|
فلاديمير ماياكوفسكي: الرقيب يفرض اسم الكاتب عنوانًا
كان يحلو للشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي أن يضحك كثيرًا وهو يروي حكاية العنوان «الغريب» الذي استقر على صدر الصفحة الأولى لأول عمل مسرحي له قدِّم فعلاً في شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 1913، وذلك على خشبة «لونا بارك» في مدينة سان بطرسبورغ. عنوان «غريب»؟ نسبيًا على الأقل... إذ نعرف اليوم أن عنوان ذلك العمل كان فلاديمير ماياكوفسكي، أي اسم الشاعر – الكاتب نفسه. للوهلة الأولى قد يبدو العنوان متناسبًا مع نزعة الغرابة المستقبلية - التكعيبية التي كان ماياكوفسكي ينتمي إليها في ذلك الحين، هو الذي لم يكن اكتشف الماركسية بعد ولم ينضم إلا لاحقًا إلى ثورة لينين... فتلك النزعة كانت تقبل كل ما هو غريب واستفزازي وتروِّج له. وفي هذا الإطار ما كان يمكن أن يكون هناك ما هو مضحك في اختيار شاعر اسمه ليكون عنوانًا لنص له. إذًا، المضحك في الأمر هو شيء آخر تمامًا، يرويه ماياكوفسكي على النحو الآتي: في البداية كان للمسرحية عنوانان هما القطار وثورة الآلات، ثم أضيف إليها عنوان ثالث هو فاجعة (تراجيدي)،... ويبدو أن هذا كله أربك الرقيب في الزمن القيصري وجعله أمام عمل لم يفهم منه شيئًا، حتى قبل أن يصطدم بكل تلك العناوين، فما كان منه قبل السماح بعرض المسرحية، إلا أن شطب كل العناوين - شاكًّا بأمرها - مبقيًا على اسم المؤلف، وقد ختم الصفحة الأولى موافقًا في شكل يشمل هذا الاسم نفسه. من هنا لم يعد في الإمكان إحداث أي تبديل في العنوان، لأن ذلك كان يفترض عرض المسرحية بعنوانها الجديد على الرقيب والانتظار مرة أخرى. وهكذا قُيِّض لذلك الكاتب الشاب، الذي كان في العشرين من عمره في ذلك الحين، أن تحمل أولى مسرحياته اسمه كمؤلف وكعنوان. وكان ذلك سببًا كافيًا لإدهاش الناس ونظرهم إلى ماياكوفسكي ككاتب غريب الأطوار. مهما يكن من أمر، فإن نقاد الأدب وكاتبي سيرة ماياكوفسكي لاحقًا، سيلاحظون أن ما من عنوان آخر كان يمكنه أن يكون ملائمًا لهذه المسرحية أكثر من اسم صاحبها، ذلك أن المسرحية، ومنذ لحظاتها الأولى، ترينا الشاعر ماياكوفسكي نفسه وسط الخشبة (وهو، على أي حال، لعب الدور بنفسه خلال العرض الأول للمسرحية، كما لعبه لاحقًا في كل مرة قدمت فيها فلاديمير ماياكوفسكي في تلك الأزمنة الما - قبل - ثوروية). وفي المسرحية، إذًا، يجلس بطلها الشاعر وسط عدد من الشخصيات في ديكور يبدو واضحًا أنه ديكور مدينة كبيرة معاصرة. طبعًا من الصعب هنا أن نروي ما يحدث في المسرحية، طالما أن ما يحدث إنما هو مشاهد بصرية، على الطريقة المستقبلية التي كانت سائدة في الأدب والفن في ذلك الحين. أما ما يصل إلى المتفرجين، فهو أجزاء من حوارات ومواقف تعلن رفضها العالم القديم وانتقادها للحياة الاجتماعية والسياسية (تضمينًا) والفنية والفكرية. إننا هنا أمام شبان يبدو واضحًا أن رفضهم القديم إنما هو لديهم صدى لنزعة أوديبية همها قتل الأب، المجازي هنا، لأن الأب إنما هو المجتمع القديم مقدمًا من دون أي ترميز... من طريق تصوير خواء الأعمال الأدبية والفكرية التي تنتجها جماعة الرمزيين في الأدب الروسي، وعلى رأسها ألكسندر بلوك، الذي يبدو محط الهجوم الرئيس في العمل، ليس بوصفه شاعرًا يقيِّد نفسه بألف قيد فقط، بل أيضًا بوصفه ممثلاً لنزعة تحاول أن تطرح نفسها بديلاً للرومانطيقية والكلاسيكية في الوقت نفسه الذي تتمسك فيه بقيم بائدة، مقابل النزعة الثوروية التي يمثلها المستقبليون. أما الكيفية التي بها يتم الهجوم على الرمزيين في فلاديمير ماياكوفسكي فتقوم على تقليد أعمالهم والحديث عن علاقتهم بتلك الأعمال في شكل ساخر لا يأبه بأن يقدم الرمزية بوصفها الرحم الذي تولد منه حداثة النزعة المستقبلية، ثم يعلن أن زمنها قد ولّى. أما الإعلان فيأتي هنا من طريق الشاعر ماياكوفسكي نفسه الذي تختتم المسرحية عليه وقد تزيّا تمامًا بسمات أوديبية محملاً نفسه ذنب كل الأخطاء والمصائب التي أحاقت بالمدينة. في الحقيقة، إن هذا التوجه إلى تحمُّل