|
على هامش زيارة قصيرة للولايات المتحدة
إلى صريح وكل الأصدقاء الذين ما زالوا أوفياء لإنسانيتهم... مقدمة لا بد منها... لم أفكر في الكتابة المباشرة عن الموضوع قبل أن تطلب مني ذلك يا صديقي، فقد كانت رحلتي إلى الولايات المتحدة لأسباب خاصة هي زيارة ابنتي التي تسكن في ولاية أريزونا، والتي لم أراها منذ ثلاث سنوات، والتعرف على ابنها الثاني الذي لم أشهد ولادته. وقد استفدت من هذه الزيارة طبعًا لإنجاز بعض الأعمال الخاصة التي كانت كلها من أجل معابر[1]، كالاتصال بالمناضل الفلسطيني اللاعنفي مبارك عوض، وعن طريقه بأستاذ جامعي ومناضل لاعنفي آخر هو مايكل ناغلر الذي قمنا مؤخرًا بترجمة مؤلفه الذي سننشره خلال هذا العام[2] 2009؛ وأيضًا للتهيئة التقنية لإمكانية بيع كتب دار معابر عن طريق الإنترنت - وهي عملية لم أتمكن من إنجازها في سورية-. وقد قضيت هناك شهرًا بكامله عدت بعده إلى سورية مطمئنًا إلى أن ابنتي وعائلتها بخير. وهذا هو الأهم بالنسبة لي. إنها بخير، نعم، هي وزوجها وأطفالها، رغم أنها قد اختارت الطريق الأصعب، ذلك الذي يسعى إليه اليوم الكثير من أفضل شبابنا، والمتمثل في الهجرة ومغادرة البلاد من أجل التمكن من شقِّ طريقهم الخاص وتحقيق طموحاتهم في الحياة. وفيما يتعلق بابنتي نورا خاصةً، من أجل الحفاظ على أهم ما أخذته من إرثنا العائلي، تلك الاستقلالية الأصعب والأجمل في الفكر وفي الشخصية. - لماذا هاجرتِ يا بابا، لماذا تركتِ البلد؟ - لأني كنت أشعر أن الآفاق مسدودة أمامي في سورية، وخاصة بالنسبة لي كأنثى. - وهل أنت مرتاحة هنا في أمريكا؟ - نفسيًا مرتاحة. ماديًا وضعنا يتحسن والآفاق أمامنا للعمل وتحسين الأوضاع مفتوحة. - ولمن صوّتي في الانتخابات الرئاسية التي جرت مؤخرًا عندكم؟ - أنا شخصيًا لم انتخب لأني، كما تعلم، لم أكن قد أصبحت مواطنة بعد[3]. أما زوجي داني فقد انتخب أوباما طبعًا كمعظم أبناء الحي المتوسط حيث نسكن. آه يا بابا لو تعرف كم ضغطت عليه كي ينتخب. تصور أني قلت له إن سقط أوباما فسيكون هذا بسببك. وقد ذهب يومها منذ الصباح الباكر لينتخب. - وهل تعتقدين أن أوباما سينجح في إحداث التغيير العميق الذي تحدث عنه؟ - أتمنى ذلك من كل قلبي. في بلاد العمّ أوباما... وكنت قد تابعت الانتخابات الرئاسية الأمريكية بكل اهتمام من حيث أنا في سورية. تابعت الحملة القوية لذلك المرشح الأسود البشرة والذي لم أكن أتوقع له الفوز في البداية. وقد سحرني من خلالها كما سحر الكثيرين في أمريكا وفي مختلف أنحاء العالم بشخصه وبخطابه. وهذا ما جعلني أسرُّ جدًا حين أصبح مرشح الحزب الديموقراطي للرئاسة، ومن بعدها حين نجح في الانتخابات. وقد تأملت كثيرًا في معاني هذا النجاح، وفي طبيعة وتركيبة هذا البلد حيث كان لا يحق للزنوج، في الستينات من القرن الماضي، مشاركة البيض في وسائط نقلهم و/أو في مدارسهم ومطاعمهم. وكيف أصبح نفس البلد، بعد أربع عقود، ينتخب، وبأكثرية مريحة 52.4 %، رئيسًا أسودًا. ما يدل على حيوية شعبه والعمق الإيجابي للتحولات الجارية هناك. وتأملت في الانتقال السلس للسلطة بين رئيسين وعهدين أقل ما يقال عنهما أنهما