|
مطالعة في كتاب الذات والحضور لناصيف نصَّار
الذات والحضور أسفارٌ في سفر. هو موسوعة النظر الفلسفي العربي المعاصر في مسائل الوجود التاريخي. أراده ناصيف نصَّار حاملاً لمجموع المباحثات الفلسفية الرصينة في شؤون الوجود الإنساني التاريخي، فخرج من بين يديه تحفةً مرصَّعةً بأبهى الجواهر الذهنية. عكفتُ على قراءته طوال أسبوعين، فتبيَّن لي أنَّ كلَّ باب من أبوابه يستحق أن يقف المرء أمامه برهبة الإصغاء والإكبار قبل أن يلجه في روح الاندهاش والاستكشاف والتحسُّس العميق. أحببتُ أن أطالعه فأستطلعه عن الآفاق الفلسفية الرحبة التي ينسلك فيها مشروع ناصيف نصَّار، وقد نضجت أفكاره واكتملت عدَّته وترسَّخت مواطن اليقين فيه، حتى استبان للجميع أنَّ ناصيف نصَّار غدا اليوم صانعًا لمذهب فلسفي خاص اسمه الرسمي فلسفة الحضور أو فلسفة الوجود التاريخي. وبما أنَّ الاستطلاع يقتضي الاسترسال، والاسترسال يستوجب صبر الجمهور، والجمهور اللبناني سريع التضجُّر من المطوَّلات الكلامية، آثرتُ أن أتناول الكتاب كلَّه من موقع السؤال الذي ما انفكَّ يعتمل فيَّ ويستنهضني في هذه السنوات الأخيرة، عنيتُ به سؤال التأصيل الفلسفي الأنسب لاختبارات الوجود التاريخي. ولا غرابة، من ثمَّ، أن أعرض عن استعراض جميع منقلبات الفكر التي استودعها ناصيف نصَّار هذا الكتاب الثمين، وقد سلس إنشاؤه في ما يقارب السهل الممتنع واستقامت موازين العبارة فيه فلامست أرض البلاغة الأدبية المستحبة والممتنعة على أهل الفلسفة. أمنيتي في هذا كلِّه أن ينقلب السؤال بعينه موضع التحفُّز الفلسفي في محاورة الفيلسوف، ولو لم ينبثق السؤال توًّا من مقاصد الكتاب الصريحة. وفيلسوفنا الحبيب يعلم أنَّ بيني وبينه بريدًا دائمًا بالفكر المستمر والطيف المثابر والمفاتحة المتصلة. ولا شكَّ في أنَّ أفضل سبل المحاورة الفلسفية أن يتناوب الفيلسوف والقارئ على الكلام، فتنعقد بينهما تارةً أواصرُ القربى وتنفرج لهما طورًا مواضعُ التباين. وبذلك يتهيَّأ للجمهور أن يصغي إلى بعض ما قاله ناصيف نصَّار في هذا الكتاب الجديد، وقد ساقه القارئ سوق المساءلة الذاتية الحرة. حين يتمعَّن المرء في معاني العنوان الذات والحضور. بحثٌ في مبادئ الوجود التاريخي، دار الطليعة، 2008، لا يلبث أن يدرك أنَّ فلسفة الحضور التي ينتصر لها ناصيف نصَّار إنما تقوم على جدلية العلاقة الناشطة بين الذات والحضور. فالذات والكائن الذاتي والإنسان عباراتٌ لجوهر واحد في هذه الفلسفة. ومعنى هذا الجوهر طاقةٌ على الفعل والإبداع بمقتضى الوعي والإرادة الحرَّة. أما الحضور، فهو المدى التاريخي الذي ينبسط بفعل الانوجاد. وإذا سأل المرء عن معنى هذه الجدلية أجابه ناصيف نصَّار أنَّ الإنسان صانعٌ لذاته، وأنَّ الحضور هو ما يصنعه الإنسان فردًا وجماعةً في الواقع الزمني الراهن. غير أنَّ مثل هذه الإجابة لا تُغني القارئ عن طلب المعنى الذي ينطوي عليه الحضور. وعند هذا المطلب الفلسفي تجتمع الاستفسارات القصوى التي تُعنى بمسائل التأصيل. وهي الاستفسارات التي أحملها في مطالعتي لهذا السفر الفلسفي العربي الفريد في دقائق تحاليله ولطائف مقارباته.
