، في حين أن المجتمع الذي يشهد مثل هذه المواجهة سرعان ما سوف يعي للرحمة وللعدالة[37]. إعادة النظر في التاريخ وفي العلم لقد بدأنا الآن برؤية بعضٍ من المعاني المُتضمَّنة في النموذج التربوي كمقاربة لخيار من أجل تخفيض العنف – ومن يدري، ربما إزالته في يوم من الأيام؛ فعبر هذا النموذج نمسك بسهولة بالحقيقة الرئيسية التي تقول إنَّ اللاعنف أساسًا نوعٌ من القوة. وقد استخدم غاندي، على الأقل، هذا النوع من اللغة في فترته الأولى. وللقوة نوعان: أحدهما يُكتسَب عن طريق الخوف من العقاب، والآخر عن طريق أفعال المحبة. والقوة المستندة إلى المحبة أكثر فعالية وديمومة بآلاف المرات من القوة المستمدَّة من الخوف من العقاب[38]. أو مرة ثانية، العقوبات على نوعين: واحدة كقوة جسدية، والثانية كقوة روحية – ساتياغراها. ولا يمكن مقارنة القوة الجسدية بقوة الحقيقة[39]. واليوم يتعلَّم العلم بذاته التحدث بلغة أخرى، لأنَّ هناك شعورًا بأنَّ الاكتشافات المذهلة لـ"الفيزياء الحديثة" تتضمن فهمًا لما نعتقده العالم، أعمق من أي اختراق مفاهيمي في التاريخ المُدوَّن، وانعكاساته على مجالات تتجاوز العالم الفيزيائي محيرة، وما زالت بعيدة عن الفهم. (أحد هذه الاختراقات الرئيسية كان بالضبط إحداث ثغرة في الحاجز بين العالم المادي والعوالم الأخرى). وفيما كانت هذه اللغة الجديدة تشقُّ طريقها ببطء من عقول الفيزيائيين إلى العالم بشكل عام، كانت تعطينا مفردات جديدة وواعدة لوصف طبيعة وفعالية اللاعنف، والذي كان عصيًّا على التفسير نوعًا ما في اللغة "الصارمة" للمُدرَكات النيوتونية[40]. والباحث الشهير في علم الجريمة هارولد بيبينسكي كان من بين الذين استفادوا من المفردات الجديدة الأكثر فاعلية (فحيثما قال: رد فعل، أقول: لاعنف). العنف وردُّ الفعل يعملان وفق المبادئ نفسها وعلى كافة المستويات، من الشخصي إلى الدولي. فكل كائن بشري... هو في الوقت نفسه فاعل وموضوع كلتا الطاقتين العنيفة والمستجيبة. والتيارات المتعارضة للعنف والاستجابية تسري بثبات في كلٍّ منا، وتفيد في تفسير الانحراف والسلوك اللامتوقَّع على أي مستوى كان[41]. على أية حال نحن نسمِّي هذه القوى، وككائنات بشرية نختبرها كخيار عميق بالغ البساطة – هنا يستخدم بيبينسكي لغة أكثر تقليدية: من لحظة إلى لحظة، يكون الخيار دينيًا على نحو عميق سواء التزامنا بالعنف أم بالديمقراطية[42]. وسواء استخدمنا تعابير علمية أم دينية، فإن بصيرة بيبينسكي تُظهِر أمرًا غريبًا تمامًا: لماذا نحن عادة غافلون إلى هذا الحدِّ عن اللاعنف؟ إن كان واقع كل لحظة، ألا يجب أن نتحدث عنه بشكل مُقنِع وفي أحوال كثيرة؟ ألا يجب أن يتجوَّل في التاريخ وعلنًا، وسط أحداث أخرى؟ يبدو، أحيانًا، أننا أفضل في إدراك ما هو ليس واقع كل لحظة، بالضبط كما تصعب "رؤية" درب التبانة لأننا جزء منه، وتصعب رؤية الأشياء التي في الأعمال الخشبية عوضًا عن الجلوس إلى الطاولة. لقد ناقش اليونانيون القدامى، وكانوا أكثر الناس فضولاً، بتفصيل تام، كيفية شنِّ حرب، وكيفية إخضاع العبيد، لكنهم لم يناقشوا قط الحرب أو العبودية بحدِّ ذاتها، أو المسائل المتعلقة بالاقتصاد، أو مكانة المرأة. لذا بالكاد يبدأ تاريخ اللاعنف أن يكون مُدوَّنًا، ولايزال علم السلوك القياسي لا يأخذه بنظر الاعتبار. كان هذا إحباطًا