|
تحت الضوء: دوار اللوائح للإيطالي أمبرتو إيكو
في خزانة توماس برنهاردت الأدبية قصة قصيرة بعنوان بيزا والبندقية. في كنف هذه الحكاية المختزلة إلى حدها الأقصى، ذلك أنها لا تزيد على سطور عشرة، يروي النمسوي المشاغب أن عمدتي مدينتي بيزا والبندقية الإيطاليتين الأثيرتين، اتفقا على مباغتة السياح الذين درجوا لقرون على القدوم إلى هذين الموقعين الإيطاليين، ليفتتنا بالقدر عينه. أرادا أن يزعزعا هذا الثبات في الإنجذاب حيال المكانين، فصمما على نقل برج بيزا المنحني إلى البندقية، فيما يزاح برج الساعة أو "كامبانيلي" من ساحة سان ماركو في البندقية، حيث يقوم، إلى بيزا. غير أن الرجلين عجزا عن ابقاء مخططهما طيَّ الكتمان. وفي الليلة التي عزما فيها على تحقيق مبتغاهما الفانتازي، أُدخلا إلى المصحة العقلية. أُلقي بعمدة بيزا، في طبيعة الحال، في مشفى عقلي في البندقية، فيما جيء بعمدة البندقية إلى مشفى عقلي في بيزا، تحقيقًا لرغبتهما في المبادلة. والحال أن هذه الخصيصة لإعادة خلط الأمور ولمقايضة التاريخ بالجغرافيا، تكاد تكون إيطالية بحتة. وليس من مباغتات المصادفات تاليًا أن يبيِّن إيطالي آخر بهوية امبرتو إيكو، في سن متأخرة من التجربة الكتابية، عن ميل شخصي إلى التفنيد قبيل إعادة الترتيب.
لأمبرتو إيكو، الخبير بعلم دلالات الألفاظ ودراسة الاتصال الشفوي وغير الشفوي، شهية أصحاب المجموعات لا ريب، وهو لطالما شغف بالتكديس والتعداد والجردات. في شبابه استطاع قراءة أي شيء إنطلاقًا من هذا المُقترب، فصارت النصوص العائدة إلى القرون الوسطى وأعمال جيمس جويس المحشوة بالقوائم موضع اهتمامه الأثير. وعلى ما يتراءى، فإن هذه النزعة في يومياته الكتابية إلى تجذُّر، على الأقل في الاستناد إلى ما يظهره كتابه الأحدث. يحتفي إيكو باللوائح في دوار اللوائح (وفق النص الإيطالي) ولا نهاية اللوائح وفق النسخة الإنكليزية. والمؤلف، وفق المنطلق هذا، هو فهرست للفهارس. ثمة متعة حقيقية في مخر صفحات تنطوي على خصوبة وامتلاء وتلاعب وتقليد وغرابة وتعدد، وإن تكن أحيانًا منهكة، متسامحة وغير متجانسة أو غافلة. يحتفي إيكو بـ"دليل" هوميروس ومجموعة فسيحة من اللوائح الأخرى المطبوعة في الثقافة الغربية. في منطق الباحث، منحنا هوميروس، في فجر الأدب الأوروبي، أسلوبين لرؤية العالم. وفَّر لنا لائحة مفتوحة متغيرة للقوى العسكرية، مع كل ما انطوت عليه من تشوش وإلماحات إلى الخواتيم، وأتانا أيضًا في الإلياذة بوصف لدرع عظيمة صنعها الإله هيفايستوس لأخيليوس، وحيث ثمة توقُّف عند وحدة الكون بدءًا من النجوم في السماء وصولاً إلى الخراف في الحقول. الأخيرة كما يعتقد "شكل نهائي"، أي عالم مغلق ومحصور حيث لا شيء خارجه ولا إمكان للإضافة أو التراكم. لا يتركنا إيكو بعد ذاك في شك حيال الأسلوب التصويري الذي يفضله، وهو بلا ريب القائمة التي لا تدرك حدودًا. يملك دوار اللوائح غواية الجشع المتطرِّف. ولأن البحث ينكر على القارئ رضا تفسير ختامي، ففي وسعه، على هذا النحو، رسم محيط الحياة الواقعية والمتوارية في آن واحد. ليس إيكو ممن يوفِّرون الكلام في خصوص يوميات حياتنا التقنية، فهو يتوقف عند الإنترنت ليقاربها كدليل شاسع ومدخل إلى الدوار الأكثر صوفية وافتراضية، بل الأكثر مأسوية وإثارة للريبة. الإنترنت هي الغيبوبة المثملة الأكيدة، كما يعرِّف بها إيكو. وفيما يسمُّونها الشبكة في التداول، يحددها هو تمامًا هكذا: شبكة عنكبوت ومتاهة، بنية مخالفة لهيئة الشجرة المنتظمة وفق غصن وغصين. تبدو القائمة بالنسبة إلى إيكو نقيض الترتيب. ربما تكون أسلوبًا بدائيًا للتقرب من المعرفة، غير أنها المدخل إلى الواقع في معظم الحالات. عندما يسأل المرء ما هي الشمس مثلاً، لا يعمد إلى التعريف العلمي، بل يقول عفويًا إنها شيء مضيء يبزغ صباحًا من الشرق ويختفي مساء صوب الغرب. غير أن القائمة أمست في زمننا المعاصر وسيلة تخريبية. صارت اللائحة وسيلة منمَّقة جدًا لمعارضة النظام، على ما فعل إيتالو كالفينو وجيمس جويس والسورياليون. هذه اللوائح انطلقت، على ما يتراءى، مع رامبو، وكان رابليه أيضًا في عداد مبتكريها في هيئتها الأكثر إختلالاً، بيد أنها حافظت دومًا على هدفها.