فالحديث عن القيمة يستوجب الحديث عن المعنى. والحديث عن المعنى يستتلي الحديث عن التأصيل. والحديث عن التأصيل يستتبع الحديث عن اللامتناهي. ذلك أنَّ اللامتناهي هو عنوان الرسوخ في الحركة، والوحدة في الكثرة، والأصل في الفروع، والجود في الموجود، والانكشاف في الكشف، والمآل في الانبساط. ويصحُّ هذا كلُّه حين يُصرُّ ناصيف نصَّار في بنائه لأنظومة القيَم السبع على الفوز بأصل فلسفي متين لا يتعالى على الوجود في ما يشبه التأصيل المثالي الميتافيزيقي الأفلاطوني، ولا ينضمر في الوجود على صورة الارتهان لمتقلِّبات الدهر. وفي ظنِّي أنَّ هذا هو الأصل الذي ما انفكَّت تبحث عنه العقولُ الفلسفية المبنية على تطلُّب الاعتدال والتوازن والإنصاف. وإذا ما استطاع المرء أن يستخرج مثل هذا الأصل في محاجة فلسفية رصينة صلبة مقنعة، تهيَّأ له، على غرار ما أتى به ناصيف نصَّار، أن يتوسَّع في تحليل وقائع الوجود الإنساني التاريخي وقد استضاءت بنيتها كلها بأنوار الحقيقة الأصلية المفترضة في عمق المعنى وعمق القيمة وعمق الذات الإنسانية وعمق الحضور التاريخي. غير أنَّ البلوغ إلى هذا الأصل هو التحدِّي الفلسفي الأبرز الذي أعاينه ماثلاً في ذهن الكاتب يستنهضه استنهاضًا حثيثًا في مثل هذا الإنجاز الفكري المبدع. غير أنَّ ناصيف نصَّار مدركٌ أنَّ هذا السبيل في التأصيل وعرٌ شائكٌ مربكٌ. ويُزيَّن لي أنَّه ربما أعرض عن التأصيل المباشر لسبب من سببين، إما لوعورة المركب، وإما لإقتناعه الفلسفي بعسر هذا النمط من التفكير الفلسفي في عصرنا الحاضر. وإني أحار حيرةً شديدةً في إيثار السبب الأنسب، ولئن كنت أميل إلى القول باستحالة التأصيل الميتافيزيقي المصيب الجدير الشامل في تجاوزه للإنتماءات الحضارية. ولكني لن أستعجل البلوغ إلى الخاتمة قبل أن أسمعكم ما صاغه فيلسوفنا من بليغ الإفصاح عن بنى الاختبار الأصلية التي تستوطن طبيعة الكائن الذاتي الذي هو الإنسان الفاعل في الوجود التاريخي. وقبل الشروع في استجلاء طبيعة الإنسان هذه، يومئ ناصيف نصَّار إلى اللامتناهي في خفر عظيم، إذ يعتبر أنَّ كتابه "ينطلق من الهاهنا والآن حتى المطلق اللامتناهي". لكنه سرعان ما ينكفئ عن مساءلة اللامتناهي ليُعمل فكره في استجلاء هوية الإنسان، هذا الكائن الحاضر الذي به تتكشَّف حقائق الحضور بأسرها. والإنسان، في عرفه، هو طاقةٌ على صنع الذات. فيسأل: "ماذا يعني أنَّ الإنسان يصنع نفسه؟". وماذا يعني أنَّ "الكائن الحاضر هو في المقام الأول (...) الكائن الذي يقوم بفعل الحضور من تلقاء نفسه"؟ للإجابة عن هذين السؤالين ينبري ناصيف نصَّار يحلِّل طبيعة الإنسان في أعمق أعماق مكوِّناتها. فينتهي إلى القول بأنَّ الذات الإنسانية صانعة لذاتها لأنَّ وجهًا من وجوه كينونتها، وهو هويَّتها، حاملٌ لطاقة دائمة على الفعل: إدخال الوعي بالذات والحرِّية في طبيعة الكائن الذاتي يتطلَّب إعادة بناء مفهوم هذه الطبيعة، بحيث تصبح مركَّبة من طبيعة معطاة وفيها الوعي والحرِّية، ومن طبيعة مصنوعة بالوعي بالذات والحرِّية. ونظرًا إلى الاختلاف بين طبيعة الطبيعة المعطاة وبين طبيعة الطبيعة المصنوعة، على الرغم من وحدتهما في الكائن الذاتي، وتجنُّبًا لسوء الفهم، فإننا نصطلح أن نسمِّي الأولى ماهية، والثانية هوية. لا شكَّ في أنَّ مثل هذا التعريف خليقٌ برعاية الحيوية المبدعة التي تكتنزها الذات الإنسانية. غير أنَّ القول بطبيعة مصنوعة، على صحَّته وبهائه وجدارته، لا يعفي المرء من السؤال عن أصل الطبيعة المعطاة، وقد تناولها نصَّار في عمق تكوينها، عنيتُ به الوعي والحرِّية. فإذا كانت الطبيعة المصنوعة، أي الهوية، قابلةً للعقل، فمن أي تأتينا معقولية الطبيعة المعطاة، أي الماهية؟ لا يسترهب ناصيف نصَّار هذا الضرب من الاستفسار، بل يجابهه بروح المسؤولية الفكرية، ولو أنَّ سبيله في المواجهة لا يُبلغنا الإجابة الجامعة المانعة. فهاهو ذا يقارع سارتر في ادعائه العدم في الأصل والعدم في المنتهى، فيجرؤ هو على القول بأنَّ الإنسان لا بدَّ له من أن يستند إلى طبيعةٍ سابقة لوجوده: ليس من الضروري إطلاقًا، لكي نرفع مكانة الإنسان فوق مكانة الطاولة، كما يزعم سارتر، أن نُفرغ كيانه من كلِّ شيء سابق لوجوده. الإنسان لم يأتِ إلى الوجود بقرار من ذاته، ولكنه يستمرُّ في الوجود كمشروع دائم لذاته. ولذلك ليس من الصواب أن نختزل كيانه بنصفه، فنقول بأنَّه طبيعةٌ معطاةٌ هكذا (بالمصادفة أو بالعناية الإلهية أو بمبدأ ميتافيزيقي آخر كمبدأ العود الأبدي)، ونسكت عن كونه مشروعًا دائمًا لذاته. نقول بأنه عدمٌ يخلق ماهيَّته بذاته من ذاته، ونطمس كونه ظاهرةً من ظاهرات الحياة على الأرض. النظرة الصائبة إلى طبيعة الإنسان هي النظرة التي تميِّز بين ماهيَّته وهويَّته، وتحتفظ بهما معًا، فلا تفصل ماهيَّته عن هويَّته، ولا هويَّته عن ماهيَّته. فإذا كان الإنسان قد أتى إلى الوجود بقرار من غيره، فمن هو صاحب هذا القرار؟ وما صلته بالوجود؟ وهل تكون صورته على مثال التصوُّر الإنساني أم على مثال تصوُّر آخر؟ وإذا كانت على مثال تصوُّر آخر، فمن أين للإنسان أن يفوز بمداناة هذا التصوُّر المخالف لمقولات التصوُّر البشري؟ لا ريب أنَّ هذه الأسئلة المربكة لا تغيب عن بال ناصيف نصَّار حين يعترف بأنَّ الموت هو اليقين الوحيد الذي يحمله المستقبل إلى الإنسان. أما ما ينطوي عليه الزمن في بعده الذي أقبل إلينا، وما سينكشف عنه في بعده الذي لمَّا يُقبل علينا، فهذا مما يفوق قدرة الحاضر على معاينته. وبما أنَّ الوجود حالٌّ في كثافته التاريخية في الحاضر الذي يراعي الماضي من غير ارتهان له، ويرعى المسقبل من غير استبداد به، فإنَّ السؤال عن أصل الكائن الإنساني يظلُّ خاضعًا لهذه الوضعية المربكة. وأما القول بأنَّ الذات هي حضور إلى الذات وإلى العالم وإلى الآخرين في قصدية هي من صلب كيانها، فإنه يستجلي طبيعة الحيوية التي تختزنها الذات ولا يوضح للإنسان حقيقة القصد الأقصى الذي يتجاوز جميع الإنجازات التي يقصد إليها الإنسان في نزوعه إلى تحقيق إنسانيَّته. جملة الأمر أنَّ الإنسان قابلٌ لماهيَّته، صانعٌ لهويَّته. ومن ثمَّ، فإنَّ الاستفسار يصيب إشكالية القبول. فالمرء لا يرتبك بما ابتكره عقلُ ناصيف نصَّار في وصفه لحيوية الابتكار في صنع الهوية، بل يهنأ به أيما هناء. فحين يعترف نصَّار بأنَّ الذات الإنسانية منفتحة على الآخرين في صلب كيانها، وأنها منفصلة عن الطبيعة وكائناتها بهوَّة أنطولوجية سحيقة، وبأنَّ الهوية الإنسانية دائمة التكوُّن تصنع ذاتها وفاقًا لمراتب الصناعة الذاتية الخمس، يصيب أشدَّ الإصابة. ولكنه لا يلبث أن يكتم أصل الطبيعة الإنسانية