المسرح وقرينه لأنطونان أرتو
الإخراج بطلاً

 

محمد سيف

 

كتاب المسرح وقرينه لأنطونان أرتو يؤسس لمسرح من شأنه أن يستعيد قوته من خلال توحيد الجسم بالعقل، والمجرد بالملموس، والإنسان بالعالم، منتقدًا فيه المسرح الغربي الذي يركز على الكلام والعقلانية، مؤكدًا أنه فقد صحته عندما اتجه نحو الترفيه والتسلية. الكتاب مجموعة محاضرات نشرها المؤلف، منها: المسرح والطاعون، الإخراج والميتافيزيقيا، ومقالات حول المسرح والخيمياء، والمسرح الشرقي والمسرح الغربي، إلى بحثين عن مسرح القسوة، أحدثا ضجة كبيرة، والعديد من الرسائل.

تؤكد نظرية أرتو أن النص لا يصنع مسرحًا وإنما الإخراج يعتبر الأساس الحقيقي للمسرح المعاصر، مركزًا في أفكاره على الممثلين الذين يرسمون الفضاء بتحويلهم النص حركات، آخذًا في الاعتبار الموسيقى والصوت والإضاءة والإكسسوارات والأزياء.

مفهوم الإخراج جديد للغاية، ويعود إلى القرن التاسع عشر، أي إلى العصر الذي حدد فيه أندره أنطوان وظيفته في المسرح. تجاوز أرتو حدود هذه الوظيفة عندما كتب في المؤلف المذكور:

لم يعد الإخراج مجرد انعكاس لنص على مسرح، بل نقطة انطلاق كل خلق مسرحي، ومن دونه فإن المسرح لا يساوي شيئًا.

يتضمن هذا الموقف المتطرف ثلاث نقاط رئيسية: رفض النص، واستبداله باللغة المسرحية، وتجديد الجمهور لوظيفة المسرح، ووضعه تحت مصطلح مسرح القسوة.

رفض النص

يتم رفض النص في ثلاث مراحل: نلاحظ أولاً رفض نص المؤلف، أي النص المكتوب، والكلام الواضح. يرفض أرتو اللغة التي تعبِّر عن وجهة نظر الدراماتورج في فرنسا، لأن لها علاقة بعلم النفس غير المجدي، معترضًا على معايير المسرح الغربي وعلى حيوية مسرح البولفار نفسها التي خلقها أندره أنطوان. وهذه هي أيضًا ردود فعل جاك كوبو، الذي عمل في بداية القرن العشرين مخرجًا، وهي أيضًا الأفكار التي يمكن نسبها إلى مسرح الكارتل الذي تمثل في عمل أربعة مخرجين معًا في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى: شارل ديلان، لويس جوفيه، غاستون باتي، وجورج بيتوييف. وحَّد بين هؤلاء المخرجين اتجاه يقوم على المعارضة الشديدة لمنهجين متطرفين: منهج المسرح التجاري الاستهلاكي، ومنهج الكلاسيكية الأكاديمية الذي دعا إليه جاك كوبو.