كبيرًا لغاندي؛ فعندما كتب بيان 1909 الكلاسيكي، Hindo Swaraj، أو "الحكم الذاتي للهند"، كان يعرف أنه يثور ضد ما هو أكثر من إمبراطورية؛ شيء ليس أقلَّ مما سندعوه اليوم نموذجًا غير ملائم. و"التاريخ" كما نعرفه لم يكن قادرًا، من الناحية الشرعية، على المساعدة. فواقع أنه ما زال هناك الكثير جدًا من الأحياء في العالم يؤكد أنه ليس قائمًا على قوة السلاح بل على قوة الحقيقة أو المحبة... والنزاعات الصغيرة لملايين العائلات في حياتهم اليومية تختفي قبل ممارسة هذه القوة. مئات الأمم تعيش بسلام، والتاريخ لم يلحظ وليس بوسعه أن يلحظ هذه الحقيقة. التاريخ هو حقًا سجل معوقات العمل المُطرَد لقوة المحبة أو الروح... التاريخ، إذًا، سجل لمعوقات مجرى الطبيعة. وقوة الروح، لأنها طبيعية، لم تُلحَظ في التاريخ[43]. تلك كلمات رزينة، وكل من حاول الحصول على مراجع صحفية لتغطية حدث لاعنفي يعرف أنها صادقة. ففي جنوب شرق أوروبا، ولسوء الحظ كما في كل مكان في العالم، بالكاد تكون أفعال اللاعنف والعمل الطوعي من أجل المجتمع معروفة للجمهور الواسع. وبالنتيجة، ينمو عدم التآلف مع اللاعنف كما تنمو عند الشباب فكرة لا جدوى هذه النشاطات، مما يدفع هؤلاء الصُنَّاع المحتملين للتغيير إلى مزيد من السلبية. إبان الستينيات، أُعيقت في جامعة كولومبيا مظاهرة طلابية استمرت يومًا كاملاً لمدة دقيقة بسبب مشاجرات من نوع ما، تسبَّب فيها على الأرجح غرباء أو ربما استفزازيون. وعلى شبكة الأخبار في ذلك المساء، خُصِّصت دقيقة واحدة بالضبط للحديث عن مظاهرة الطلاب هذه. ولَكَ أن تُخمِّن أية دقيقة؟ من العام 1909 إلى العام 1969، لم يتغير شيء. فقط فارق طفيف في سياتل في العام 1999. وأتساءل في الوقت نفسه، كم من البشر ماتوا نتيجة العنف العبثي؟ أجل، تتكتَّم وسائل الإعلام أحيانًا على قصص الفساد في المناصب الرسمية العليا، وذلك لانحياز سياسي. لكن هناك انحياز ثقافي يجري على نحو أعمق وقد يصيبنا بضرر أكبر بكثير. وهذا الانحياز الثقافي نموذج يعانق كل مظاهر المعرفة الإنسانية، ويشبه العناق بيد واحدة فقط. منذ بضع سنين، وبينما كنت أعمل عميدًا في الجامعة، تلقيت اتصالاً من طالب دراسات عليا كان يبحث عن بعض الأدلة حول العدوانية في وسط القرود. أنا لست عالِمًا، لكنني كنتُ معروفًا في محيطي الجامعي باهتمامي بهذا المجال، وكان الطالب قد أُرسِل إليَّ من قبل أحد أفضل علماء السلوك في بيركلي. كان هناك شيء ما غريب في محادثتنا، وقد صُدِمتُ حين أدركتُ ما هو: لم تكن لديه أية فكرة ولو ضبابية عن أنَّ نظرية العدوان الفطري كانت موضع جدل. لقد افترض – تبعًا لناصحيه الذين قادوه إلى هذا الافتراض – أنَّ أبناء عمومتنا القرود يتصرفون بعدوانية فجَّة وتنافس وصراع غالب أو مغلوب، رغم أنَّ الطبيعة، كما لاحظ غاندي، لو أنها أُعدَّت للعمل بهذه الطريقة لما استمرت فترة طويلة جدًا. وكما قال فرانس دي وال: أتحدث عن سنوات من الإحباط بالنسبة لما كتب حول السلوك البشري... فما عدا تقارير حول أطفال في سن ما قبل المدرسة [كما رأينا في الفصل الأخير] وتعليل أنثروبولوجي عَرَضي، ليست لدي أية معطيات في هذا المجال... لقد سألتُ مؤخرًا عالمَ نفس أمريكي مشهور، متخصِّص في العدوانية البشرية، عمَّا يعرفه عن المصالحة؛ فوجدت أن ليس فقط لم تكن لديه أية