مختلفين. كما تأملت في الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الولايات المتحدة اليوم، وفي انعكاساتها على شعبها وعلى العالم، وفي برنامج كلا الطرفين (الجمهوري والديموقراطي) للخروج من هذه الأزمة والانطلاق إلى أمام. وراقبت أحوال الناس، وكيف يحاولون بكل جدية تحسين أوضاعهم. ومن أجل هذا كنت، وما زلت، أتابع، باهتمام كبير وبشغف، ما يطرحه الرئيس الأمريكي الجديد من برامج وخطط عمل كان أفضل تعبير عنها خطابه الأول الذي ألقاه أمام الكونغرس. وأبدأ من هنا، حيث يقال إن هذه الأزمة قد أدت إلى أعلى نسبة بطالة عرفتها الولايات المتحدة منذ عقود (7.2 % وفق إحصائيات[4] كانون الأول 2008) وأن معدل التضخم (مقاسًا على أسعار البضائع الاستهلاكية) بلغ 4.2 %، وأن الدين العام بلغ 60.8 % من الميزانية. تلك الأزمة التي يبدو انعكاسها الأوضح في القطاع السكني حيث لم يعد بوسع الكثير من أصحاب الدخل المحدود تسديد أقساط منازلهم التي اشتروها عن طريق قروض مصرفية، ما أدى إلى وضع اليد عليها من قبل المصارف التي أفلس بعضها، وإلى انخفاض عام في أسعار المنازل. وأتفكر في كيف يحاولون، من خلال البرنامج الاقتصادي الذي يطرحه فريق أوباما، ليس الخروج من هذه الأزمة فحسب، إنما أيضًا، وهذا الأهم، التخطيط لمستقبل يتفكرون به من منظور أقوى وأغنى دولة في العالم على الإطلاق، وللمئة عام القادمة على الأقل. وأتوقف هنا قليلاً: حيث يبدو للوهلة الأولى أن الفارق الأول والأبرز للعيان، الذي يميز برنامج أوباما عن برنامج منافسه الجمهوري، يتعلق بالضرائب على الدخل. فبرنامج أوباما وفريقه يطرح عدم زيادة هذه الضرائب، لا بل تخفيضها بالنسبة لمن لا يتجاوز دخله الـ240000 دولار سنويًا (أي 20000 دولار شهريًا)، وزيادتها في المقابل، بشكل تصاعدي، على من يتجاوز دخله هذا المقدار؛ بينما كان برنامج الجمهوريين يقتطع نفس النسبة (التي هي بحدود الـ15% من الدخل) من الجميع. ما يعني أن برنامج فريق أوباما كان لصالح الفئات المتوسطة والدنيا التي أوصلته إلى الرئاسة في نهاية المطاف. فأوباما لم ينجح فقط بفضل أصوات أغلبية الزنوج (الذين يشكلون 12.85 % من مجموع السكان)، ولا بفضل أصوات الذين من أصول أمريكية لاتينية (15.1 % من مجموع السكان)، إنما نجح بفضل أصوات الفئات المتوسطة والدنيا من مختلف فئات الشعب الأمريكي الذين انتخبوه بغض النظر عن عرقهم و/أو دينهم. لكن هذا على أهميته ليس الأساس في برنامج أوباما الاقتصادي من أجل الخروج من الأزمة وتجاوزها والسير ببلاده قدمًا إلى أمام، إنما الأهم الذي لفت نظري في البرنامج الذي طرحه في خطابه الأول أمام الكونغرس كان التركيز على ثلاث نقاط أساسية هي: · التنمية القصوى لمصادر الطاقة البديلة: حيث يبدو واضحًا أن التوجه الجديد والمستقبلي للولايات المتحدة بات التخفيف قدر المستطاع من الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للطاقة، وذلك من خلال التركيز على تنمية مصادر أخرى لها، وفي كل المجالات، بدءًا من الطاقة النووية والرياح، مرورًا بالهيدروجين، وصولاً إلى توليد الكهرباء عن طريق مولدات شمسية ضخمة (مولدات يسعون حتى لإقامتها في الفضاء الخارجي وتعتمد على الليزر في ايصال طاقتها للأرض). وهذا ما يجعل منطقيًا الارتباط بين تنمية هذه المصادر وبين النقطة الثانية من برنامجه الاقتصادي التي هي... o تطوير التكنولوجيا: حيث يؤكد برنامج أوباما على تنميتها والاستفادة منها للحد الأقصى. مع التأكيد على ضرورة أن تبقى الولايات المتحدة الأولى في العالم في هذا المجال. وهذا يستتبع منطقيًا النقطة الثالثة من البرنامج التي هي... o تطوير التعليم: من خلال برنامج طموح يهدف إلى جعل الولايات المتحدة الأمريكية الأولى في العالم من حيث نسبة الجامعيين والاختصاصيين وحملة الشهادات العليا (كما أكد أوباما في خطابه أمام الكونغرس). ونلاحظ هنا بشكل أساسي الفارق الكبير بين سياسات فريق أوباما، ومن يدعمه من تكتلات مالية وصناعية كبرى؛ وفريق بوش الذي كان يعتمد بشكل أساسي على الصناعات النفطية وما يتبعها مباشرة (كصناعة السيارات التي أصبحت رغم الغلاء المتصاعد في أسعار النفط أكثر استهلاكًا للوقود). وقد بوشر بتطبيق هذا البرنامج، الذي تتشارك في دعمه فئات من كلا الحزبين، فور تولي أوباما سدة الرئاسة. ونشير هنا إلى أنه في المجال المتعلق بالطاقة البديلة والتعليم، يبدو برنامج مكّين[5] أقرب إلى برنامج أوباما منه إلى توجه بوش الذي كان من حزبه. وقفة ومحاولة للتفكير وأتساءل عما يعني كل هذا في نهاية المطاف: أتراه مجرد محاولة للخروج من أزمة يحاول البعض من يساريينا تصويرها بالمستعصية؟ أم أن الأمور أعقد وأعمق مما نتصور؟ وأتفكر من منطلق ما سبق لي أن اطلعت عليه، ذلك المنظور الماركسي الذي كنت أتبناه فيما مضى، (وأتفكر) في تحليل ومحصلة تقول إن رجعية أي نظام و/أو تقدميته إنما تقاس في مقدرة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية السائدة على تطوير و/أو إعاقة القوى المنتجة[6]، ما قد يعني من هذا المنظور (الصحيح إلى حدٍّ كبير من وجهة نظري) أن النظام الرأسمالي السائد في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية هو أكثر تقدميةً من النظام "الاشتراكي" الذي كان سائدًا في الاتحاد السوفيتي وبلدان أوروبا الشرقية، والذي كنّا نسانده. ولكن في المقابل، إذا كان هذا الطرح صحيحًا، فما الذي تعنيه هذه الأزمة العميقة إذًا؟ أتراها، كما يقول البعض، أزمة نظام لم يعد قادرًا على الاستمرار؟ وأتفكر في الموضوع من منظور البرنامج المطروح من قبل فريق أوباما للخروج من الأزمة عن طريق التركيز على مصادر الطاقة البديلة والتكنولوجيا والتعليم، وأتفكر بها أيضًا من خلال الواقع الذي لمسته في الولايات المتحدة، ومن خلال مطالعاتي بهذا الخصوص؛ فألاحظ أن الأزمة عميقة بلا شك، لكنها ليست على الإطلاق كتلك التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، التي كانت فعلاً أزمة نظام باتت علاقات الإنتاج فيه[7] تعيق بشكل كامل تطور القوى المنتجة الأمر الذي جعل الانهيار محتمًا. فالفارق بين الوضع في الولايات المتحدة اليوم وبين ما جرى في الاتحاد السوفياتي آنذاك، هو تحديدًا أن النظام الرأسمالي السائد هناك ما زال قادرًا على تطوير