|
صاحب الموصل
صدر عن "مركز دراسات الوحدة العربية" كتاب تاريخ النقود في نهاية العصر العباسي خلال فترة بدر الدين لولو للدكتور هشام البساط. يلقي هذا البحث الضوء على تحولات ضرب النقود الإسلامية في عهد بدر الدين، حاكم إمارة الموصل في زمن احتضار الخلافة العباسية، ويرصد من خلال هذه التحولات تقلبات الأحوال السياسية في زمن تصارع الدويلات الإسلامية التي نشأت مع انهيار السلطة المركزية. يعيد الكاتب رسم خريطة المنطقة السياسية والثقافية والاجتماعية، مستندًا بشكل أساسي إلى الكتابات والنقوش التي تبدَّلت وتغيَّرت بحسب مسار الأحداث وميزان القوى في حقبة معقَّدة انتهت باستيلاء المغول على بغداد ودخولهم في صراع جديد مع المماليك. اسمه على قطع النقود "بدر الدين لولو"، أما في كتب التراث، فهو "بدر الدين لؤلؤ". ذكره الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، وكتب في عرضه لسيرته: الملك الرحيم السلطان بدر الدين أبو الفضائل لؤلؤ الأرمني، النوري الاتابكي، مملوك السلطان نور الدين أرسلان شاه، صاحب الموصل. كان من أعز مماليك نور الدين عليه، وصيَّره أستاذ داره وأمره، فلما توفي تملَّك ابنه القاهر. وفي سنة وفاة الملك العادل، سلطن القاهر عز الدين مسعود ولده ومات رحمه الله، فنهض لؤلؤ بتدبير المملكة، والصبي وأخوه صورة... أقامهما لؤلؤ واحدًا بعد واحد، ثم تسلطن هو في سنة ثلاثين وست مئة. وكان بطلاً شجاعًا حازمًا مدبرًا سائسًا جبارًا ظلومًا، ومع هذا فكان محببًا إلى الرعية، فيه كرم ورئاسة، وكان من أحسن الرجال شكلاً، وكان يبذل للقصَّاد ويداري ويتحرز ويصانع التتار وملوك الإسلام، وكان عظيم الهيبة، خليقًا للإمارة، قتل أمراء عدة وقطع وشنق وهذَّب ممالك الجزيرة، وكان الناس يتغالون ويسمُّونه قضيب الذهب، وكان كثير البحث عن أحوال رعيته... كان يحتفل بعيد الشعانين لبقايا فيه من شعار أهله... ويحضر المغاني، وفي غضون ذلك أواني الخمور، فيفرح وينثر الذهب من القلعة، ويتخاطفه الرجال، فمُقِت لإحياء شعائر النصارى، وقيل فيه: يعظم أعياد النصارى... وقيل: إنه سار إلى خدمة هولاكو، وتلطف به وقدَّم تحفًا جليلة، منها جوهرة يتيمة، وطلب أن يضعها في أذن هولاكو فاتكأ ففرك أذنه، وأدخل الحلقة في أذنه ثم رجع إلى بلاده متوليًا من قبله... ثم مات في ثالث شعبان بالموصل سنة سبع وخمسين وست مئة.