فلننته من الروائع

كان أرتو يحلم بمسرح آخر، مختلف عن المسرح الفرنسي الذي كان لا يزال يبحث عن التوازن بين النص والعرض، وخصوصًا بعدما انضم إلى رواد السوريالية الذين كانوا ينددون باتخاذ مسافة عن كل ما هو "أدبي". وإذا كان أرتو قد انضم إلى هذه الحركة، فسرعان ما تخلى عنها. اتهم أرتو السورياليين بمهاجمتهم اللغة الواضحة، والتواصل العادي، في وقت كانوا يستخدمون إحدى الاثنتين. يشمل هذا الرفض الروائع أيضًا، فيعنون إحدى مقالاته فلننته من الروائع، ويتجه نحو الخلق الجديد، من خلال الكتابة الجديدة، لتحريرها من تقاليد الماضي. يتناول مسرحية أوديب ملكًا كمثال، ليكشف عن القوى الهائمة على وجهها، والحب المحرَّم بين الأم وابنها، وسخرية الطبيعة من الأخلاقيات. يقول إن هذا النص يجسد بشكل مادي تلك القوى، تحت ثياب ولغة فقدت كل صلة بالإيقاع الخشن، لكنه يظهر أيضًا أن النص لم يعد ملائمًا لعصرنا. يثير أرتو المشكلات المتعلقة باللغة ذات الاتصالات المجردة تمامًا، التي فقدت قوة علاقتها مع الواقع، حيث التباين الأكيد بين الواقع والواقع المعبَّر عنه من طريق اللغة. ثمة في اللغة الغربية نوع من "التحجر الكلامي" بحسب رأيه. مثل مالارميه، يعتقد أن الكلمات فقدت قوتها الاستذكارية، والموسيقية، وإمكاناتها على إثارة العواطف. بهذا ينضمَّان إلى رأي كلوديل الذي يرى أن وظيفة الشاعر إعطاء معنى آخر للكلمة. غيَّر أرتو وجهة هذا المفهوم عندما نقله إلى المسرح، بعدما دمَّر اللغة من أجل رفضها على نحو أفضل. وهاجم علم النفس عندما يكون النص مرتبطًا به ارتباطًا جوهريًا. يقول:

أصبح المسرح مسرحًا للقص، إنه يروي علم النفس.

يشمل هذا التأكيد مسرح عصر النهضة ومسرح بريشت. يريد أرتو من الرسائل المسرحية أن تتجاوز علم النفس، وأن يتوقف القارئ عن تقمص الشخصيات المحللة على خشبة المسرح.

اللغة المسرحية الجديدة

يجب على اللغة من الآن فصاعدًا أن تتوجه إلى حواس المشاهد وليس إلى عقله فقط. وينبغي للبناء الكلي للخشبة أن يخاطب المتفرج وفقًا لمفهوم أرتو: الإضاءة، وعناصر الديكور، والأزياء، حيث يقوم عمل المخرج على الجمع بينها لخلق لغة مسرحية جديدة. بدل اللغة الواضحة، يفضل أرتو لغة الإشارة، مستوحيًا ذلك من المسرح الشرقي الذي يستند إلى الإشارات لأنه مسرح مشفر، مثل الكتابة الهيروغليفية. التلاعب بالحواس والمعاني لا يتحقق من خلال العمل على النص، وإنما يتم بصورة مباشرة على المسرح. نتائج مثل هذا العرض ذات قيمة تعبيرية أكبر من التي تنتجها اللغة الواضحة. عملية اكتشاف الكلمة من خلال معناها الذي ينتج صدمة عاطفية، تسمح للمشاهد بعقد علاقة مع الخلاق نفسه. يقول:

علينا أن نؤمن بشعور تجدد الحياة من خلال المسرح،

وفي هذا المبدأ يكمن ما سيدعوه أرتو مسرح القسوة. يقارن المسرح بتجربة الطاعون والآثار التي يخلفها المرض في الجسد، وهذا يعني هذيان المريض الذي ينتج انهيارًا في أماكن جسده، وسياقاته الاجتماعية. يُعرِّف أرتو المسرح أيضًا بأنه فن "مجاني"، لافتًا إلى مجانية لعب الممثل الذي يحاكي الأحداث التي تعبر عن الفوضى الاجتماعية التامة، وانتشار الطفح الذي نجده لدى المصابين بمرض الطاعون. يصبح المسرح مكانًا للتفريغ العاطفي بقوة تماثل قوة الوباء. لكي يعمق هذا المفهوم، يستخدم أرتو نظرية القديس أوغسطين الذي يعتقد أن المسرح خطر مثل الطاعون. لكن الفرق أن الطاعون يقتل من دون أن يقضي على الأعضاء، في حين أن المسرح لا يقتل، لكنه يثير أكثر التغيرات غموضًا، لا في فكر الفرد، بل في فكر شعب بأكمله. هذا الهذيان الأخلاقي الذي ينتجه المسرح يمكن أن يكون معديًا. يقول أرتو:

كل الأساطير العظيمة سوداء.