قواه المنتجة من خلال التحكم في علاقات الإنتاج القائمة وضبط تفاعلاتها. وهذا ما نشهده في هذه المرحلة. فما حدث من أزمة، وما هو مطروح من حلول لها من خلال الخط الذي يمثله أوباما، يعني: - أولاً: أنه في هذه المرحلة من التقدم العلمي والتقني، أصبحت الرأسمالية المتوحشة، من خلال سعيها المحموم وراء الربح السريع عن طريق المضاربات، عائقًا فعليًا أمام تطور القوى المنتجة (كالطاقة البديلة مثلاً). - ثانيًا: إن متطلبات تطوير القوى المنتجة باتت بحاجة إلى تدخل مباشر وقوي من قبل الدولة كشريك أساسي. - ثالثًا: أنه من أجل تحقيق هذا الهدف الذي سيحدد مصير الولايات المتحدة، ومن خلالها مصير العالم للمئة عام القادمة، أصبح من الضروري التخفيف، للحد الأقصى، من التوترات الاجتماعية داخل البلاد. و... - رابعًا: أنه من أجل تأمين تحقيق هذا المنظور بشكل سلمي بات ضروريًا أيضًا التخفيف قدر المستطاع من التوترات الاجتماعية والسياسية على الصعيد العالمي. وهذا هو التوجه الحالي هناك، والذي بوشر في تطبيقه على أرض الواقع. وهنا أرى من الضروري تسجيل بعض الملاحظات قبل الانتقال إلى ما يهمنا بشكل مباشر ويتعلق بالسياسات الخارجية للإدارة الأمريكية الجديدة. لأن أهم ما لاحظته في الولايات المتحدة، ويعيشه الناس يوميًا، هو موضوع الأسعار: أسعار المواد الغذائية والمنزليات والإلكترونيات، أسعار الوقود، وأسعار الملابس والسيارات والمنازل الخ... فألاحظ: - أولاً: أن أسعار المواد الغذائية، والملابس والإلكترونيات والمنزليات في الولايات المتحدة، مقاربة جدًا، وبشكل عام، للأسعار عندنا في سوريا، إن لم يكن الكثير منها (كالوقود أو الإلكترونيات مثلاً) أخفض من عندنا. - ثانيًا: أن الدخل في الولايات المتحدة مرتفع جدًا مقارنة بالدخل عندنا، فمن لا يتجاوز دخله هناك الـ2000 دولار شهريًا يتلقى مساعدة من الدولة. - ثالثًا: أن صندوق التقاعد لديهم، والمعروف بالـ 401K، هو عبارة عن حساب مصرفي يحدد فيه المرء ما يختاره من معاش حين يبلغ سن التقاعد الذي هو الآن هناك 65 سنة[8]. - رابعًا: أن أسعار السيارات أخفض من عندنا بما لا يقاس، إن لم نقل أنها الأخفض في العالم. - خامسًا: أن أسعار المنازل في الولايات المتحدة، والمتميزة من حيث مواصفاتها وخدماتها، أخفض من أسعار المنازل في بلدنا. - سادسًا: وفيما يتعلق بأسعار المواد الغذائية والمنزليات والإلكترونيات التي أعود إليها مرة أخرى، فإني أرى من الضروري الإشارة إلى الانتشار الواسع لشبكة محددة من الهيبر ماركيتات الضخمة جدًا هي الولمارت Walmart التي اشترتها وأصبحت تمتلكها الصين الشعبية. وهذه تقدم كل شيء بالأسعار الأرخص بدًا من البندورة وصولاً إلى الكومبيوتر. وأفهم من خلال هذه الشبكة مقدار عمق العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة وبين الصين المستفيدة جدًا من السوق الأمريكية[9]. مع الإشارة طبعًا إلى أن لهذه الشبكة سلبياتها الكبيرة حيث تقضي في المناطق التي تتواجد فيها على التجارة الصغيرة والمتوسطة[10]. وأبدأ من هذه الملاحظة الأخيرة لأتفكر، انطلاقًا من الاقتصاد، في السياسات الخارجية