الملك الرحيم سُبي لؤلؤ صغيرًا من أرمينيا، وأصبح واحدًا من مماليك الأتابك الزنكي نور الدين أرسلان شاه. الزنكيون سلالة تركية ظهرت في القرن الثاني عشر، حكمت سوريا والعراق، ومدَّت حدودها حتى مصر حيث قضت على الخلافة الفاطمية. انشقَّ عنها الأيوبيون بعدما كانوا في خدمتها لسنوات طويلة، وبقي منها فرع استمر في حكم الموصل ومحيطها. تربَّى لؤلؤ في كنف نور الدين أرسلان، ولفت نظر سيده، فأولاه بعض الشؤون الإدارية، ثم جعله أميرًا، وسمَّاه بدر الدين، وجعله وصيًا ومدبرًا لإبنه ووارث عرشه الملك القاهر مسعود. حكم القاهر ثماني سنوات، وترك عند وفاته ولدين، نور الدين ومحمود. حكم بدر الدين لؤلؤ الموصل بشكل غير مباشر، "والصبي وأخوه صورة"، كما نقل الإمام الذهبي. حاول عمُّ الصبيين عماد الدين الزنكي أن يمدَّ سلطته من قلعة الحميدية إلى الموصل، فتصدى له بدر الدين لؤلؤ، كما شهد ابن الأثير الذي عاصر هذه الأحداث. نقرأ في الكامل في التاريخ: كان عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بولايته، وهي قلعة عقر الحميدية، يحدِّث نفسه بالملك، ولا يشكُّ في أن الملك يصير إليه بعد أخيه، فرقع بدر الدين ذلك الخرق، ورتق ذلك الفتق، وتابع الإحسان والخلع على الناس كافة، وغيَّر ثياب الحداد عنهم، فلم يخص بذلك شريفًا دون مشروف، ولا كبيرًا دون صغير، وأحسن السيرة، وجلس لكفِّ ظلامات الناس، وإنصاف بعضهم من بعض. وبعد أيام وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية، ولبدر الدين بالنظر في أمر دولته، والتشريفات لهما أيضًا، واستقرت القواعد لهما. كان نور الدين بن القاهر في العاشرة من عمره عند تسلُّمه الحكم، وتوفي بعد عام، "وكان لا يزال مريضًا بأمراض عدة"، فسارع بدر الدين إلى ترتيب شقيق نور الدين في الملك، وكان له من العمر نحو ثلاث سنوات عندما سمَّاه الخليفة العباسي الناصر لدين الله أتابكا، وفرح أهل الموصل بهذه التسمية، إذ عرفوا أن لهم "سلطانًا من البيت الأتابكي، فاستقروا واطمأنوا"، كما كتب ابن الأثير. استمر الملك الصغير في الحكم "صوريًا" لمدة خمس عشرة سنة. حافظ بدر الدين على السلطة في الموصل في عهد وصايته على آخر الحكام الزنكيين، واستنجد بالملك الأيوبي الأشرف لردع خصومه، واستمر الصراع بينه وبين عماد الدين حتى وفاة الأخير في عام 1232، فأعلن استقلاله بالحكم، وتسلطن بالموصل بتأييد من الخليفة العباسي المستنصر بالله الذي لقَّبه بـ"الملك الرحيم"، وبتسلطنه "انقرض البيت الأتابكي"، كما كتب ابن العماد في شذرات الذهب.
تعدُّد الولاءات حكم بدر الدين لؤلؤ الموصل بشكل غير مباشر خلال فترة الوصاية على الملك القاهر ثم ولديه نور الدين ومحمود، واستمرت هذه الفترة أربعًا وعشرين سنة. بعدها تفرَّد بالحكم طوال ستة وعشرين عامًا تبدلت فيها ولاءاته بحسب مصالحه، وتشهد قطع النقود التي سُكَّت خلال تلك الفترة على تعدُّد ولاءات الحاكم وتقلُّبها وفقًا لمجرى الأحوال السياسية. يصنِّف هشام البساط في بحثه هذه النقود في ما يمكن وصفه بالكاتالوغ العلمي، ويقدِّم عرضًا بتحوُّل ولاءات صاحبها من خلال ما حوته من كتابات. سيطر لؤلؤ على منطقة حساسة تقع وسط قوى تتصارع على السلطة بشكل