المعطاة، وكأني به يُسكت الوهمَ في هذه المسألة. وقد يكون لهذا الإسكات أسبابه في طبيعة فلسفة الحضور والوجود التاريخي. وما الإعراض عن تعيين أصل الطبيعة المعطاة في الذات الإنسانية سوى وجه من وجوه الإعراض المثلَّث الذي ترتاح إليه هذه الفلسفة. ذلك أنَّ فلسفة الحضور تُعرض عن التعيين الميتافيزيقي أولاً في مسألة الطبيعة الإنسانية المعطاة، وثانيًا في مسألة أصل الحضور، وثالثًا في مسألة أصل المعنى والقيمة. ومن بعد أن اتضحت قرائن الإعراض الأول، يحسن بنا أن نستجلي قرائن الإعراض الثاني. وفي هذا الحقل يلحُّ ناصيف نصَّار في الاستناد على الحاضر كموضع الانطلاق الأمثل لفهم الوجود التاريخي: لا يمكننا أن نمنع ما هو الآن من أن يصير ما كان؛ ولا يمكننا أن نعود بما كان إلى ما هو الآن، ولا أن نزيله من الوجود أو نزيل عنه ما هو حيث هو. ولذلك لا يمكن فهم الحاضر فهمًا كاملاً إلا على أساس أنه حاضرٌ زمنيٌّ. غير أنَّ هذا لا يعني بالضرورة عدم وجود حاضر دائم، حاضر إلى الأبد، حاضر أبدي سرمدي؛ بل يعني أنه، إذا كان ثمَّة حاضر دائم أبدي، فإننا لا نستطيع إقامة أيِّ نوع من الاتصال به إلا ونحن محكومون بمنطق الحضور الزمني. ينطوي هذا النصُّ على تصريح جريء قد يُلزم فيلسوفنا الاعتراف الصريح بكينونة أبدية سرمدية هي بمثابة الأصل الذي منه ينبثق الحضور. غير أنَّ استحالة الاتصال بهذه الكينونة عن طريق غير طريق الحضور الزمني تمنع علينا النظر إليها نظرًا منزَّهًا عن اعتبارات الحاضر الزمني. وهنا يعتلن الإرباك الشديد في تحدِّي التأصيل الفلسفي الذي أبحث عنه في تضاعيف هذا الكتاب. فإذا كان الحاضر الأبدي السرمدي ممكنًا، فلا ضير في أن ندنو إليه من موقع انتمائنا الزمني التاريخي النسبي. لكن طبيعة الدنوِّ التاريخية النسبية لا يليق بها أن تُبطل وجود الحاضر الأبدي السرمدي. فهل يذهب ناصيف نصَّار هذا المذهب، فيُثبت السرمدية في الحضور، وهذا مبتغى فلسفة الحضور، ويُبطل الحضور في السرمدية، وهذا ما يُعيبه على المثالية الأفلاطونية، وذلك من بعد أن أشار إشارةً خفرة أخرى إلى اللامتناهي؟ حقيقة الأمر أني لست متيقِّنًا من رغبة ناصيف نصَّار في تعيين أصل الحضور في ما يتعدى المدى الزمني التاريخي. ودليلي على ذلك أنه سرعان ما يستنجد الحياة كمفهوم رحب واسع قابل لتأصيل الحضور من غير الاستناد إلى كينونة متعالية. فالذات التي تنبسط كينونتُها في الحضور إنما أصلها ناشبٌ في الحياة ومآلها عالقٌ على الحياة: الذات عندما تحافظ على ذاتها تعلن أنها تقبل ذاتها كما هي معطاة، في مقوِّماتها وبنيتها وتجذُّرها في عالم الحياة. وأيًّا تكن القطيعة بينها وبين الكائنات الحية حولها، فإنها لا تستطيع الادعاء بأنها بدءٌ لذاتها من الصفر المطلق. إنها تحيا جسدًا سابقًا على وعيها الاستملاكي له، وتفكِّر عقلاً ليس من اختراعها. ولكنها تعلم أنَّ ما تأخذه من الحياة لا يخرج من الحياة إلى اللاحياة، بل يبقى في الحياة، ومآله إلى الحياة بواسطتها ومسؤوليتها. في هذا النصِّ تتجلَّى الأبعاد الخطيرة التي يحملها مفهوم الحياة في تدعيم الوجود التاريخي. ومع أنَّ الذات ليس لها في ذاتها أصل الابتداء المطلق، فإن أصلها يكمن في تدفُّق الحياة الذاتي. وما هذا التدفُّق سوى التعبير