للولايات المتحدة التي باتت تحتل بحكم موقعها الجغرافي المطل على محيطين، ومنذ الخمسينات من القرن الماضي، الموقع الجغرافي-السياسي الأهم في العالم. ما يعني من هذا المنطلق أن تبادلاتهم الأهم هي مع آسيا المتمثلة بشكل خاص بالصين واليابان وكوريا الجنوبية ودول جنوب شرق آسيا من جهة، ومع أوروبا من جهة أخرى. وهذا ما يفسر أولوياتهم السياسية. في الأولويات السياسية للولايات المتحدة وعلاقتها بمنطقتنا[11] لأن كل دولة تحدد سياستها وتتفكر في النهاية من منظور مصالحها الاقتصادية ومن منطلق موقعها الجغرافي-السياسي. وفي هذا المجال، كما تشير كل الدراسات، تحتل الولايات المتحدة، التي ما زالت حتى هذه الساعة الدولة الأغنى والأقوى في العالم (وفي كل المجالات)، الموقع الوسط الأهم جغرافيًا وسياسيًا من حيث إطلالها على محيطين هما الهادي والأطلسي. وحولها، من كلا طرفي هذين المحيطين، تقع معظم الدول الأغنى في العالم[12]. تلك التي تنافسها من جهة، وتسعى للاستفادة من سوقها من جهة أخرى. وعلى رأس هذه الدول، نجد اليابان[13] وكوريا الجنوبية من جهة المحيط الهادي، وألمانيا وفرنسا وبريطانيا من جهة المحيط الأطلسي. وهذا الواقع مقرونًا بقوتها العسكرية وتفوقها التقني هو الذي يفرض عليها النظر إلى مصالحها الجيوسياسية من منظور عالمي. الأمر الذي يجعلنا نتفهم اهتمامها بكل ما يجري في العالم وخاصة في روسيا أو الصين أو أفريقيا أو في منطقة الشرق الأوسط التي قد تبدو اليوم من حيث وضعها الجغرافي-السياسي، وللوهلة الأولى، هامشية بالنسبة لها. وأفصل هنا قليلاً: - حيث يبدو تطور الأوضاع في روسيا مقلقًا بالنسبة للولايات المتحدة. فروسيا اليوم، والتي هي وريثة ما كان يعرف سابقًا بالاتحاد السوڤييتي، هي دولة ما زالت تفتقر إلى التوازن، ومعرضة للانهيار السريع، إن لم نقل لتقلبات سياسية خطيرة. فهي بلاد شاسعة، وفيها ثروات طبيعية كبيرة جدًا لكن كثافتها السكانية قليلة جدًا وخاصةً في قسمها الآسيوي. كما أن مؤسستها العسكرية كبيرة وتكاد في بعض المجالات أن تضاهي المؤسسة العسكرية الأمريكية. بينما نخبتها الحاكمة[14] ما زالت إلى الآن غير مستقرة. من هذا المنطلق، نفهم السعي الحثيث للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لاستيعاب الأوضاع الروسية عن طريق السعي الحثيث لدمجها إيجابيًا وأكثر فأكثر في الأوضاع العالمية. وفي نفس الوقت، توخي الحذر من احتمالات تقلباتها المفاجئة من خلال تعزيز القوة العسكرية لحلف شمال الأطلسي. وهذا ما يجعلنا نفهم بالمقابل سعي الولايات المتحدة لتعزيز علاقتها مع... - الصين الشعبية التي ساهمت علاقتها مع الغرب، مقرونةً بانفتاحها الاقتصادي، ودخولها إلى منظمة التجارة العالمية وعن طريقها إلى السوق الأمريكية، في جعلها من الدول المهمة جدًا على الصعيد العالمي بشكل عام، وبالنسبة للولايات المتحدة بشكل خاص. فالصين هي تلك الكتلة البشرية التي تستطيع أمريكا من خلالها موازنة منافسيها المحتملين (اليابان و/أو روسيا). مع الإشارة إلى أن الصين، المستفيد الأكبر من السوق الأمريكية حاليًا، لا تشكل، بحكم عمق مشاكلها الداخلية