|
الصورة من الوظيفة السحرية إلى البراغماتية
اقترنت الصور المرسومة على جدران الكهوف في العصور الحجرية بالسحر والطقس، إذ برع إنسان تلك العصور في رسم الحيوانات التي يريد صيدها، كالوعول والثيران والأيائل والجواميس والخيول المتوحشة، بطريقة دقيقة للغاية، اعتقادًا منه أنه بذلك سوف يمتلك روحها ويسيطر عليها. وقد دلل علماء الأجناس على ذلك ببعض المظاهر الطقوسية التي صاحبت بعض الرسوم، أو أنهم استخدموا هذه الطقوس لبعث الشجاعة وطرد الخوف من نفوس الصيادين. ويعتقد بعض هؤلاء العلماء أن الرسوم كانت تستخدم كوسائل إيضاحية لتعلم طرق الصيد التي استخدمها الصيادون المهرة، حيث تظهر الحيوانات المرسومة والسهام تنهال عليها وتتجه إلى أماكن قاتلة في أجسامها. في العصور التالية، وتحديدًا منذ بواكير العصور التاريخية التي بدأت باختراع الكتابة في سومر، اكتسبت الصورة وظائف دينية وجمالية وتعليمية. أما اليوم فإن الإنسان يعيش عصر مركزية الصورة وسيادتها بامتياز، فهي تحيط به من كل الجهات، وتفرض هيمنتها عليه أينما كان: في البيت حيث التلفزيون والفيديو والـ"دي في دي" والإنترنت وأجهزة ألعاب الأطفال الالكترونية، والشارع حيث الإعلانات بمختلف أشكالها الثابتة والمتحركة والمضيئة، والمكتبات والأكشاك، التي تعرض الكتب والصحف والمجلات والأقراص المدمجة، وأماكن العمل، والملاعب الرياضية، ووسائل المواصلات، ودور المسرح والسينما، وقاعات المحاضرات في الجامعات والمدارس والجمعيات والنقابات، والمطاعم والنوادي والملاهي والمراقص... إلخ. في كل هذه الأماكن ثمة الهاتف الجوَّال يلتصق بالإنسان التصاق الظفر باللحم، مختزنًا صورًا ثابتةً أو متحركةً لمن يحب. لا تصح المقارنة طبعًا، بين حضور الصور في مجتمعاتنا العربية وحضورها في المجتمعات الصناعية الكبيرة، فقد بلغ طغيانها على الأخيرة حدًا دفع المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه إلى إطلاق صرخة في كتابه أو بيانه الفكري موت الصورة، مفادها أننا أصبحنا معرَّضين لفقدان البصر من كثرة الصور التي تعرض علينا، فلم نعد ندري من أين تأتي، ولا ماذا تعني، ولا لماذا تستخدم. إن ما دفع دوبريه إلى إصدار ذلك البيان هو السيل المتدفق بلا انقطاع للصورة التلفازية، الذي جعل الصورة مجردة من أي مرجعية أو صلة لها بحقيقة رمزية أو دينية، فتكسب استقلاليتها، وتنفلت من مبدأ الواقعية. وهذا هو من وجهة نظر دوبريه الحاضر الأزلي للبصري المهووس بالسرعة، بالأكثر والأسرع حيث الريادة لتابع مجهول ومتوحش. يقول الفيلسوف الفرنسي جان بودريار عن حرب الخليج الثانية إنها لم تقع، بل شاهد الناس منها نسخةً تلفزيونيةً، أي مصورةً. في السياق نفسه أكد مواطنه الفيلسوف بول فيريليو أن زمن الصورة هو زمن التلفيق، ودليله على ذلك هو الحرب الإعلامية التي دخلناها مع حرب الخليج الثالثة، التي انتهت باحتلال بغداد، وتبشر بحقبة إمبريالية عالمية جديدة هي التتويج الحي لعصر عولمة الصورة والأمبراطورية معًا. يقول الدكتور خالد حسين، بحرارة تنبثق من رؤيته لثقافة الصور كغزو، بل وحش يستهدف التهام الوجود الإنساني واستبدال عالمه بعالم بديل هو عالم المرئي: يتبدى المشهد الكوني كما لو أن الأمر يتعلق بغزو مؤجل، فانفلت من عقاله في غفلة مريعة من مشيئة المقتدرين على أمره، وبانذهال صامت ومحير من الطرف المستهدف بالغزو، هكذا حال العالم اليوم في مواجهة سيل الصور وهي تجتاحه تحت طائلة الهيمنة والإمبريالية الجامحة لجنونها، تأتي الصور لتنتقم لحضورها – الغائب في غمرة الزمان المنقضي – لتستيقظ فجأة وتلتهم العالم بلذة، وتحاصر الكائن الإنساني بطريقة لا مثيل لها. إنها الصورة تغزو العالم وتعربد في فضاءاته، وتدكُّ أمكنته بجيش جارف من كائناتها. سيل من الصور لا يتوقف، يتغلغل في كل مكان حتى غدا الأمر أقرب إلى الفكاهة والرعب في آن واحد. إن الصورة، كما يرى الدكتور سليمان العسكري، باتت جزءًا من الواقع المعيش في زمننا، وربما صارت بديلاً منه، بل حتى أداة تصنيع لعالم متخيَّل – غير حقيقي – ينوب عن العالم الحقيقي لأهداف وغايات لا يمكن أن تكون حميدة في معظمها، وإن كان بعضها حميدًا، من زاوية واقعنا العربي. هكذا لم تعد الصورة محض أطياف من أثير بل أداة حفر وتشكيل وصياغة لمتلقيها، أي إخضاعًا لاشعوريًا لإرادة خارج الذات التي لا تصنع أو لا تشارك في صنع هذه الأداة، كما تُتهم عاصفة الصور بكونها مسيرة للقطيعة مع أشكال الماضي كافة، وفي قلبها الهويات الثقافية الخاصة أو المحلية لبعض الشعوب التي لم تعد تصنع حاضرها وتاريخها، بل يصنعهما لهم الآخرون الأقوى بمعايير عالم اليوم، وصناعة الصورة هي واحدة من معايير القوة لدى القوى المهيمنة الآن. لقد أخذت دور النشر، وخصوصًا الغربية منها، تنشر خلال العقد الأخير عشرات الكتب التي تعنى بهذا الموضوع، ويكاد أغلب مؤلفيها يتفقون على إطلاق تسميات متقاربة، تشير إلى هيمنة الصورة على عصرنا الحالي، مثل: عصر الصورة، وعالم الصورة، وحضارة الصورة، وثقافة الصورة، وزمن الصورة، وعاصفة الصورة. وسرعان ما انتقلت عدوى الموضوع إلى المشهد الثقافي العربي، فظهرت بعض المؤلفات التي تبحث في عالم الصورة، وتقنياتها، وإيديولوجيتها، ومجالاتها، وأهدافها، وأبعادها السيميائية، وعلاقتها بالعولمة، والحرب الإعلامية، وغير ذلك. منها، على سبيل التمثيل لا الحصر، كتاب عصر الصورة لشاكر عبد الحميد، والثقافة التلفزيونية لعبد الله الغذامي، وعبقرية الصورة والمكان لطاهر عبد مسلم. وقد تفاوتت رؤية هؤلاء النقاد والكتاب لسيادة الصورة وثقافتها في حياة إنسان الألفية الثالثة، ونبَّه أغلبهم إلى خطورة استخدامها، وتكريسها لديكتاتورية امتلاك الحقيقة العلمية المطلقة. كما انتبهت بعض الجامعات العربية إلى هذا الموضوع، فنظَّمت مؤتمرات وندوات بحثية لدراسة تجليات الصورة في مختلف الحقول الثقافية، منها، مثلاً، مؤتمر "ثقافة الصورة" الذي نظمته كلية الآداب والفنون في جامعة فيلادلفيا عام 2007، ومن بين محاوره: "الأدب في عصر الصورة الالكترونية"، "الصورة في وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري"، "الصورة: التحدي والاستجابة". وقد أشار منظمو المؤتمر، في تحديدهم لجدوى تنظيمه، إلى الدور المتعاظم للصورة في مجال تواصل البشر وتسجيل خبراتهم وأحوالهم، ناهيك باقتصاديات صناعتها، تحولها من الهامش إلى المركز، ومن الحضور الجزئي إلى موقع الهيمنة والسيادة على غيرها من العناصر والأدوات الثقافية. مما تقدم يمكن الاستنتاج: - إن الحضور المتعالي للصورة، أو نزعتها المركزية في عالم اليوم، بوصفها الأداة المتحكمة بالمعنى والثقافة والوجود الواقعي للأشياء والظواهر، أصبح يفوق نزعة الصوت المركزية، أو ميتافيزيقيا الصوت، التي تهيمن على خطاب اللغة، بحسب تعبير ديريدا. - إن للصورة في عالمنا اليوم وجهين: أحدهما سلبي، والثاني إيجابي، فهي مشروطة بنيات منتجها ورؤيته، سواء أكانت جمالية أم براغماتية. لكن في جميع الأحوال "لا تفكر الروح أبدًا من دون الصور"، كما يقول شيخ النقاد أرسطو. وأرى أن هذه المقولة هي المفتاح الذي يقودنا إلى الأفق الآخر، المشرق، للصورة، وأعني بلاغتها وجمالياتها في الخطاب الإبداعي. فالصورة، مثلاً، معيار شاعرية القصيدة، أي بمعنى أنها من دون صور بليغة، أخاذة، موحية، ومتوهجة تبقى محض ألفاظ متراصة، والكلام التقريري الجامد، ويكفي قول الجاحظ: "إنما الشعر صناعة وضرب من التصوير". عجز القاص، أو الروائي عن تصوير الأحداث، وفضاءاتها، وأفعال الشخصيات ومكنوناتها بأساليب بلاغية متباينة لا ينتج عوالم سردية، والمسرح (وكذلك السينما) الذي يتوسل الثرثرة اللفظية، والحكي المسترسل في فضاء أيقوني ساكن، ويهمل الأطر البصرية (الحركية والتشكيلية) يتحول منبرًا للخطابة الرتيبة. أما الفنون البصرية الخالصة فأهمية الصورة، وبلاغتها في تكوينها لا تحتاج إلى بيان. النهار
|
|
|