مستمر. كانت الموصل "محط رحال الركبان"، كما قال ياقوت الحموي في تعريفه بها، "ومنها يُقصد إلى جميع البلدان، فهي باب العراق ومفتاح خراسان، ومنها يُقصد إلى أذربيجان... سُمِّيت الموصل لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق، وقيل وصلت بين دجلة والفرات". حرص بدر الدين على إضفاء صفة الشرعية على حكمه، وأقام علاقة قوية مع الخليفة العباسي المستنصر، ثم المستعصم، "وذكر اسم كل منهما على التوالي على نقوده الذهبية والفضية والنحاسية حتى سقوط بغداد عام 1285". من جهة أخرى، تحالف بدر الدين مع الملك الأيوبي الأشرف، ثم الكامل، وذلك خلال فترة وصايته على آخر الملوك الزنكيين. احتدم الصراع داخل البيت الأيوبي إثر وفاة الملك الكامل، وحاول لؤلؤ أن ينتهز هذه الفرصة للتحرر من سلطة الأيوبيين، ولجأ إلى السلطان السلجوقي كيخسرو الثاني، وذكر اسمه على قطع العملة الذهبية بين عام 1239 وعام 1245: "السلطان الأعظم غياث الدنيا والدين كيخسرو". بعد وفاة كيخسرو، سعى بدر الدين إلى البحث عن حليف جديد، فوجد ضالته أولاً في شخص صاحب حلب الملك الناصر يوسف الثاني، ونقش اسمه على نقوده لمدة سنة، ثم ناصر صاحب مصر ودمشق الملك الصالح نجم الدين أيوب، وعند وفاته، عاد إلى ذكر الملك الناصر حتى مصرع المستعصم بالله ونهاية الخلافة العباسية. شهد لؤلؤ نهاية الخلافة العباسية، ويبدو أنه قدَّم الأسلحة والذخائر خلال هجوم المغول على بغداد طمعًا في المحافظة على حكمه، فبعث بفرقة يقودها ابنه الصالح إسماعيل للمشاركة في الحصار، لكن هذه الفرقة تأخرت في الوصول، مما أغضب هولاكو الذي أنذر لؤلؤ واتهمه بالمراوغة في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع. نقل المؤرخ السرياني ابن العبري هذه الواقعة في تاريخ مختصر الدول حيث جاء الكلام على لسان هولاكو: أنتم بعد في شك من أمرنا، وماطلتم نفوسكم يومًا بعد يوم، وقدَّمتم رجلاً وأخَّرتم أخرى لتنظروا من الظافر بصاحبه، فلو انتصر الخليفة وخذلنا لكان مجيئكم إليه لا إلينا. قل لأبيك: لقد عجبنا منك تعجبًا كيف ذهب عليك الصواب وعدل بك ذهنك عن سواء السبيل واتخذت اليقين ظنًا، وقد لاح لك الصبح فلم تستصبح. وصلت هذه الرسالة الزاجرة إلى لؤلؤ، فخاف خوفًا شديدًا، وكاد يخسف بدره ويكسف نوره. فانتبه من غفلته وأخرج جميع ما في خزائنه من الأموال واللآلئ والجواهر والمحرمات من الثياب، وصادر ذوي الثروة من رعاياه، وأخذ حتى حلي حظاياه والدرر من حلق أولاده، وسار إلى طاعة هولاكو بجبال همذان. فأحسن هولاكو قبوله واحترمه لكبر سنه، ورقَّ له وجبر قلبه بالمواعيد الجميلة، واستأمن إليه وداعبه وقدَّمه إلى أن أصعده إليه على التخت وأذن له أن يضع بيده في أذنيه حلقتين كانتا معه فيهما درتان يتيمتان. وأقام في خدمته أيامًا ثم عاد إلى الموصل مسرورًا مبرورًا، بل مذعورًا مما شاهد من عظمة هولاكو وهيبته ودهائه. قضى هولاكو على الخلافة العباسية ودمَّر حاضرتها، وباتت قطع النقد التي حملت اسم الخليفة السابع والثلاثين الشاهد الأخير على آخر عهد من عهود الخلافة التي استمرت خمسمئة وأربعة وعشرين عامًا. رافق لؤلؤ هذه الأحداث، وقام بضرب قطع ذهبية حملت أولاها اسم القائد المغولي "منكو