الناجمة عن نظام سياسي متسلط ومعدلات تطور اقتصادي داخلي غير متوازن[15]، على المدى المنظور، أي خطر جدي على الولايات المتحدة. - كذلك لا تشكل أوروبا الغربية، التي ما زالت إلى الآن الحليف الأقرب للولايات المتحدة، أي خطر عليها من الناحية الاقتصادية. فأوروبا تواجه نفس مشاكل الولايات المتحدة ذات العلاقة بضرورة تجديد قواها المنتجة، لكن مواردها ومقدرتها على التحرك المقرون بموقعها الجغرافي السياسي الذي فقد أهميته، ومحدودية قدرتها على استيعاب ما قد تحتاجه من عمالة تقنية مختصة، يجعلها أضعف بكثير من الولايات المتحدة، إن لم نقل تابع لها إلى حد كبير. وأوروبا ما زالت إلى الآن تشكل من خلال حلف شمال الأطلسي، الدرع الذي يحمي الولايات المتحدة من أي تطور غير منضبط ومحتمل للأوضاع الروسية. كما أنها البلد الأكثر عرضة للمخاطر الإرهابية المتمثلة حاليًا، وبشكل أساسي على ما يبدو، في الأصولية الإسلامية. - وترانا نصل إلى منطقة الشرق الوسط، الغنية بالنفط والغاز الذين سيبقيان، للعقدين القادمين على الأقل، المصدر الرئيسي للطاقة في عالمنا. هذه المنطقة التي ما زالت مهمة جدًا من المنظور الجغرافي السياسي، ليس فقط بسبب ثرواتها النفطية، إنما أيضًا وخاصةً بسبب موقعها عند ملتقى ثلاث قارات (آسيا، أوروبا، وأفريقيا). ونلاحظ ما يلي:
القوميات في الشرق الأوسط إن الشرق الأوسط، الذي لا يمكن اعتباره من المناطق الأفقر والأكثر تخلفًا في عالمنا الحديث، حيث لا يمكن مقارنته بأفريقيا على سبيل المثال، ما زال إلى اليوم، كما كان في بدايات القرن الماضي، الرجل المريض، إن لم نقل المنطقة الأكثر خطورة في عالمنا. وذلك للأسباب التالية: - أولاً: أنه في هذه المنطقة، ومن خلال دولها، ما زلنا نجد تلك الصراعات القومية المستورة و/أو المعلنة، والتي تجاوزها العالم المتقدم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. (عرب، فرس، أتراك، أكراد...). - ثانيًا: أنه في منطقتنا، ومن خلال دولها، ما زلنا نجد أشد الصراعات المذهبية، التي بعضها كامن وبعضها متفجر، والتي تجاوزتها أوروبا منذ أكثر من مئتي سنة. (سنة، شيعة...). وهذا ناجم بشكل إساسي، من منظوري، عن مشاكل يمكن إعادتها في نهاية المطاف للعلاقة الشائكة بين الإسلام والحداثة. - ثالثًا: ومما يزيد من صعوبة الأوضاع في منطقتنا، أن دولة إسرائيل، التي ساعد العالم الغربي على إقامتها، من خلال ما كان يتصوره ربما حلاً لمشكلته اليهودية؛ لم تستطع إلى الآن، بحكم الإيديولوجية الصهيونية التي ما زالت سائدة فيها (وتحول اليهودية من دين إلى قومية)، أن تصبح دولةً طبيعيةً في المنطقة. مما يزيد من المشاكل تعقيدًا. مع الانتباه أيضًا... - رابعًا: إلى وجود مصالح اقتصادية ضخمة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وخاصة كما يعرف الجميع ما له علاقة بثرواتها النفطية. وهذ ما استدعى في حينه، بالإضافة إلى الصراع الجيوسياسي الذي كان دائرًا في العالم أيام الحرب الباردة... - خامسًا: وجود قواعد عسكرية أمريكية لحماية المصالح الاقتصادية (وتحديدًا النفطية) للولايات المتحدة في هذه المنطقة من أي