ذنب المدينة ككل وذنب كل الأخطاء المقترفة فيها يأتي هنا مستقىً من فهم شديد الدقة لتيار التعبيرية الألمانية الذي كان على الموضة في ذلك الحين، منسحبًا على أنواع الفنون والآداب كلها، من دون أن تكون للنزعة المستقبلية أي علاقة به، وهذا الأمر كان مأخذًا، في ذلك الحين، أخذه النقاد على ماياكوفسكي قائلين إنه لم يكن مستقبليًا إلا في الشكل الخارجي لعمله، لكنه في الأعماق بدا تعبيريًا، طالما أن «المسقبلية» لا تعترف بمبدأ المسؤولية، اجماعية كانت أو غير اجتماعية. هنا، في فلاديمير ماياكوفسكي في المقابل، كانت هناك تلك المسؤولية حاضرة مرتبطة ببعد سيكولوجي واضح. ومن هنا، رأى النقاد باكرًا، أن مستقبلية ماياكوفسكي إنما هي مستقبلية انتقالية، فهمت لاحقًا على أنها هي التي قادته إلى الماركسية كفعل هدم وبناء في آن معًا، في مقابل فهم للمستقبلية يتحدث عن الهدم فقط. ولعل هذا ما كان يوحي به الناقد والباحث فيكتور سكلوفسكي، الذي يعتبر المنظر الأكبر للنزعة الشكلية الروسية، حين قال عن هذه المسرحية: في تراجيديا فلاديمير ماياكوفسكي هذه، نلاحظ أن الشاعر وحيد في شكل كلي... صحيح أن ثمة أناسًا يدورون ويتحلقون ويسيرون من حوله لكننا يجب أن نلاحظ بسرعة أن أيًّا منهم لا يمكن النظر إليه على أنه كائن ثلاثي الابعاد. إنهم أشبه، هنا، بأن يكونوا وجوهًا مرسومة على ملصقات. أما الشاعر فإنه قسَّم نفسه على الخشبة شخصيات عدة، شخصيات جعلها وكأنها في يده أوراق لعب يمسك بها اللاعب ليلعب بكل ورقة في حينها. وكل ورقة من هذه الورقات هي ماياكوفسكي نفسه. ولعل في إمكاني هنا أن أقول أخيرًا إن هذه المسرحية هي مسرحية عن الحب... لكن الحب فيها يضيع، طالما أن ليس ثمة شخص آخر على الخشبة ليحبه الشاعر. والحقيقة أن هذه سمة أخرى أساسية من سمات هذه المسرحية المبكرة، تربطها بالتعبيرية: حيث أن كل من على الخشبة من شخصيات أخرى، غير الشاعر، يبدو فائضًا عن الشاعر نفسه، صورة له، طيفًا يحاول أن يفر منه ولا يستطيع. هنا يمكن القول إن هذا كله، وتحديدًا هذا الطابع المركزي - الأنا، للمسرحية، هو الذي حرمها من أن تحقق أي نجاح، حتى في أوساط المستقبليين الذين كان يفترض بها أن تعبِّر عنهم وتعطي معادلاً مسرحيًا لنجاحهم في الشعر كما في الفن التشكيلي، وخصوصًا منذ أقام نقاد كثر ربطًا منطقيًا بين النزعة المستقبلية والنزعة الأخرى التي ولدت ونمت في شكل مزامن لها، تقريبًا، أي النزعة الشكلية. الذي حصل هو أن المسرحية بدت صعبة وعصية على أن يتسلل المتفرج إلى داخل ما تريد قوله، ناهيك بأنها بدت غير ذات شكل مغرٍ. ومن هنا قيل منذ ذلك الحين إن من الأفضل قراءتها وتخيُّل مشاهدها وأحداثها. ومع هذا فإن أهميتها الكبرى تكمن، طبعًا، في أنها فتحت الطريق أمام أعمال تالية لماياكوفسكي، انطلقت - شكليًا على الأقل - منها، لتحلق فكريًا ومن ناحية المضمون وحتى من ناحية اللعبة المسرحية، في فضاءات أكثر إقناعًا وبساطة، وأقل ذاتية في الوقت نفسه. ومن تلك المسرحيات ميستريوس بوفو (1918) وخصوصًا الحمّام (1929-1930)، وهما مسرحيتان تميزتا عن فلاديمير ماياكوفسكي التي يمكن أن نقول اليوم إنها كانت أقرب إلى «المونودراما» منها إلى العمل ذي الشخصيات المتعددة، تميزتا بنزعة جماعية ولغة جدلية كان ماياكوفسكي اكتسبهما من حماسته الثوروية. لكننا نعرف أن حماسة فلاديمير ماياكوفسكي (1893-1930) للثورة لم تدم طويلاً. إذ أنه، بعدما انضم إلى الثورة البولشيفية وشارك فيها، فكريًا، بنشاط منذ عام 1917، ما إن انتهى عهد لينين، وأطل عهد ستالين (أواسط سنوات العشرين) حتى راحت الشكوك الجديدة في «جدوى هذا كله» تتسرب إلى نفسه، وراحت خيبة أمله تزداد حدة، وقوة – بالتواكب مع خيبات الأمل التي طاولت معظم أبناء جيله من المثقفين والكتاب والفنانين الروس - لينتهي به الأمر إلى الانتحار كما فعل كثر قبله وبعده، مجنبًا نفسه مزيدًا من التمرد والرفض اللذين كان من شأنهما أن يقوداه إلى مجابهة الستالينية، وأن يصفى على يد هذا الأخير. *** *** *** الحياة، السبت، 10 أبريل 2010 |
|
|