في دوار اللوائح لا نجد الكثير من إيكو بالصورة التي ظهَّرتها روايته اللغزية من القرون الوسطى اسم الوردة. كما هي حال في شأن الجمال وفي شأن القباحة، يتماهى البحث الطازج مع الأنطولوجيا، حيث أضيفت إلى اللوائح النصية والتصويرية، التي تبدأ عند الاغريق وترسو عند سالفادور دالي، رزمة تعليقات بقلم إيكو. من الممكن أن يتراءى هذا الإيطالي كديدرو معاصر، فيما يتأمل نزعة الغرب الذهنية إلى وضع اللوائح، ولا يخفي إعجابه بالشكل الموسوعي. في وسط نظريته، يكمن الالتصاق بين حب المراكمة والثقافة الغربية، بدءًا من فهرست النبات والمجموعات الفنية، وكلها مسخَّرة لإبراز "شاعرية الفهارس". لكن، ثمة على مرِّ الكتاب، ما يقلق حماسة إيكو، وهو الإفراط في المعاني والمغالاة، الذي يصعب تحريك خيوطه، في حين يعتبره سمة اللائحة المحددة. ذلك أن اللوائح يمكنها، في رأيه، العمل على التنظيم والتحكم والاستبعاد. في وسط طلاب الآداب مثلاً، ينظر إلى اللائحة في معظم الأحيان على أنها منتوج ثانوي للابتكار الكتابي، في حين تلازمها في الواقع القوانين والتقليد. على هذا المنوال، لا يمكن ثقافة معينة أن تنظر إلى تاريخها بتحديد، سوى عندما يسعها تفنيد ملوكها. على هذا النحو، فإن لائحة بالمدن والأراضي والأنهر التي يجدها إيكو "باعثة للدوار" عند جيمس جويس، هي في الوقت عينه، إحدى أسس التحكُّم الذي لا مفرَّ منه. بغية الإحاطة بهذه الفكرة، يفرق إيكو بين اللوائح "العملية" وتلك "الشاعرية". للوائح العملية، كالجردات وقوائم التبضع أو لوائح الضيوف إلى العشاء، وظيفة مختلفة عن الأخرى الشاعرية. لا يرغب أحدهم في تأمل عدد غير محدد من الضيوف يقرعون على بابه للمشاركة في المأدبة. ولا نميل كذلك إلى تصحف لائحة بمؤلفات مكتبة حيث ترد عناوين غير متوارة. يتجاوز الكتاب البحثَ المقتضب، ليحضر كمنتج رمزي تمامًا لمفهوم النص الإستثنائي من حيث سمته التعريفية والاستفزازية وسطوته على معلومات مثيرة للإهتمام. لإيكو في كل حال، تعريف بليغ عن اللائحة. تركز أجزاء مختلفة من الأنطولوجيا على مجموعات المتاحف والمكتبات. ذلك أن المتاحف تتقاسم مع اللوائح قابلية الإنتهاء، ولأنها لا تنفك تضيف أغراضًا جديدة، وتركز على مذلات الإفراط، ولرابليه في هذا الركن دور البطولة. يركز إيكو على الأدب وعلى تمثيل الوفرة المفرطة في التشكيل، مفترضًا أن بعض الموسيقى كـ"بوليرو" لرافيل، ومن طريق إيقاعاتها الهجسية، "قد تستمر إلى ما لا نهاية"، في حين يكتفي في القسط الأكبر من البحث بالشعراء والروائيين والرسامين، باحثًا عن تأويل تبعات اللوائح والجردات، ساعيًا إلى رصد النهائي وما يبدو أحيانًا نهائيًا، في حين أنه ليس كذلك فعلاً.