معلومات حول الموضوع، بل نظر إليَّ كما لو أنَّ الكلمة كانت جديدة على مسامعه[44]. آثار المستقبل بعد بضع سنوات على صلب السيد المسيح، وبدقة في العام 39 للميلاد، استحوذت فكرة جنونية على الإمبراطور كاليغولا بإشادة تمثال لنفسه كزيوس المجسَّد ليُنصَب في المعبد الكبير في أورشليم (القدس). بالنسبة لكاليغولا، الذي لم يكن يعتبر إفراطه في المسعى الغروري نقيصة، لا بدَّ أنَّ هذه الفكرة بدت رائعة، لكن إفراطه هذه المرة كاد أن ينفجر في وجه الإمبراطورية. وبينما كان مندوبه السوري، بيترونيوس، يتقدَّم باتجاه القدس لتنفيذ هذا الأمر الكارثي، بدأ الناس من كل الأصناف والمواقع يتدفقون – رجالاً ونساء وأطفالاً – من المدن والقرى والمزارع من جميع أنحاء منطقة الجليل الغربية إلى العاصمة للتجمع لمواجهة الخطر. قدِموا عُزلاً من السلاح، وكان بعضهم يرفع رموز ولاء للإمبراطور، لكنهم أخبروا بيترونيوس بعبارات غير محدَّدة أنَّ تدنيس المقدسات لا يمكن السماح به. طبعًا، هدَّد بيترونيوس بإطلاق العنان لقواته ضدهم؛ فردوا بأنهم على استعداد للموت بدلاً من رؤية مثل هذا الإساءة لدينهم[45]. لم يكن بيترونيوس صديقًا خاصًا لليهود لكنه أُصيب بالارتباك حول كيفية التعامل مع هذه المقاومة غير المسلحة، وعجز عن إقناعهم، لكنه كان نافرًا من ارتكاب مجزرة جماعية (وهو ما كان قد قام به بحماس مندوبين آخرين ضد انتفاضات عنيفة)، فتراجع وخاطر بالكتابة إلى روما مفتعِلاً بعض الأعذار لتأجيل المخطط الضئيل الأهمية للإمبراطور. لكن كاليغولا، المُتمسِّك بالشكليات، أرسل أوامره بإعدام بيترونيوس على الفور، إلا أنَّ القدر تدخَّل عند هذا الحد، حيث اغتيل كاليغولا مما أنقذ حياة بيترونيوس وصان الدين اليهودي في موطنه لبعض الوقت. لم تكن هذه الساتياغراها، التي أخذت بيترونيوس على حين غَرَّة، حدثًا منعزلاً؛ فقد كان هناك، على ما يبدو، في الثقافة اليهودية في تلك الفترة ما يستحضر مثل هذا الردِّ من قِبل الجموع، مع أنَّ النوع "الطبيعي" للمقاومة، الذي كان لا يزال المقاومة العنفية، كان واردًا، كما نعرف جيدًا وكطريق أخير للخيار، مع كل نتائجه الكارثية. كان المسيح بلا ريب في الجانب اللاعنفي إلى حدِّ أن تعاليمه تركت أثرًا على كل أشكال العمل الاجتماعي. وعلى أية حال، يجد الباحث جون كروسان ليس أقل من سبعة انتفاضات شعبية من هذا النوع المختلف ما بين الأعوام 4 – 65 ميلادي، ويذكر أنها جميعها... كانت لاعنفية، وأنَّ جميعها كانت لها أهداف معينة تمامًا، وأن أربعة من تلك السبعة حقَّقت أهدافها دون خسائر في الأرواح[46]. ذلك هو التاريخ الآن. فإذا كان اللاعنف قانونًا، كما ندّعي، ينبغي أن يكون قد ترك آثارًا في مجمل السجلات التاريخية. ونجد – الآن وقد بدأ الانحياز للعنف بالتراخي – أنه قد ترك ذلك الأثر. فتاريخه، ذلك الذي كان أكثر نسيانًا وأكثر تغاضيًا عنه حتى من تاريخ الحركة النسائية التي ترتبط به بشتى طرق، بدأ يستعيد عافيته. ولم يُنجز هذا العمل الحيوي فقط من قبل مؤرخي اللاعنف بحد ذاتهم، وهنا يمكننا الإقرار بدَيننا لبيتر بروك وتوماس فيبر وستاوتون وأليس ليند من بين آخرين، بل من قبل مؤرخي الاتجاه السائد مثل جون كروسان الذي بدأ في إظهار تحسُّسٍ أعظم للدور الذي لعبه اللاعنف المُنظَّم في مجرى الأحداث الإنسانية، وهذا أمر