الأسمى عن الطاقة الكونية التي تكتنف جميع الكائنات. وأما المسرى التاريخي الصريح الذي به يتحقَّق الحضور، فيدعوه ناصيف نصَّار، حين يسأل عن أصل الحضور، الانوجاد: ما يهمُّ فلسفة الحضور هو طابعها الوجودي من جهة، وتحديدها لأشكال الحضور الفاعل من جهة ثانية. الطاقة المتدفِّقة في الكائن الذاتي عبر عتبة الحضور تعني أولاً أنَّ وجوده لا يعرف السكون والسكينة؛ وتعني ثانيًا أنَّ وجوده مسرحٌ تتجدَّد الحوادث فيه بصورة متواصلة؛ وتعني ثالثًا أنَّ انتقال الطاقة إلى التحقيق الفعلي يمرُّ عبر الوعي والحرِّية؛ وتعني رابعًا أنَّ وجوده مظهرٌ من مظاهر تحقيق الطاقة الشاملة في الكون بأسره. وجميع هذه المعاني تتلاقى وتنجدل في معنى واحد: الانوجاد. هذا هو المفهوم الأساس الذي ترتفع عليه العمارة الفكرية لفلسفة الحضور. وما وزن الانفعال الذي صيغ فيه سوى دلالة بليغة على رغبة ناصيف نصَّار في الإعراض عن هموم التأصيل الفلسفي المتجاوز لحركة بناء الذات الإنسانية على أساس حركة النقص في الذات الإنسانية. فإذا كان الانوجاد يقتضي صناعة الهوية انطلاقًا من الماهية، وإذا كانت الماهية مكتومة الأصل، فإنَّ مفهوم الانوجاد المنبجس من ينابيع الحياة المتدفِّقة لا يضيف شيئًا على حلقة الدوران الذاتي في مصطرع الوجود التاريخي. وليس القول بنزوع الإنسان إلى الكمال قادرًا على إخراج الفكر من حلقة الدوران هذه. ذلك أنَّ الكمال الذي يتوق إليه الكائن الذاتي يستخرجه ناصيف نصَّار من مغامرة الوجود في إطلالته على ما انطوى عليه كيانه من ممكنات. فالكمال هو أيضًا تعبيرٌ عن اللامتناهي من غير تعريف به. وفي هذا الموضع ينكشف الوجه الثالث من وجوه الإعراض المثلَّث الذي يعتصم به ناصيف نصَّار. وفي تبرير هذا الإعراض الثالث يميل ناصيف نصَّار إلى تأسيس الكمال على حقيقة النزوع إلى الكمال، لا على مضمونٍ للكمال متقدِّم على حركة النزوع الإنساني إلى الكمال: إنَّ وجود النزوع إلى الكمال يعني أنَّ مهمة الإرادة في اعتماد القيَم وتجسيدها مرتبطة بمرجعية كيانية، وليست متروكةً للتعسُّف والمصادفة الخالصة. وفضلاً عن ذلك، فإنه يعني أنَّ الكائن الذاتي مستقبلي التوجُّه، ولا يمكنه أن ينغلق في حاضره. وتتضاعف حدَّة هذا الإعراض الثالث حين يرسم ناصيف نصَّار أنَّ هناك ضربَين من الكمال، الكمال الإنساني والكمال الإلهي: والحال أنَّ الكمال صفةٌ من صفات الكائن، تابعةٌ لطبيعته ورتبته في الوجود، بحيث أنه يمكن القول بأنَّ الكمال الذي يليق بالله، في حال وجوده، إنما هو الكمال المطلق، لأنَّ الله هو الكائن المطلق اللامتناهي، وبأنَّ الكمال الذي يمكن إسناده إلى الذات الإنسانية إنما هو كمالٌ خاصٌّ ونسبي، تبعًا لطبيعتها وزمنيَّتها. فالحديث عن الكمال للإنسان لا يتناقض منطقيًّا مع الحديث عن الكمال الإلهي. لا شكَّ أنَّ هذا الفصل يذكِّرنا بالفصل الأرسطي بين الوجود الإنساني والمحرِّك الأول، وهو الفصل الذي به أراد أرسطو أن يتجاوز أزمة الشرك الأفلاطوني بين عالم المثُل وعالم الظلال. بيد أنَّ الفصل بين هذَين الكمالَين لا يسعفنا في تأصيل المعنى والقيَم. فالمنحى العام في فلسفة الحضور يقضي بأن يعمد العقل إلى "تسويغ القيمة بأدلة موضوعية مستمدة من مبادئ استمرار الحياة وتفتُّحها الشامل والنزوع إلى الكمال". يدلُّ هذا الكلام الفلسفي الخطير على اقتناع ناصيف نصَّار بضرورة استخراج القيمة من صلب الحياة. ولكن الحياة سيلان يجري في تنوُّع عصي على الانضباط. فكيف تأتينا الحياة بالثبات والتعالي نسند به ترجرج المعنى في معترك الوجود التاريخي؟ فإذا كان المعنى يتكوَّن في الوجود التاريخي، على ما يذهب إليه ناصيف نصَّار، فكيف تكتسب أنظومة القيم جدارتها وضرورتها وشموليَّتها وتعاليها على إرباكات الدهر وتناقضاته؟ وعلى الرغم من هذا التعسُّر في الإجابة، يلحُّ ناصيف نصَّار في رفض كلِّ أصناف المثاليات: لا يهمنا الآن أن يكون هذا المعنى مستمدًّا من إيمان ديني، أو من منزع إيديولوجي، أو من فلسفة أنتروبولوجية-ميتافيزيقية، أو من غيرها من المذاهب. ما يهمنا الآن هو إثبات أنَّ المعنى هو بمثابة الجوهر في صناعة الذات. لقد حيَّرتني عبارة "الآن" في هذا النص. أفتكون إبطالاً أم إرجاءً لمشروع تأصيلي قد يُقبل إلينا في إنتاج فلسفي آخر؟ لن أغامر في الإجابة. ولكني أواظب على مساءلة فلسفة الحضور عن رغبتها، لا بل قلْ عن قدرتها على التأصيل. فإذا كان المعنى هو الجوهر في صناعة الذات، فكيف يكون في الوقت عينه في الحاضر وفي حكم المستقبل عليه، بحسب ما يُفصح عنه ناصيف نصَّار؟ فقيام الجوهر في الحاضر الزمني يسلبه القدرة على التعالي ويقضي عليه بالتبعثر والسيلان والتيهان. والحال أنَّ القيمة، بحسب تعبير ناصيف نصَّار، أمرٌ جديرٌ بالاعتماد مرجعًا للفعل. ولو لم تكن كذلك، لكان الحضور الفاعل عبارة عن سيلان يفيض في كلِّ اتجاه بدون أيِّ إطار لفيضانه. والمشكلة الفلسفية هي أنَّ القيمة تأتي الوجود من خارج مظاهر الوجود، على ما يقوله ناصيف نصَّار: القيمة ليست من عالم الأشياء والظواهر الخارجية، وليست من مقوِّمات الطاقة الذاتية، وإنما هي مرجع يعتمده الكائن الذاتي للفعل لجدارته الناتجة من صفاته ومن اعتبارات الكائن الذاتي في شأنه. فالقيمة ليست من إنتاج الوجود والذات، ولو أنَّ الإنسان لا يختبرها إلا في نطاق الذات والوجود. ومن ثمَّ، فإنَّ فلسفة الحضور تطلب للقيمة مقامًا من التعالي يضمن لها انعتاقها من سطوة النسبية التاريخية. ويبدو هذا الاجتهاد في تأصيل القيمة كأنه تصوُّر للتعالي في هيئة النزوع الإنساني إلى الكمال. فالقيمة متأصِّلةٌ في هذا النزوع المستمرِّ. غير أنَّ ربط تعالي القيمة بنزوع الإنسان إلى الكمال لا يبيِّن مقام التعالي في القيمة إلا في حركة تجاوز الإنسان لنقصه. بيد أنَّ التجاوز حركة منبثقة من الإنسان. والنزوع حركة منبثقة من الإنسان. فما الذي يحول دون تحوُّل الكمال بعدًا من أبعاد الإنسان المقبِل إلى ذاته في حركة الحاضر نحو الكمال؟ أفتكون هذه هي المثالية الناسوتية التي يتحدَّث عنها ناصيف نصَّار كبديل للمثالية الأفلاطونية؟ وفحوى هذه المثالية القول بأنَّ القيم هي من طبيعة روحية ومتكوِّنة في الانوجادية الزمنية على أساس مبدأ النزوع إلى الكمال. وهذا ما ينقلنا من المثالية الميتافيزيقية إلى ما نصطلح على تسميته المثالية الناسوتية. القيمة معنى يترجم وجهًا من وجوه نزوع الكائن الذاتي إلى كماله الذي لا يعلمه في حدِّ ذاته، بل من خلال وجود النقص في كيانه وفي علاقاته. وبوصفها معنى ساميًا مشتقًّا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من مبدأ النزوع إلى الكمال، فإنها في طبيعة الحال متميِّزة عن المحتوى الشعوري الحاصل لكلِّ كائن ذاتي من اختبارها. في هذا النص يوضح ناصيف نصَّار أنَّ المثالية الناسوتية لا تعترف بالتأصيل الميتافيزيقي وترضى بأن تنبثق القيمة من نزوع الإنسان إلى الكمال. غير أنَّ الكمال في جوهره لا يعلمه أحد. وليس للإنسان من سبيل إليه سوى التبصُّر في اختبار النقص. ولكن اختبار النقص يستقيم بالقياس على اختبار الكمال. فكيف يتسنى للإنسان أن يختبر الكمال من غير أن يدرك في وجه من الوجوه جوهر الكمال؟ وهل يظلُّ الكمال على كماله حين يستوعبه الذهن البشري؟ فالمستوعب في مدارك الزمن يكفُّ عن التعالي وينسلك في مجاري التاريخ. أما النقص، فلا يدركه الإنسانُ إلا بالاستناد إلى تصوُّره إلى الكمال. خلاصة القول في هذا الإعراض الثالث والأخير أنَّ فلسفة الحضور كما انتهت إلينا في هذا الكتاب لا تنتصر لأيِّ ضرب من ضروب التأصيل الميتافيزيقي. ولكنها تصرُّ الإصرار كله على مناهضة النسبوية التاريخية. وفي هذا أعسر السبل الفلسفية. فإذا أعلن ناصيف نصَّار أنَّ استدعاء الميتافيزيقا غير نافع في تأصيل القيَم، يدرك أنَّ السعي إلى الكمال لا يعصم الإنسان من الخطأ والضلال، ولا يُبطل "الدروب المتعدِّدة إلى الكمال". حجَّة ناصيف نصَّار في هذا كله أنَّ الإنسان يجب عليه أن يختبر الوجود اختبارًا صادقًا قبل التوجُّه إلى الميتافيزيقا: يجب على الكائن الذاتي أن يعطي المستوى التاريخي من وجوده حقَّه الكامل من النظر والاعتبار في ذاته، قبل أن يقرِّر الأفق الميتافيزيقي الذي يرتضي أن يتوجَّه نحوه. وكأني به يبيح للناس أن يذهبوا المذهب الميتافيزيقي الذي يستصوبونه على شرط رعاية الوجود الإنساني. ولكن المسألة هي في تصوُّر الناس لجوهر الكمال في مذاهبهم الميتافيزيقية، وفي انعكاس مثل هذه التصوُّرات على هيئة وجودهم التاريخي. فكيف يجيز ناصيف نصَّار للناس أن تتنوَّع مذاهبهم ويحظر عليهم أن يستمدوا من هذه المذاهب صورةً للكمال متأصلة في ضرورات التعالي الميتافيزيقي، فلا تستخرج من صنع الإنسان لذاته؟ فإذا كان تصوُّر الماهية في هذا المذهب الميتافيزيقي يخالف تصوُّرها في المذهب الميتافيزيقي الآخر، فما الذي يضمن لفلسفة الحضور ألا يُقبِل الناس على صنع الهوية الإنسانية عينها بالاستناد إلى ماهيَّتين مختلفتيَن، لا بل قلْ متناقضتَين؟ يحاول ناصيف نصَّار في جهد أخير أن يتجاوز هذا المأزق في تصوُّره الفلسفي للمقام الأصلي الذي تكتسبه كرامة الإنسان. فالكرامة الإنسانية أصلٌ لا يعوزه أيُّ تأصيل ميتافيزيقي: ثمَّة نوع من الاستقلالية ونوع من الأسبقية لمبدأ كرامة الإنسان بالنسبة إلى التسويغات الميتافيزيقية الممكنة له. وهذا يكفي لكي تكون الكرامة، من الوجهة المعيارية، قيمة أساسية بالنسبة إلى جميع الكائنات الإنسانية. لكن ناصيف نصَّار يدرك أنَّ مفهوم الكرامة مسألة ثقافية تُجمع الحضارات على اعتمادها أصلاً للشرائع، ولكنها تختلف في تصوُّرها للمضامين الأخلاقية التي تنسبها إلى هذا المفهوم. وقد يتبيَّن لنا أنَّ من وجوه الاختلاف بين التأصيل الميتافيزيقي والمثالية الناسوتية أنَّ التأصيل يرتاح إلى تسمية هذه