في أحد الفصول يصف الآليات البلاغية المستخدمة في اللوائح، كتفادي أدوات الربط. غير أن البحث، على ما أسلفنا، لا يكتفي بتأمل إيكو. والحال أن الكتاب انطلق كحلقة في سلسلة من التعاون بين متحف اللوفر وبعض المؤلفين، لينتج قسطًا من إضاءات لا تنسى. يغرف هذا الكتاب من الصور الجميلة المحيطة بإيكو، إلى جانب خياره للنصوص المكملة. البحث على هذا النحو، رفيق عمل بين جدران متحف اللوفر. وكنتيجة لهذه الأبعاد التفضيلية، وضَّب في رسوم ضاجة بالألوان، معظمها لوحات تصوِّر ساحات المعارك وحشودًا وزهورًا لا تحصى في الحقول أو الأواني. هناك صفحة مزدوجة أيضًا مليئة بمعلبات الحساء من علامة "كامبل" غير المتسقة تبيِّن درجة الجمع الهجسية عند اندي وارهول، والتي يراها إيكو استكمالاً لنسق بدأ مع ذخائر القرون الوسطى. يفصح إيكو في أسلوبه المغرق في الإلهام كيف يسع الفهرسة أن تعكس روح الحقبة. بغية إكمال هذه القوائم التصويرية يضمِّن إيكو البحث فهرست العهد القديم ثم والت وايتمان وهوغو وكتَّابًا آخرين. يتوقف أيضًا عند قائمة "غريبة" وجدت في موسوعة صينية (في المبدأ) بعنوان "السوق السموية للمعلومات التطوعية" وبورخسية (في الواقع). في هذا النص فإن بورخيس جعل تعريفات الحيوانات في فئات. هناك أولاً الحيوانات المملوكة من الإمبراطور، وثانيًا الحيوانات المحنطة، وثالثًا الحيوانات المدربة، ورابعًا الخنازير الرضيعة، وخامسًا الحوريات، وسادسًا الحيوانات الخرافية، وسابعًا الكلاب الشاردة، وثامنًا تلك المذكورة في هذا التصنيف، أما تاسعًا فتلك التي كانت لترتجف إذا غضبت، وعاشرًا تلك التي لا تحصى، وفي المرتبة الحادية عشرة تلك التي تسرَّح بفرشاة من وبر الجمل، وفي الثانية عشرة الآخرون، وفي الثالثة عشرة تلك التي كسرت للتو إناء زهور، وفي المرتبة الرابعة عشرة، والأخيرة، تلك التي تبدو من مسافة وكأنها ذبابات. هذا التصنيف العجيب الذي يستعيده إيكو، سبق أن استخدمه كتاب آخرون واقتبسه علماء الإنسان واختصاصيو علم الأعراق البشرية والأساتذة الألمان والنسويات ما بعد الحداثيات. لا شك أن هذا التصنيف الذي هشَّم وفق ميشال فوكو "كل معالم التفكير المعتادة"، يجد مكانه الرحب في بحث يملك طبائع التباين في أبهى حلله. نمرُّ في دوار اللوائح أيضًا بوصف جوريس كارل هوسمان المصمم في روايته من القرن التاسع عشر في الوجهة المعاكسة حيث دي ايسانت بطل سلبي لا يقوم بأي شيء يستحق الذكر تقريبًا، باستثناء سرد ما يروقه وما لا يروقه. غير أن إيكو يختار أن يتمهَّل عند المجوهرات التي تستخدمها تلك الشخصية لترصيع قوقعة سلحفاتها الأليفة، وإن كان سينتهي بالأخيرة إلى أن تنفق تحت وزر الدُرر. يستدين إيكو هذا السرد التعدادي خلال عملية الترصيع حيث يرد "معدن البريل الأخضر كالهليون، الكريزولايت الأخضر كالكراث والزبرجد الزيتوني بلون الزيتون الأخضر"، في تفصيل من البديهيات. يقرُّ إيكو بإغفاله الكثير، ويعتبر في مقدمته أن هذا المزيج من البحث والمختارات والفهرست المصور "لا يمكنه سوى أن يقفل على المخ". على رغم ذلك، وفيما يصعب وضع خاتمة للكتاب، يبدو عينة مذهلة تتضمن تحديدات تعليمية ومسلية في كل صفحة. وهناك أيضًا مجموعة من الأمثلة على السحر والصدمة الملازمين لكل لائحة منجزة بشكل جيد. من هذا المقترب، يقتنص إيكو ما تذكره الفتيات الريفيات البريئات في رواية ايتالو كالفينو الفرس المفقودة الضاجة بالعبث حيث نقرأ: خلا المراسم الدينية والتساعيات والعمل في الحقول، وضرب الخدم بالسوط، وسفاح القربى، والحرائق، والشنق، والجيوش الغازية، والاغتصاب، والنهب، والطاعون، لم نر أي شيء يستحق الذكر! يدرك متصفح دوار اللوائح أن ثمة إضافة دومًا خلف التفاصيل الإحصائية لأي لائحة وخلف الشكل المحدد وغير المناسب أو المألوف، هي الوحيدة القادرة على أن تمد مجموعة الأشياء المبعثرة المتنافرة بوحدة يصعب تصديقها. *** *** *** النهار |
|
|