|
أوراقٌ سافرة... من دفتر عربية مسافرة
"2" وفي موطنِ النعام، حدث "ويحدث" على الدوام، مع القوَّام الذي لا يُخطئ ولا يُلام، أن وقف أمام المرآة، نظر إليها مليًّا، ابتسم في وجهها، مسح صفحتها بنعومة، أسرَّ لها بمحبته، حدثها طويلاً عن مكنون قلبه، وكان الأثير شاهدًا عليه، ينسخ ما يقول، لا يغادر كبيرةً ولا صغيرةً إلا أحصاها، مما كان يبوح به للمرآة، ولن أقول لمرآته، خشية أن يتوهم قارئٌ ما، أن هذه الهاء باعتبارها ضمير الغائب المتصل، تعني حتمًا الملكية والاستحواذ، فيفقد النص بعضًا مما يرمي إليه وربما كلَّه، وما العيب بالهاء المدورة العظيمة، ولكن في فهم ضمير الغائب هذا، بل وسائر الضمائر. قال: "أيتها المرآة، يا مرآتي الصافية، آه لو تدرين كم أحبك، وكم قلبي متعلِّقٌ بك، وروحي تمجِّد سجاياك في عليائها، فوحدك تعكسين باطني بكلِّ صدق، وتسبرين أعماقي بسهولة، فتصلين إلى مالم يصله من قبل مخلوق، تستنهضين أحلامي الغافية، وتترجمين مشاعري العصية، وتداعبين طفولتي المنسية، فكأنك خلقت من نورٍ لا من طين، وكأن اليد التي صنعتك، ليست ذاتها من صنعت سائر الخلق. فتباركت من ملاكٍ خالط البشر، ويا حبذا جسد كأنه الصدفُ يخفي في جوفه الدرَّ. كم مرة أتيتك متعبًا، فأراحتني نظرةٌ واحدةٌ من صمت عينيك، وكم مرة تأملتك في موجة غضب، فامتصصت هيجاني، وسكَّنت روعي. أما فرحي، فأنت شريكتي به، لا يساورني في ذلك ظنُّ ولا شكُّ. ما أجمل أن تكوني حبيبتي، وما أمتع أنك لي، لي وحدي خُلقت، فابقي سيدة مملكتي، ولا تغادري عرش قلبي فإني على ما عهدتني شديد الغيرة على مقتنياتي، وأخاف عليكِ من عبث العابثين، وطمع الطامعين، فيتكسَّر الأبيض الشفاف، بأيدي العابرين. ابق حيث أنت يا مرآتي الحبيبة، ولا تغادري مساحة نظري، فبي خوف يسكنني، وهاجس يلازمني، أن أستيقظ يومًا ولا أجدك، وأروح أبحث عنك فلا ألقاك، فأستنجد بالذكرى تأبى أن تنجدني، أو تروي غليل ظمأي إليك. أرجوك، ابقي الرقيقة الشفيفة، واحتي واستراحتي، في جدب وتعب العمر، ولا تتركيني لمتاهات سنيني، يا نصفي الثاني، ولا تضيعي مني في دروب الحياة الموحلة، لأني وحدي من يعرف قيمتك، ويقدرك حقَّ قدرك". عاد القوَّام بعد زمن، نظر في المرآة بغضب، عاتبها بحزن مرير، وكان صوته يعلو وينخفض في تواتر غريب. سمعه الأثير من جديد يقول: "آه يا مرآتي، ماذا فعلت بي، وأيُّ حلم هدمت؟! ما أفظع هذه البقع الداكنة التي بدأت تلوح على صفحتك، ألا اخبريني وأريحيني ما سرُّ السواد الذي بدأ ينقلب إليه بياضك. وأي شيطان تلبَّسك فأخرج كلَّ هذه الظلمة من أعماقك، أم تراها عدوى شريرة وصلتك، فما استطعت لها دفعًا ولا ردًا!؟ ملامحك لا أعرفها، غربة وغرابة فيها، كأني ما ألفتها عمرًا. صوتك ماعاد عذبًا، يدوِّي صمته صارخًا في مسمعي. من أنت، من أنت، أكاد لا أعرفك. مرعب ما يلوح بك، تعافه نفسي ولا تهواه عيني". ثم انهار تمامًا، وبدأ يهذي: "ابعدي وجهك عني، فما عدت مرآتي". وظلَّ يردد ويردد هذه العبارة حتى غاب تمامًا. في زمن لاحقٍ من عمر المرآة، حدث أن تكررت القصة مراتٍ ومرات، بفحواها، مع اختلاف التفاصيل والأشخاص، وكان السواد يمتدُّ شيئًا فشيئًا على صفحة وجهها، حتى أغرقها تمامًا في ظلمة دامسة. وروى الأثير فيما بعد، عن مصير مرآة أخرى، لها حكاية تشبه هذه، أنها كُسرت وتهشمت بيد حبيبها، لأنها أبصرته لما نظرها، فعكست بكل إخلاص وتلقائية، أعماقه التي لم يتسنى له أبدًا أن يراها، مادام أمضى العمر يظنُّ أنه مبرّأ عن الخطأ أوالشرِّ. أغلب الظنِّ أن هذه الحادثة كانت بداية عهد البداوة والقحط، في موطن النعام. حيث تنقل الأخبار أن سائر المرايا، بعد هذه الحادثة، خشين على أنفسهن من مصير كمصير رفيقتهن، فأقسمن ألا يبدين إلا ما يحب أن يراه بهن القوَّامُ عليهن، فتوارى الصدق تمامًا، واختفت الفطرة، تحت ركام الاستنساخ، لما راحت المرآة تبدي نصف حسنها فقط، بينما تخفي النصف الآخر لغدٍ لناظره قريب. حتى نسيت عبر الزمن وتعاقب العصور، أنها الحقيقة بطرفيها، والصفة بجناحيها، والنفس بما فيها، فلم تعد المرأة مرآة فارغة، ولا عادت ماء الحبيب الصافي، يأتيه ليرى انعكاس حقيقته "بفجورها وتقواها" في صفحته. تجمَّلت وتصنَّعت، غيرت وبدلت، رسمت ولونت، أظهرت وأبطنت، عَبدت واستَعبدت، صارت أيَّ شيء، إلا أن تكون تجسيد ثلاثية الوجود مجتمعة بلا تفريق: أنثى، امرأة، إنسانة. إذًا من أين نبتدئ الكلام، عن المرأة في وطن النعام، قبل أن يجفَّ الحبر وتنكسر الأقلام؟ وللحديث بقية... |
|
|