|
الجزائري الراحل حميد كشّاد:
غاب ذلك «التروبادور»، بزيه المميز الذي كان يرتديه: سترة «البلو دو شانغهاي» بالشاش الصحراوي المميز، وهو يحمل القفة بشكل دائم، فبعد اليوم لن يُرى في دار الصحافة ولا الإذاعة الوطنية ولا حتى بين المدن الصحراوية التي تجول فيها كثيرًا. عندما اضطر حميد كشاد إلى مغادرة هذا العالم ترك، إضافة إلى ملابسه المميزة، قفة بقيت كئيبة بعده، لا نعلم ما كان بداخلها، هي علامته المميزة و«علبته السوداء» التي قد يكون فيها السرّ الذي يميّزه عن غيره، وجعل منه ذلك الفنان المثقف المتمرد، عاشق الهامش إلى حد التضحية في سبيله بكل شيء، حتى بـ«الخبزة» مثلما حدث له أكثر من مرة. غادر المؤسسة التي كان يعمل فيها مكرهًا. لم يمهل الموت حميد شهرًا آخرًا حتى يحتفل بعيد ميلاده الثالث والخمسين، وأضطر حميد إلى الرحيل صباح الخميس الماضي، ودفن في مساء اليوم ذاته قريبًا من مسقط رأسه بمنطقة القليعة (ولاية تيبازة) بعد أزمة قلبية حادة نتيجة لمرض في الأوعية الدموية، إضافة إلى مرض السكري الذي كان يعاني منه. كان حميد مثلما عرفه الناس، عاشقًا للحياة، منطلقًا، باحثًا عن الحقيقة، جامعًا لإبداعات أصوات المطربين والشعراء الذين همشتهم مؤسسة الذوق الرسمية، ووصل بتمرده إلى أن هُمّش هو شخصيًا وبقي بدون عمل لمدة طويلة، إلى أن تمكن من العودة إلى القناة الإذاعية الثالثة بشكل دائم في بداية تسعينيات القرن الماضي والجزائر تشهد تحولات عميقة بعد أحداث الخامس من أكتوبر 1988 م.، وكانت تلك العودة مع المدير العام السابق للإذاعية الجزائرية الطاهر وطار، الذي يقول عنه: كان مثقفًا عميق الثقافة، شبه وجودي النزعة، وقد عرفته بهندامه المميز وقفته التي لا تغادره والتي كان يحمل فيها وثائقه وبعض مقتنياته. ويقول وطار أن الفضل في التعرف عليه يعود إلى المدير السابق للقناة الأولى عبد القادر علمي الذي قرّب بينهما عندما اكتشف فيه صاحب مشروع فني وثقفي كبير، يقول وطار: أمرت أن تسلم له «ناغرا» قيمته بالتقريب 18 مليون سنتيم، وبعدها مباشرة اتجه إلى عمق الصحراء يبحث في تراث موسيقى القناوي والديوان وباقي الأنماط الموسيقية الأخرى انطلاقًا من مدينة بشار وصولاً إلى مدن أخرى. وإضافة إلى مبنى الإذاعة الجزائرية، كان حميد وثيق الصلة بمبني دار الصحافة الطاهر جاووت، فقد اشتغل في يومية لوماتان المتوقفة عن الصدور حاليًا، ومرّ مرورًا جميلاً في يومية اليوم المعربة التي رأس فيها القسم الثقافي لأشهر معدودات، لكن مروره السريع من هناك كان مؤثرًا على القسم وعلى الزملاء، وبعد مغادرته للصحافة المكتوبة بقي وفيًا لزملائه السابقين وكان يزور دار الصحافة مرة بعد أخرى إذا أعطاه المرض فسحة لذلك، وظل بقفته وشاشه، و«شنغايه» ضيفًا جميلاً على زملاء الصحافة المكتوبة، لكن الزملاء افتقدوه فجأة ولم يترك لهم سوى ذكريات يروونها عنه. لم يكن أحد عند مبنى لوماتان الخاوي بعد توقف الجريدة، وفي اليوم مازال زملاؤه يذكرونه بحنين كأنه الحلم. تقول ربيعه الحداد، التي عملت معه في القسم الثقافي، إنه جاء إلى تلك الصحيفة المعربة بعقلية جديدة جدًا، غير مسبوقة في عالم الصحف المعربة الجزائرية، فلأول مرة يخرج الصفة الثقافية من روتيناها ويبعث فيها روحًا وقد كانت ميتة بالفعل، ورغم قصر المدة التي بقي فيها على رأس القسم الثقافي، فقد أصبحت الجريدة في عهده تفتتح بالثقافي على غير العادة. ورغم أنه كان صاحب خيارات فكرية مختلفة إلا أنه لم يكن يتكلم إطلاقًا عن الأيديولوجيا، بل كان مثقفًا وفنانًا يحب العمل الإعلامي بشكله الاحترافي، وأول شيء جاء به إلى القسم الثقافي هو أنه حرّر الصحافيين من المكتب ومن روتين الكتابة في الثقافة بتلك الطريقة المعلبة المستهلكة. وكان يعشق الثقافة الجزائرية ويدعو إلى اكتشافها في الميدان وفي الذاكرة الشعبية لا في مكاتب مغلقة، واستطاع أن يدخل لغة جديدة إلى الإعلام الثقافي المكتوب بالعربية، وتضيف ربيعة: بفضل حميد سافرت إلى منطقة تميمون في عمق الصحراء وبقيت هناك مدة عشرة أيام، وحضرت الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف، بكل الطقوس التي تقام في مثل تلك الاحتفالات، وكتبت عنها في الصفحة الثقافية.. كانت تلك فرصة غير مسبوقة لي ولن أنسها مطلقًا. وبقي حميد إلى أن فاضت روحه في بداية هذه السنة الجديدة، مدافعًا عن ثقافة المهمشين، يبدع حين يكتب ويبدع حين ينتج حصصًا للإذاعة، وقد عرف ببرنامجه الشهير قال وقال الذي أعاد فيه التأريخ للفن الجزائري، من العنقى إلى الرميتي والشيخة الجانية إلى الشيخ المقلش وغيرهم من شيوخ الأغنية الجزائرية، واستطاع أن يسلط الضوء على الكثير من البؤر المظلمة في تاريخ الفن الجزائري، وبقي وفيًا لنهجه مثلما كان وفيًا لهندامه المميز وقفته إلى أن أجبره الموت على الترجل، في بداية هذه السنة، ولم يمهله سنة أخرى. *** *** ***
|
|
|