ولا يمكن أن نتصور كل الحكايات الرائعة التي تروى للناس، خالية من المجازر، والتعذيب والدم المسكوب. يشبِّه المسرح بالطاعون، أي إن تأثيره من وجهة النظر الإنسانية، كتأثير الطاعون، يقول:

إنه نافع، إذ يدفع البشر إلى أن يروا أنفسهم كما هم، وهكذا يسقط القناع، وينكشف الكذب، والنذالة والنفاق. إنه يكشف للجماعات عن سلطانها القاتم، وقوتها الخفية، ويدعوها إلى أن تتخذ، أمام القدر، موقفًا بطوليًا ساميًا، لولاه لما اتخذته البتة.

للقسوة هنا معنى خاص. إنها شعور منفصل ونقي، وعلى المسرح أن يقدم الحياة في شموليتها، بكل ما تحمل من أثقال ومتاعب. لذا يأخذ أرتو المسرح الشرقي كنموذج، لأنه يتأسس على الميتافيزيقيا، على عكس المسرح الغربي الذي يعتمد على علم النفس. إلى ذلك، لا توجد في المسرح الشرقي لغة للكلمات، بل لغة مكتوبة من الحركات، والوقفات، والإشارات، ولكل من هذه العناصر، القيمة البيانية التي تتمتع بها اللغة الأخرى.

كيف يمكننا موضعة أرتو من الناحية التاريخية، ومقارنةً بماذا، وبمن، يمكن موضعته؟

المسرح تاريخيًا، هو نص، أما الإخراج فتابع له، بديكوراته، وحركاته، وأزيائه. يؤكد أرسطو أن الانتاجات الأدبية تتضمن بالضرورة النص، وخصوصًا المأساة التي يحكمها المضمون والفعل. الدور الذي أعطاه أرسطو للغة يعتبر غاية في الأهمية، وخصوصًا في المسرح، لأن اللغة هي انعكاس للكرامة، وتختلف عن اللغة المشتركة، وتعوض عن أوجه القصور. العرض، إذًا، يعتبر منسقًا للنص، والرثاء الذي ينتج منه لعب الممثلين، مكمل له. هناك أشياء قليلة جدًا في كتاب فن الشعر لأرسطو حول العرض، تشير إلى كونه مكملاً للنص. في القرون الوسطى، تم تطوير حرية العرض سواء في المسرحيات الجادة أو الشعبية. مع ذلك، هناك اعتماد كامل على النص. أي أن جهود الإخراج في العصور القديمة كانت صغيرة جدًا أو غير موجودة.

المنظِّرون والمسرح

المقدمات التي تتناول النوع المسرحي كثيرة جدًا، وغالبًا ما يكتبها الكتاب غير المسرحيين. عدد قليل من المخرجين نظَّروا للمسرح، هذا إذا استثنينا موليير، الذي هو في الوقت نفسه ممثل ومؤلف ومخرج. في القرن العشرين أصبح المؤلفون مخرجين أيضًا، وهذا يمكن ملاحظته عند بريشت وأرتو. السبب يعود إلى أن مفهوم المخرج لم يكن موجودًا حتى القرن التاسع عشر. وكان الممثلون يتدربون على النص مع المؤلف وكان مدير المسرح الذي تعرض فيه المسرحية يُخرج النص ويقود الممثلين. لم يبدأ التنظير للإخراج إلا في نهاية القرن التاسع عشر، بعدما أصبحت إبداعات الرومنطيقية نادرة، وهذا ما أفسح أمام الفودفيل والأوبريت. نعود إلى مفهوم المسرح باعتباره حدثًا، لنشير إلى أن أول شخص أراد أن يوحد العناصر المسرحية هو أرتو، بإعطائه قيمة كبيرة للنصوص بإخراجها إلى المسرح، منشئًا قطيعة جذرية برفضه النص لصالح الاحتفالية في العرض.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود