|
ملاحظات حول أسباب "فشل" التجربة الاشتراكية
أولاً: من الناحية النظرية: كانت هناك خلافات نظرية حول: 1) إمكانية نجاح الثورة في بلد غير متقدم صناعيًا مثل روسيا. فماركس كان يرى أن البلد الأكثر تقدمًا من الناحية الصناعية، مع طبقة عاملة قوية تشكل أكثرية العاملين، هو المؤهل لبناء الإشتراكية، وكان هناك مفكرون روس مع هذا الرأي. أمَّا لينين فقد أعطى للعامل الذاتي دوراً أكبر، بمعنى أنه رأى حالة ثورية استثنائية في روسيا تجعل قيام الثورة حتميًا، وإذا لم يقدها الشيوعيون فسيقودها غيرهم. (من هنا جاءت تسمية المناشفة والبلاشفة أي الأقلية والأكثرية في الحزب). وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي ظهرت آراء عديدة تقول إن سبب الفشل كامن في أن الثورة لم تكن في بلد متقدم صناعيًا، وأن الرأسمالية لم تأخذ مداها. (ولكن ماذا عن الصين؟) 2) إمكانية نجاح الثورة في بلد واحد. فالنظرية بالأساس تفترض أن تقوم الثورة في عدة بلدان دفعة واحدة، لكي تتمكن من الدفاع عن نفسها ضد هجوم القوى الرجعية (الرأسمالية والإقطاعية ...). وكانت الحرب الأهلية في روسيا في العشرينات مثالاً على ما يمكن أن تتعرض له الثورة الاشتراكية في محيط رأسمالي، حيث دعمت البلدان الغربية "البيض" ضد "الحمر" في كل شيء تقريبًا. لكن الإرادة الصلبة للثوار، والدور الذي لعبه قرار ستالين بفرض اشتراكية الزراعة، أديا إلى استمرار الثورة. لكن هنا أيضًا كان للفظائع التي ارتكبت أثناء تطبيق اشتراكية الريف دور في اهتزاز قناعة الكثيرين بجدوى الاشتراكية بهذا الثمن الإنساني الباهظ. ثانيًا: في التطبيق العملي: الأصل في الاشتراكية المساواة. أو بكلام أدق مبدأ "من كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب عمله". كيف طبق ذلك؟ في الصناعة حسب ساعات العمل، وكذلك في الزراعة من حيث المبدأ. لكن العمال، لاسيما في الزراعة، ذوو إنتاجية متفاوتة. إذ يمكن لعامل أن ينتج أكثر من آخر في نفس المدة الزمنية. وكانت تجربة الكولخوزات محاولة لمنح إدارة الجمعيات التعاونية الزراعية سلطات أكبر في توزيع المحصول. هنا تدخل عامل "الأخلاق". كان ماركس ولينين، وخاصة لينين، يتحدثان عن "أخلاق شيوعية"، تجعل الإنسان محبًا لعمله، راضيًا عنه، ومقدمًا كل إمكاناته فيه. لكن هذه الأخلاق لا تتكون في سنوات ولا حتى في عقود، بل لا بد من أجيال لتكوينها. (لهذا السبب كان لينين ضد فرض الاشتراكية بالقوة على الفلاحين). ومن باب الأخلاق أيضًا مسائل "المحسوبية" والعلاقة مع السلطات وما شابه. ولذلك لم يكن تقدير حصة الفلاح من المحصول متعلقًا فقط بعمله، بل أيضًا بعلاقته بالحزب وبالمتنفذين... وشمل هذا معظم نواحي الإنتاج. ومع تطور البلاد، وتقدم الصناعة، وزيادة الإنتاج، والتشدد في مركزية الاقتصاد... تعاظمت البيروقراطية (وبالتالي المحسوبية وما شابه) وصار التفاوت في الدخل يتزايد. وقد جرت محاولات عديدة لإعطاء المؤسسات دورًا أكبر في تحديد سياساتها، مثل سياسة "النيب" اللينينية، وسياسات خروتشوف الإصلاحية، وأخيرًا بيريستر ويكاغورباتشوف. لكن البيروقراطية (وفيما بعد الفساد) صارت تستشري أكثر، مما أفقد الاقتصاد حيويته، وحد كثيرًا من روح المنافسة، ولم تعد السلطة تسمع صوت الشعب المطالب برفع مستوى حياته المعيشية لتقترب من مستوى حياة الأمريكان أو غيرهم من الدول الصناعية المتقدمة (ألم يصبح الاتحاد السوفيتي دولة عظمى فلماذا لا نحصل على الجينز ونستورد الماركات العالمية، ولماذا ما تزال السيارات السوفيتية متخلفة كثيرًا عن اليابانية