|
قطوف من شجرة الحياة 9
من الأمور البديهية، ونحن نقلِّب أوراق التاريخ، أن نجد العدالة منقوصة هنا أو هناك على وجه الأرض. ولهذا غالبًا ما سعت وتسعى المجتمعات كافة عبر تاريخها، بالفعل لا بالقول فقط، إلى إزالة الفوارق بين العدالة والـلاعدالة إن صح التعبير. ومع هذا فإن التاريخ لم يقدِّم دليلاً، إلى يومنا هذا، على أن شيئًا من هذا قد تحقق يومًا، وذلك لاعتبارات تشابك مصالح الأفراد مع بعضها بعضًا، ما استدعى المطالبة، مرات عديدة، بأن يصار إلى وضع زمام الأمور في أيدي الحكماء، دون سواهم، لإدارة شؤون الرعية. وفي اعتقادنا أنه من دون تفهم دواعي هذه المطالبة، وبالتالي ترجمتها إلى واقع على الأرض، سوف يبقى التاريخ بحاجة إلى من يدافع عنه حتى يأتي زمن الجمع بين القول والفعل. عندئذ فقط تكون صناعة التاريخ في أمان. * * * حتى لا يبقى أحدٌ أسير مرض الازدواجية، كثيرًا ما يُطالب بأن يحدد ماذا يريد وماذا لا يريد. ذلك لأن هذا المرض، على نحو ما، بات مرض عصرنا الراهن بامتياز. ومع تفاقمه في بعض المجتمعات بات أشدَّ خطرًا على مكوناتها، بحيث غدا أفرادها يؤمنون حقًا بجدوى القاعدة المعروفة منذ أزمنة قديمة، أعني القاعدة التي تبرر الوسيلة، أيًّا كانت، وصولاً إلى غايتها. وما يزيد من خطورة الازدواجية في أيامنا هذه، استدراجها إلى خندق العولمة ومندرجاتها كإشباع الغريزة والطمع وسوى ذلك. قد يكون الخروج من هذه الحالة صعبًا إلى حدٍّ ما، لسبب من الأسباب، ومن هنا تبدأ بالتفاقم في كيان حاملها. ومع مرور الوقت يفقد تدريجيًا ثقته بنفسه، وبالتالي يبقى أسير هذه الحالة إلى زمن غير محدود، وبمعنى ما، حتى يكون نفسه لا أن يعرف نفسه فقط. * * * من الواجبات التي تترتب على المرء، تجاه نفسه أولاً، أن يدرك جيدًا من هو بالضبط. بمعنى أن يكتشف، خلال مراحل حياته، من أين يجب أن يبدأ، وإلى أين يريد أن يصل. ومن دون هذه المعرفة لا يمكن للمرء أن يحقق أي هدف يسعى إلى نيله، إلا إذا كان من المؤمنين بالحظ وحده، بمعنى أن يكون قدريًّا مغمض العينين. هنا تندرج مسألة إصرار البعض من الناس على الأخطاء التي يرتكبونها، وإن كانوا على بيِّنة من أمرهم. ومردُّ هذه القناعة، لا محالة، إلى جهل أنفسهم. ومع هذا فإنهم كثيرًا ما يلقون باللوم على الآخرين بإدعاء أنهم وحدهم على صواب، والآخرون على خطأ. ولا يدرون بذلك أنهم سوف يبقون ذواتهم، إلى أمد غير محدود، في دائرة خداع النفس الضيقة، وبالتالي، لن يكونوا قادرين على إصلاح أخطائهم. * * * البحث عن الحب سلوك بشري لا يمكن لأحد أن ينكره. فمنذ بدء الخليقة يبحث الرجل عن المرأة كما المرأة تبحث عن رجلها كي يكتمل حضورهما في الحياة. ولا يكل أحدهما من البحث عن رفيق دربه. وقد يصل الباحث عن هدفه إليه وقد يفشل. فالنجاح والفشل في الحياة من الأمور البديهية. بيد أن ثمة ما قد يفرض وجوده على الإنسان بفعل موضوعي، أي خارج إرادته، وعندئذ لا بد من أن يستسلم للأمر الواقع. وفي هذا السياق للرجل فلسفته وكذلك للمرأة فلسفتها. ومن خلال هذه المعادلة يؤمن الرجل بأن الحب إذا ما استأذن قلب المرأة، قبل أن يطرق بابه، فإنه يقتحم قلبه من دون استئذان. كما تذكرنا هذه المعادلة بقول للأديب البريطاني الشهير برناردشو في هذا الشأن: "وهذه هي مصيبتنا نحن الرجال". * * * الصراحة دومًا جارحة. هذا ما يردده غالبية الناس. وإذا كانت الصراحة جارحة، فماذا يمكننا أن نقول عن مواقف أخرى في سياق العلاقات الإنسانية–الإنسانية؟ عن المراوغ؟ عن الكذب؟ عن الطعن من راء الظهر؟ إنه لخير لنا أن يجرح بعضنا بعضًا باللجوء إلى الصراحة من أن نفعل ذلك بطرق أخرى ملتوية. إن القاعدة في الحياة هي أن يداري أحدنا الآخر عندما تقتضي مسألة من المسائل اتخاذ موقف مسايرة منها. ولكن، ماذا عن المسائل التي لا يجب أن تحتمل أي شكل من أشكال المداراة والمهادنة؟ هنا، قد تكون الكلمة الصريحة سببًا في خسارة شعبية قائلها. ولكن، ما نفعه إذا عرَّض نفسه لخسارة من نوع لا يمكن أن يُعوَّض؟ إن الكذبة البيضاء – إن هي وجدت – قد تبرر، ولكنها عندما تطفو على سطح الماء كنقطة زيت، على سبيل المثال، فإنها تفقد لونها على نحو سقوط قناع من على وجه كان يختبئ وراءه. * * * لا أعتقد أن أحدًا بيننا لم يواجه في حياته رجلاً يتصف بالبخل. فالبخل صفة لا تستطيع أن تخفي نفسها بنفسها، كما حمل المرأة وعينا العاشق وجنازة الفقير وإدعاء الجاهل. البخل، بهذا المعنى، سلوك يعلن عن نفسه بكل الوضوح. وعنوان المرء الذي لا يجد حرجًا في تبني هذه السلوك وممارسته بكامل وعيه، يقع خارج المألوف بين الناس. وربما لا يتخطى أحدنا الواقع بقوله إن البخل، إذا استوطن عقل الإنسان، صار من الأمراض التي تستعصي على الشفاء. والبخل، كما نقدِّر، هو نوع من أنواع ممارسة هواية توفر لصاحبها الشعور بالمتعة، بينما هو يغدو، في حقيقة الأمر، مغايرًا كليًّا لما يتحلى بها الرجل الكريم من صفات وفي مقدمها صفة الشجاعة. * * * يتساءل أحدنا، أحيانًا، وهو يتتبع سلوك فئة من الناس، أنهم كلما امتلأت بطونهم ازدادوا شهية لتناول الطعام. وكثيرون من هؤلاء لا يعنيهم من هو قادر أم لا على تأمين لقمة العيش حتى إذا كانوا الأقرب إليهم من بقية الناس، أي كما لو كانوا يعيشون خارج الزمان والمكان. وإذا جاز لنا أن نطلق وصفًا على أمثال هؤلاء ترانا لا نجد غير عبارة المصابين بمرض الجشع؟ لقد منح الله تعالى المرء معدة واحدة لا على غرار معظم أعضائه الأخرى كاليدين والعينين والقدمين والكليتين والرئتين... الخ. ومع هذا فإن العديد من الناس يتصرفون كما لو أنهم لا يدركون، أو لا يعترفون، بهذه المعادلة العلمية البسيطة، وبذلك يتنكرون لحقيقة واضحة أمام أعينهم ولكنهم يتجاهلونها عمدًا، كأنما حياة المرء كلها مبرمجة على قاعدة ملء معدته لا أكثر من ذلك بحال من الأحوال. * * * مهما حاول المرء تجنب الاعتراف بأن المرأة من الضرورات التي لا غنى عنها في حياة الرجل، فإنه لا يستطيع أن يقدِّم البرهان على ذلك. وحين نردد أن المرأة هي نصف المجتمع فذلك لأن لا أحد، في اعتقادنا، يستطيع إثبات إمكانية طائر على التحليق في الفضاء بجناح واحد. فالمرأة، بهذا المعنى، هي الجناح الآخر للرجل. وقد أُهدي هذا الجناح كي يتمكن من استكمال دوره في الحياة. وفي الحياة، كما نعلم، ثمة مجالات رحبة لأدوار لا حدود لها يمكن أن يؤديها الإنسان في حال رغب بذلك، وذلك من منطلق إيمانه بأنه أتى إلى الحياة لا ليكون مجرد رقم على ورقة في دفتر حسابات الربح والخسارة، بل ليكون بصمة تترك وراءها أثرًا لمعلم ما ينير الطريق أمام السائرين على درب التقدم والارتقاء. ولأن المرأة هي حقًا نصف المجتمع، فمن الطبيعي أن يجعلها رجلها شريكته الفاعلة في رسم صورة وأبعاد تلك البصمة على مدى التاريخ. *** *** *** |
|
|