|
أيها الكَذِبْ، أرِنا وجهكْ
منذ كنتُ طفلاً وإلى اليوم تستهويني تلك الحزُّورة (الأُحجيةُ) التي هي في الوقت نفسه طرفة وحكمة وحكاية ولوحة. كانوا يتحدَوننا بأن نكشفَ لُغز الحزُّورة التالية التي تقول: إذا كنتَ تريد السفر إلى بغداد وأخذتَ طريقك إليها فستصادف بعد مرحلة من السير مفترق طرُق، وأنت لا تعرفُ أية طريق يجب عليك أن تتابع السير فيها. وسترى عند ذلك المفترق شخصين جالسيَن قُبالة بعضهما البعض، أحدهما كذَّاب، يكذب في كل ما يقول، والثاني صادق، يصدق في كل ما يقول، وأنت لا تعرف من هو الصادق ومن هو الكذَّاب، ولن تجد هناك شخصًا آخر غيرهما لِتسأله عن الطريق. فماذا تفعل؟. ويضيفُ المتحدّث قائلاً: هناك حلٌ، عليك أن تسأل أحدهما (لا على التعيين) السؤال التالي: إذا سألتُ الشخصَ الجالسَ قبالتك عن الطريق إلى بغداد فماذا سيقول؟ فسيجيبك الذي سألته على الفور: إن صاحبي الجالس هناك سيشير بيده ويقول: تلك هي الطريق. ويُكملُ المتحدِّث معنا والمتحدي لنا قائلاً: هنا عليك أن تختار – بدون تردد – الطريق الأخرى المعاكسة للطريق المشار إليها وستصل حتمًا. ويضيف سائلاً: كيف توصلنا إلى حقيقة الطريق المراد ونحن لا نعرف الصادق من الكذَّاب؟ طبعًا ليس هدفي إيراد (الحزازير) والأجوبة عليها، وقد يكون الكثيرون يعرفون مسبقًا الجواب، وكثيرون سيعرفونه بعد قليل من التفكير. إنما الذي شغلني ويشغلني، ويثير فيَّ الكوامن، هو التالي: نحن نعيش، في منطقة تقعُ في قلب العالم القديم، وأفترضُ أن معلوماتي صحيحة، وهي أنَّ أجدادنا في سورية، في وادي الرافدين، في مصر القديمة، في ليبيا، في اليونان، في آسيا الصغرى، لم يصلوا إلى اكتشاف وتشخيص وصنعِ التماثيل لقوَّةٍ أو ظاهرةٍ – هي برأيي – أقوى وأكثر حضورًا ونفوذًا وجبروتًا من كل القوى والظواهر التي شخَّصوها وأقاموا لها التماثيل وقدَّسوها، اتقاء لشَّرها أو رغبةً بها، كإله الرعد وإلهة الفن أو إله الخمر وغيرها. والظاهرة أو القوَّة التي أعنيها هي الكَذِب. أعود لأقول بأنني منذ الصِغَر وكلما كانت تقفزُ إلى ذهني صورة الكذَّاب الذي يقف على مفترق الطرق، كنتُ أخطو خطوةً في تأملاتي وتخيُّلاتي المُتعلَّقة بهذا المارد الجبار الذي اسمه الكذب. مَنْ خلقه ولماذا؟ من أين له كل هذا النفوذ وهذه السطوة؟! ولِمَ – خلافًا لكلِّ الظواهر الأخرى – تمَّ تجاهله من قبل هؤلاء الأجداد، حتى أنني بدأت أشكِّكك باتساع مُخيِّلتهم وبغنى واقعهم. هل كانوا يعانون من ضعف في المُخَيِّلة فعلاً! أم أن تفسير ذلك يعود إلى أن حضور الكذب ونفوذه كان بسيطًا في زمنهم؟ أم أن الأمر يُعزَى، إلى ما هو أدهى وأمرُّ، وما يثير الخوف في النفوس، والمُتَمَثِّل بالفرضية القائلة إن انقراض الآلهة القديمة كان سببه هو أن غول الكذب لبسَ (قبعة الإخفاء) وقدَّم السُّم لجميع الآلهة وأبادها في ليلة واحدة، ونصبَ نفسه إلها وحيدًا متخفيًا. وأننا الآن عندما نرى الكثير من الظواهر حولنا ولا نجدُ لها أي تفسير مقنع، وتُحَيِّرُنا، يكون هذا الإله الغول، يحاصرنا، من أمامنا، من ورائنا، من يميننا، من يسارنا، ويبقى دائمًا لنا بالمرصاد. |
|
|