أو الألمانية...). ثالثًا: العوامل الخارجية: كان السوفييت مقتنعين تمامًا بأنهم سيتمكنون من مواجهة الرأسمالية العالمية بثلاث طرق: 1) التسلح بما يجعل الاتحاد السوفييتي قادرًا على أية مواجهة عسكرية مع الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة. ومنذ بداية الحرب العالمية الثانية صارت ميزانية التسلح ضخمة جدًا بالمقارنة مع إمكانات الاقتصاد السوفييتي. وزادت الإنفاقات العسكرية بوتائر متعاظمة مع السباق النووي، وغزو الفضاء وغيرها. كانت أمريكا (والغرب كله) تسيطر على كثير من ثروات العالم، وتنمي اقتصادها مع سباق التسلح، في الوقت الذي كانت الدولة السوفيتية فيه تقتطع من دخلها المحدود من أجل ذلك السباق. وهذا أثر كثيرًا في تدني مستوى معيشة شعبها (مع الأخذ بالاعتبار أن الثروة هنا توزع بشكل أكثر عدالة بما لا يقاس من الغرب، وأن الحديث يدور عن متوسط دخل الفرد وليس عن فقراء البلدان الغربية). 2) التحالف الوثيق مع الحركة العمالية والشيوعية في البلدان الرأسمالية. حيث كانت تقدم المساعدات الكثيرة لتلك الحركة، ولكن في الوقت نفسه كانت الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في البلدان الرأسمالية أكثر تحررًا وديمقراطية من الحزب الشيوعي السوفيتي (بحكم الديمقراطية الغربية وتقدم المجتمعات الغربية بوجه عام). ونظرًا للتواصل الدائم مع تلك الحركات والأحزاب، انتقل إلى شباب الحزب السوفيتي، وإلى المثقفين عمومًا، الوعي بأهمية الديمقراطية داخل الحزب والمجتمع، مما خلق تذمرًا من الطريقة التي كانت تدار بها الأمور، ونقمة على السلطة حتى داخل الحزب. 3) مساعدة حركات التحرر الوطني في العالم للخلاص من الاستعمار والهيمنة الإمبريالية. وتلك المساعدة كانت من الضخامة بحيث أرهقت الاقتصاد السوفيتي، دون أن تخلق حلفاء حقيقيين للمنظومة الاشتراكية كما كان السوفيت يأملون. الأسلحة والمصانع والسدود وغيرها ذهبت هباء في بلدان مثل مصر وسورية والجزائر والعراق و... إلخ. حتى الصين دخلت في صراع مع السوفيت في وقت حرج جدًا. النتيجة: كانت كل تلك العوامل تتفاعل في مجتمع تحكمه سلطة شمولية، بيروقراطية (ثم تبين أنها فاسدة أيضًا)، لكنه مجتمع متعلم، مثقف، يتواصل مع العالم بوسائل اتصال حديثة. يرى ما حوله ويتساءل أين نحن من الأهداف التي وضعتها الثورة، ولماذا نحن متخلفون عن الآخرين؟ وفي الوقت ذاته كانت الدعاية الأمريكية والرأسمالية عمومًا تنفخ في هذه النار التي بدأت تشتعل. وتم استغلال كل الأخطاء التي وقعت فيها السلطات السوفيتية، من مشكلات ألمانيا الشرقية وجدار برلين إلى تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا... إلخ، إلى الخلافات داخل الحركة الشيوعية والعمالية العالمية. فجاءت البيريسترويكا، رغم مبادئها الصحيحة، متأخرة جدًا، وبداية للتحرك باتجاه السقوط. ثم جاء يلتسين ليكمل المسار إلى النهاية. لقد سقطت إحدى التجارب الاشتراكية، لكن الاشتراكية نفسها لم تسقط. والاستقطاب العالمي اليوم بين الفقر والغنى أوضح من أن يغطى بأية مقولات. العدالة الاجتماعية كانت وما زالت إحدى أهم القيم الإنسانية العليا. والعالم اليوم بحاجة لإعادة طرح الاشتراكية أكثر من أي وقت مضى، ولكن مع الأخذ بالاعتبار أهم درس قدمته التجربة الاشتراكية الأولى: لا يمكن حماية أية تحولات باتجاه العدالة الاجتماعية بدون ديمقراطية، بدون سيادة القانون، وحرية التنظيم السياسي والتعبير عن الرأي، وبالتالي مراقبة الشعب الدائمة للذين يفترض أنهم يمثلونه في إدارة شؤون بلاده. 3-3-2011 |
|
|