جوهري. فلابد لهدفنا من أن يرفع اللاعنف من الحقل المُتخصِّص البالغ في الصغر الذي يشغله الآن ويُظهِر أنه لا يهم النشطاء والمضطهَدين فقط، بل يهمُّ كل الناس. إنه تراثنا، ويستطيع كلٌّ منا أن يستخدمه. وإذا كنا لا نريد تخفيض نوع معين من الجريمة فحسب أو حماية بعض الضحايا المعينين، إن لم نقل إبعاد العنف عن طريقنا، فمن المحتمل أنَّ اللاعنف هو الأمر الوحيد الذي بوسعنا استخدامه. إذا وضعنا ساتياغراها تمثال المعبد إلى جانب فعل كارين ريد الأصغر بكثير والذي بدأنا به (أصغر من ناحية عدد الناس المشاركين فيه)، نرى أن القوة الدافعة ذاتها تكمن وراء كلٍّ منهما، ويمكننا أن نفهم السبب الذي جعل الكثيرين لا يترددون في دعوة تلك القوة بالمحبة – المعنى هنا ليس العاطفة التي عادة ما ندعوها بذلك الاسم، بل التفاني المُضحِّي بالنفس كما فعلت كارين من أجل صديقتها (وقضيتها)، والذي كان قويًا إلى درجة أنه تغلَّب على خوفها على حياتها، بالضبط كما هي محبة الحشود اليهودية لدينها وثقافتها مما جعلها تضع حياتها، دونما تردد، تحت رحمة سيوف الرومان. إنَّ هذه القوة، والتي تبدو المحبة تعبيرًا صائبًا عنها، كانت موجودة دومًا في الوعي الإنساني. ولسوء الحظ، وخصوصًا في أزمنة مثل زماننا، نجد صعوبة كبيرة في إخراج تلك القوة إلى السطح، لكن هذا يتغير. اللاعنف قانون، وليس ضربة حظ. والساتياغراها ليست مصيبة حينًا ومخطئة حينًا آخر. هناك بلا شك، كما يقول بيبيسكي، عناصر "انحراف" ونتائج مفاجئة عندما نتعامل مع أمر مُرهَف كـ"قوة الحياة" (كما دعاها غاندي)، لكن هذا لا يعني أنه ليس بوسعنا أن نتعلَّم أكثر عن تلك القوة، وأن نبدأ باستخدامها على نحو أكثر تنظيمًا. فكون الكومبيوتر يُخفق، لأسباب معروفة له وحده، فهذا لا يعني أنه ليس هناك شيء كالطاقة الكهرومغناطيسية، أو أننا لن ننجح أبدًا في إعادته للعمل. ورغم أننا لا نستطيع دائمًا التنبؤ، بدقة، بكيفية ظهور التدخل اللاعنفي إلى السطح المرئي للأشياء، ما زال بوسعنا تنمية اللاعنف كقوة من قوى الطبيعة. وفي الحقيقة، اللاعنف قوة من قوى الطبيعة – اتفق فقط أن يكون قوة من قوى الطبيعة البشرية، والتي هي النوع الأكثر مخادعة. فنحن، ككائنات بشرية، وكما يقول الكاتب العلمي لويس يونغ، "مُعقَّدون، سريعو التأثر، تسهل قولبتنا". لكن، نكرر، هذا لا يعني أنه ليست هناك قوانين تحكم سلوكنا، أو أن هذه القوانين سلبية فحسب. الرسالة التي تصلنا من جزيرة القيامة هي أن سبيل العنف يُفرِّخ عنفًا أكثر؛ فارتكاب الأعمال الوحشية يصبح أسهل على نحو متصاعد عندما يعزَّز بالتراث ويُدعَم بالتقاليد. ومن جهة أخرى، يمكن لأفعال الشفقة والرحمة أن تُعزَّز في مجتمع متمدن. الطبيعة البشرية معقَّدة، سريعة التأثر، وسهلة القولبة، ومُؤهَّلة لكلٍّ من الخير والشر، ويمكن أن تتأثر بتجارب الحياة. وإنَّ تربية قائمة على العنف تكشف النقاب عن الوحش في الطبيعة البشرية[47]. أما التربية القائمة على اللا-عنف؟ فيسرُّنا استكشافها الآن ومباشرة. ترجمة: غياث جازي ٭ فصل من كتاب البحث عن مستقبل لاعنفي، مايكل ناغلر، ترجمة غياث جازي، معابر للنشر، دمشق، 2009. [1] Mahoney, L. and Eguren L. Unarmed Bodyguards: International Accompaniment for the Protection of Human Rights. West Hartford, CN: Kumarian, (1997), p. 176. I am also drawing on verbal reports from several PBI workers (the story was well known in PBI circles before Mahoney and Eguren’s important book appeared). أعتمد هنا أيضًا على تقارير شفهية نقلت عن عدة عاملين في ألوية السلام الدولية (وهذه القصة معروفة لديهم حتى قبل أن يتحدث عنها ماهوني وأيجورن في كتابهما الهام). [2] I am drawing on verbal reports from several PBI workers. The story was well known in PBI circles before Mahoney and Eguren’s book. أعتمد هنا أيضًا على تقارير شفهية نقلت عن عدة عاملين في ألوية السلام الدولية (وهذه القصة معروفة لديهم حتى قبل أن يتحدث عنها ماهوني وأيجورن في كتابهما الهام.
[3] أحد المنتمين إلى طائفة الأصحاب (الكويكرز) الذين يدعون إلى التقشُّف في الملبس وفي الطقوس الخارجية ويناهضون الحرب. (المترجم) [4] Boulding, Kenneth E. Three Faces of Power. Newbury Park, CA: Sage, 1989. The following quote is on p. 10. [5] Ibid, p.10. [6] Erdman, David V., editor. The Poetry and Prose of William Blake. Garden City, NY: Doubleday, 1970, p. 36. Mary E. Clark, The Search for Human Nature. London: Routledge, 2002, pp. 58-59. [7] City of God XIX.12, my translation. [8] علم دراسة جذور الكلمات وتأريخها. (المترجم) [9] Violare: Lewis, Charleton, and Short, Charles. A Latin Dictionary. Oxford: Oxford University Press, 1962, under violare. [10] Lusseyran, Jacques. And There Was Light. New York: Parabola, 1987, p. 178. [11] (Mt. 5.21f). [12] مؤسسة صناعية صغيرة تستخدم العمال بأجور رخيصة في شروط غير صحية. (المترجم) [13] Galtung, Johan. “Violence, Peace, and Peace Research,” Journal of Peace Research, Vol.6: No.3 (1969) pp. 168ff. Galtung restated this definition several times elsewhere, with minor changes. وقد أعاد غالتونغ هذا التعريف عدة مرات، وإن بأشكال مختلفة قليلاً. [14] Rachel M. Macnair. Perpetration-Induced Traumatic Stress. Westport, CN: Praeger, 2002. Also her The Psychology of Peace. Westport, CN: Praeger, 2003. See also the documentary by Patricia Foulkrod, Ground Truth, on PITS among Iraq veterans. [15] Confessions I.xviii; my translation [16] For some bibliography, see Worthington, Everett, editor. Dimensions of Forgiveness: Psychological Research and Theological Perspectives. Radnor, PA: Templeton Foundation Press, 1998, and McCullough, Michael E., Kenneth I. Pargament, and Carl E. Thoresen, editors. Forgiveness: Theory, Research, and Practise. New York: Guilford Press, 2000. [17] Medical Abstracts Newsletter, 1993. [18] cf. Ivie, Robert L., “Metaphor and the Rhetorical Invention of Cold War ‘Idealists,’” Communication Monographs 54, (1954) pp.165-181. [19] This AP story from the Los Angeles Times for Aug. 11, 1993, p. B7. [20] Prothrow-Stith, Deborah. Harvard Alumni Gazette, April 23, 1992, sec. Q&A, p. 23. Following quote from p.24. [21] Ibid, p.24. [22] Ramdas, Swami. Ramdas