تهديد محتمل لهذه المصالح. من هذه المنطلقات، التي باتت معروفة للجميع، بوسعنا أن نفهم توجهات الغرب فيها عامةً، وتوجهات أمريكا فيها سواءًا في ظل إدارة بوش (المحدودة الأفق) أو في ظل الإدارة الحالية التي تبدو أوسع أفقًا. ما يعني، من هذا المنطلق، أن الولايات المتحدة التي ترسم سياساتها انطلاقًا من مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية، ستسعى خلال العقد القادم، وبالتنسيق مع أوروبا، لتهدئة الأوضاع فيها. وهذا ما بات يتجلى بوضوح: - أولاً: في إعادة فتح الحوار الذي كان مقطوعًا بينها وبين إيران منذ انهيار الشاه. وإعادة فتح الحوار بينها وبين سورية التي كانت دائمًا تسعى إلى مثل هذا الحوار. - ثانيًا: سعيها الحثيث لإيجاد حلٍّ (تسوية) للصراع العربي الإسرائيلي الذي بات مزعجًا جدًا بالنسبة لها ولحلفائها وللعالم. وهذا ما فهمه أقرب الناس إليها في إسرائيل - حزب العمل - الذي انضم، وبمباركة أمريكية، إلى حكومة ناتنياهو اليمينية من أجل التخفيف من غلوائها المتطرف والضار جدًا بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، و... لإسرائيل. واكتفي بهذا القدر... خاتمة لأني عانيت جدًا حين استجبت لطلبك وكتبت هذه المقالة يا صديقي. فأنا، كما تعلم، لم أعد أهتم بالسياسة المباشرة التي ما زلت والكثير من أصدقائنا يحبون الغوص فيها. إنما، أصبحت أميل إلى ما هو أكثر إنسانية ويشكل في النهاية أساس كل سياسة بناءة: تلك الثقافة المبنية على قيم إنسانية يبدو أنها أصبحت اليوم منسية. وهذا تحديدًا هو ما جعلني أكتب من أجلك هذا الموضوع آملاً أن تكون فيه بعض الفائدة. *** *** *** [1] موقع ثقافي إلكتروني: http://www.maaber.org [2] بحثًا عن مستقبل لاعنفي، مايكل ناغلر، ترجمة غياث جازي، معابر للنشر، دمشق، 2009. (الكتاب قيد الإنجاز حاليًا) [3] أصبحت نورا مواطنة أمريكية خلال وجودي هناك. [4] جميع الإحصائيات مأخوذة من الكتاب السنوي للمخابرات الأمريكية https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/us.html [5] المرشح الجمهوري الذي كان ينافس أوباما. [6] مقولة لماركس. [7] سيطرة الحزب على المجتمع وملكية الدولة لكل وسائل الإنتاج. [8] قابلة للارتفاع بسبب ارتفاع معدل الأعمار الذي هو وسطيًا 78.11. [9] تشكل السوق الأمريكية من حيث حجمها 40% من السوق العالمية. [10] هناك حاليًا في الولايات المتحدة حملة شعبية ضد الولمارت يدعمها الحزب الجمهوري. [11] فيما أطرحه من تحليلات في هذه الفقرة اعتمدت على قراءاتي وبشكل أساسي على كتاب في منتهى الأهمية بعنوان: The Next 100 years للمحلل الجيوسياسي جورج فريدمان. [12] دول ما بات يعرف بالـ G20. [13] اليابان هي الدولة الثانية في العالم من حيث قوتها الاقتصادية. [14] والكثير منها هي من المافيات المنبثقة من المؤسسات السوڤييتية السابقة. [15] حيث تشير كل الدراسات إلى أن المناطق التي استفادت من الانفتاح الصيني هي المناطق الساحلية والمدن الرئيسة من الصين التي تضم 260 مليونًا وذلك على حساب المناطق الداخلية التي تضم معظم سكانها والتي ما زالت فقيرة جدًا.
|
|
|