المضامين بحسب طبيعة المذهب الميتافيزيقي المعتمد في حين أنَّ المثالية الناسوتية لا تقوى على هذه التسمية. فإذا كان الأمر على هذه الحال، فإنَّ الإنسب للناس، بحسب ناصيف نصَّار، أن يتشاوروا في صياغة أنظومتهم القيَمية. وليس في التشاور من نسبية، بل "انفتاحية عقلانية"، على ما يحلو لنصَّار أن يدعوه: العصمة ليست من العقلانية. إلا أنَّ انفتاحية العقلانية لا تعني إطلاقًا النسبوية، بل تعني أنَّ الكائن الذاتي يسعى، مع غيره من الكائنات العاقلة، إلى الأصوب والأصحِّ في إدراكه العقلي لذاته وللعالم حوله وفي توظيف هذا الإدراك في صناعة هويته. فإذا انتهى الأمر إلى ضرورة التشاور، فلم لا يكون التشاور مستندًا إلى ضروب شتى من التأصيل الميتافيزيقي؟ صحيحٌ أنَّ ناصيف نصَّار لا يمنع على أحد الركون إلى مذهب ميتافيزيقي في التأصيل. ولكن فلسفة الحضور لا ترتاح إلى التأصيل الميتافيزيقي، لا بل قد تعتبره مخالفًا لمقتضيات الوجود التاريخي. وفي هذا عمق الإرباك الفلسفي الذي تُنشئه هذه الضروب الثلاثة من الإعراض. رأس الكلام في هذا كله أنَّ الإعراض عن تأصيل القيَم في أرض هي غير أرض الوجود التاريخي يرتب على الفكر مسؤوليات خطيرة. وفي ظني أنَّ طبيعة التأصيل لها نتائج تصيب تصوُّر المعنى والقيَم والوجود، وأنَّ غياب التأصيل له أيضًا نتائج تصيب هذه الحقول عينها، وأنَّ الإعراض عن التأصيل له أيضا نتائج، وأن تصوُّر التأصيل في غير ما يتصوَّره التراث العقلي الأوروبي له نتائج. فإذا أعرضت فلسفة الحضور عن تأصيل القيمة في ما يتجاوز نسبية الوجود التاريخي، أصبح لزامًا عليها أن تنظر في مضمون القيمة هل يكون منبثقًا من تشاور الناس أم يأتي الناس من موقع التعالي الميتافيزيقي؟ فإذا كان مستخرجًا من تشاور الناس، كفَّ المضمونُ عن الاتصاف بالتعالي الهادي وتشعَّبت السبل إلى الحقيقة. أما إذا انبثق المضمون من مشيئةٍ تتجاوز نسبيات الوجود التاريخي، فاضطرَّ الناس إلى معارضة مذاهبهم الميتافيزيقية بعضها ببعض حتى يبلغوا إلى توافق على معاني القيم الأساسية في الوجود. فما الأنسب للناس في مطالع الألف الثالث: أن يتشاوروا في استخراج مضامين القيمة الإنسانية من معين اختباراتهم التاريخية، أم أن يتشاوروا في التقريب بين تصوُّراتهم لمضامين القيمة الإنسانية المستخرجة من مشيئة عليا تتجاوز حدود اختباراتهم النسبية؟ لا شكَّ أنَّ فلسفة الحضور، حين أعرضت عن التأصيل الميتافيزيقي، آثرت الاكتفاء بوصف البنية الأساسية في اختبار الكائن الذاتي لحضوره التاريخي. فهل كان القصد من فلسفة الانوجاد أن تقطع الطريق أمام التأصيل الميتافيزيقي؟ في الصفحة الأخيرة من الذات والحضور يُعلن ناصيف نصَّار بخفر كبير أنه قد يشمِّر لورشة فكرية أخرى من أجل معالجة مسألة التأصيل. فعلى أيِّ هيئة ستنتظم هذه الورشة، وقد انصاعت مفاهيمُها كلها في نطاق الائتمار بفلسفة الحضور هذه؟ قبل أن تطلق سهم الحقيقة إغرس نصله في العسل (مثلٌ عربي). أفتكون فلسفة الحضور هي العسل الذي غرس ناصيف نصَّار نصل سهمه فيه قبل أن يطلق حقيقته الميتافيزيقية. وإذا أقبل إلينا ناصيف نصَّار بكتاب آخر يرفع عنا إرباكات الإعراض هذه، فما الذي يتغيَّر عنده في فلسفة الذات والحضور والوجود التاريخي؟ *** *** *** |
|
|