قاآن الأعظم" وألقابه، ومعناها بالعربية "صاحب العالم سلطان ما على وجه الأرض زاده الله عظمة". وحملت قطعة أخرى الآية القرآنية: "ولله ملك السموات والأرض والله على كل شيء قدير" (آل عمران، 189). بعد سنة من وفاة لؤلؤ، ضُرب في بغداد دينار هولاكو الأول عام 1259، وحمل هامش الدائرة الآية السادسة والعشرين من سورة آل عمران: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء" (آل عمران، 26). الشواهد الفنية لا يكتفي هشام البساط بتحليل النقود التي ضُربت في عهد بدر الدين لؤلؤ. نجد في هذا البحث كشفًا بأهم الآثار المعمارية والكنوز الفنية التي ترتبط باسم صاحب الموصل. يشمل هذا الكشف القصور والمساجد والمراقد والأضرحة والمدارس، وأشهر هذه الشواهد أطلال قصر لؤلؤ المعروف باسم "قرة سراي"، أي السراي الأسود، على نهر دجلة شمال شرق الموصل، وقد مرَّ الرحَّالة نيهبوهر به في عام 1766، ووجد فيه "حوالي ثمانين إلى مئة تمثال آدمي، غالبها مقطوعة الرؤوس، تقف متتالية على صف طويل، مشبوكة الأيدي على الصدر، وتتشابه كثيرًا، كأنما صُبَّت في قالب كلسي واحد". في ميدان الفنون، يحضر اسم لؤلؤ على خمس أوان نحاسية تُعتبر من آيات فن صناعة النحاس المطعَّم بالفضة، أهمها صينية كبيرة محفوظة في مكتبة ميونيخ تحمل على حافتها شريطًا زيِّن بكتابة عربية بخطِّ النسخ مع بعض المفردات العجمية، ونصها: عز لمولانا السلطان/ الملك الرحيم/ العالم/ المجاهد/ المرابط/ المؤيد/ المظفر/ المنصور/ بدر الدنيا والدين/ سيد الملوك والسلاطين/ محي العدل في العالمين/ سلطان الإسلام والمسلمين/ منصف المظلومين من الظالمين/ ناصر الحق بالبراهين/ قاتل الكفرة والمشركين/ قاهر الخوارج والمتمردين/ حامي ثغور بلاد المسلمين/ معين الغزاة والمجاهدين/ أبو اليتامى والمساكين، فخر العباد/ ماحي البغي والعناد/ فلك المعالي/ قسيم الدولة/ ناصر الملة/ جلال الأمة/ صفوة الخلافة المعظمة/ بهلوان جهان خسرو إيران الب غازي اينتاج قتلغ بك/ أجل ملوك الشرق والغرب/ أبو الفضائل/ لولو حسام أمير المؤمنين. في المقابل، يظهر اسم بدر الدين لؤلؤ في نسخة بديعة من كتاب الأغاني توزَّعت أجزاؤها بين "دار الكتب المصرية" و"خزانة فيض الله" باسطنبول والمكتبة الملكية في كوبنهاغن، وهي من إنتاج 1218-1219. نجد في هذا المخطوط الاستثنائي "بورتريهًا" لصاحب الموصل يتجلى في منمنمات تصوُّر الأمير وحاشيته وفقًا للقوالب التشكيلية المتبعة في فن الكتاب العباسي، ويبدو اسم "لولو" واضحًا في بعض من هذه المنمنمات، وهو هنا مطرَّز على كُمَّي لباس الأمير، وذلك "للتشديد على هويته". في الجزء السابع عشر من هذا المخطوط، نرى الأمير جالسًا في ثيابه الزرقاء الموشَّحة بالذهب، حاملاً بيده قوسًا، يحوطه بثمانية أشخاص، وفي الأعلى ملاكان يحملان وشاحًا يمتد كالخيمة فوق رأسه. "وحول ذراعيه شريطان يحملان اسم بدر الدين لولو بن عبد الله". يتكرر الاسم بالشكل نفسه في الجزء العشرين حيث يظهر الأمير في الزي نفسه ممتطيًا فرسًا تقفز فوق بحيرة تحتوي على أربع بطات. يحمل بدر الدين بيسراه طير الباز، ويحيط بهامته ملاكان يظللانه بوشاحهما الملكي، وفقا للتقليد الإيقونوغرافي المثبَّت. النهار |
|
|