Speaks, Vol. III. Bombay: Bharatiya Vidya Bhavan, 1957, p. 149. [23] “Nonviolence” in English: See Pam McAllister, You Can’t Kill the Spirit: Women and Nonviolent Action. Philadelphia: New Society, 1988, p. 9. [24] Hunt, James D. Gandhi and the Nonconformists. New Delhi: Promilla, 1986, pp.54ff. [25] CWMG. 1999, Vol. 34, p. 94: originally Satyagraha in South Africa, p. 103. [26] Ibid. [27] Ibid. [28] Friedman, Robert. I. “An Unholy Rage,” New Yorker, May 7, 1994, p. 54. [29] عبارة تفيد في الإشارة إلى العالم الطبيعي العنيف الذي تتلطخ فيه أسنان ومخالب الحيوانات المفترسة بدماء فرائسها. وقد ورد هذا الاقتباس في قصيدة مُطوَّلة للورد تينيسون (Memorium 1850). وفي القرن العشرين، استخدم الدارويني ريتشارد داوكينز هذه العبارة في كتابه الجينات الأنانية لتلخيص سلوك جميع الكائنات الحية التي تنشأ من مبدأ البقاء للأصلح في البيولوجيا التطورية. (المترجم) [30] المذهب الكلبي Cynicism: مجموعة فلسفية يونانية وُجِدَتْ بين عامَي 437 و370 ق م. وتستند أخلاقيات الكلبيين، بشكل عام، إلى رفض الأعراف الاجتماعية، التي يميِّزون بدقة بينها وبين الطبيعة التي كانوا يدَّعون الرغبة في الرجوع إليها. من هنا، يمكن تفسير ازدراءهم الكبير للعلم وتأكيدهم بأن الخير الوحيد إنما هو الفضيلة – (معابر: القاموس الفلسفي). [31] بريماتولوجيا Primatology: علم دراسة الحيوانات الرئيسات، وهي رتبة من الثدييات تشمل الإنسان والقرود. (المترجم) [32] de Waal, Frans. Peacemaking Among Primates. Cambridge, MA: Harvard University Press, 1989, p. 1. [33] CWMG, Vol. 34, p. 267. [34] Pyarelal. The Epic Fast. Ahmedabad: Navajivan, 1932, p. 35. [35] لي وينرمان، مرآة العقل، مراقب علم النفس 36,9 (2005): 49 - 50؛ م. ويلر و س. فيسك: ضبط التحيُّز العرقي، العلم النفسي 1:16 (2005)، 56 - 63. [36] Arendt, Hannah. On Violence. New York: Harcourt, Brace & World, 1969, p. 80. [37] Frady, Marshall, “The Outsider, II,” New Yorker, March 10, 1992, p. 70. [38] These two quotes respectively from CWMG, Vol. 30, pp. 66f. [39] Vol. 9, p. 392. [40] See chapter 8 for more on this strange similarity between “new” physics and nonviolence. [41] These two quotes from Pepinsky, Harold E. The Geometry of Violence and Democracy. Bloomington, IN: Indiana University Press, 1991, pp. 44. [42] Ibid., 127. [43] Gandhi, M. K. Hind Swaraj, or Indian Home Rule. Ahmedabad, Navajivan, 1938, p. 70. [44] (المرجع المذكور، ص 233). [45] Crossan, John Dominic. The Historical Jesus: the Life of a Mediterranean Jewish Peasant. San Francisco: Harper Collins, 1991, pp. 130-132. [46] Ibid., 136. See also Akers, Keith. The Lost Religion of Jesus: Simple Living and Nonviolence in Early Christianity. New York: Lantern Books, 2000. لقد لاحظ غاندي ذات مرة أن الوحيدين الذين لا يأبهون لكون يسوع لاعنفي هم المسيحيون. [47] Young, Louise B. “Easter Island: Scary Parable.” World Monitor, August 1991, p. 45.
|
|
|