حــاجــات
دارين أحمد
حاجات
ما الذي نحتاجه؟ مرآةً وشمسًا تحرق عيوننا ونحن ننظر إلى صورتنا ببراءة،
صورةً وقلمًا حبره أزرق يطفئ العينين حتى تخرج عين ثالثة من شفاهنا،
فمًا وحبة توت حمراء تصبغه بشبق التواءتها السرية والمكشوفة،
نهرًا ومنديلاً من زمن قديم يغسل الدم العابر على جلدنا،
عابرًا أو عابرةً وبيتًا بعيدًا نُشعله،
نارًا وزيتًا نصبه كلما أنطفأنا،
سرًّا وآخرين نصلبهم عليه،
معرفةً وآخرين نصلبهم عليها،
صليبًا في قمر، وقمرًا في صليب، ونجمةً في قمر، وصليبًا في نجمة و.. و.. و..،
وأقداحًا، وغرفةَ قبوٍ، وامرأةً عازفةً، وقضيبًا صاحيًا، ومقصلةً، ودلوًا، وبئرًا،
وأملاً، وطفلاً، وقطعة طينٍ طريةً نطفئ فيها مآثرنا.
يا عُملة السماء، يا حريقًا في راحتيَّ،
بك اشتريتُ مصباحًا بلا ماردٍ،
وبساطًا لا ريح فيه.
وصرتُ أخشى اسمك، وألصقه على الجدران مقلوبًا،
علَّ لؤلؤة منه تسقط فتُسقِط أقدار الجنود من أقدارك.
وأنا احتاجُ صخرة ومطرقةً؛
زمنًا ملفوفًا في علبة، وجبلاً كي أصعده؛
حذاءًا خشبيًا أوقظ به السلاحف النائمة،
وساعةً مكسورة تزين معصمي.
احتاجُ كتابًا لا أقرأ لغته،
وشجرةً أجلس في فيئها حين أتعب،
وجدارًا أحدِّق فيه...
ومن حين إلى حين
أحتاجكَ.
* *
*
وحي
محظوظٌ أنتَ
تجلس كل يوم ساعة على كرسيك الجلدي
وتغمس يدك في لعاب الشعر ثمَّ تمص إبهامك فرحًا
أما أنا؛ فأقف خلفك، وأذني معلقة بأذنك.
منذ متى وأنت تجلس مرهقًا، رأسك يتأرجح على رأس الكرسي
وأنا أحمل سلةً عله يسقط؟
لكنك - محظوظٌ أنت -
تنشر مفردات لها رائحة خبيثة في هواء الغرفة؛
فأسقط وعلى وجهي ابتسامةُ بلهاءٍ صغيرة.
* *
*
توقُفْ
ما الذي أفعلُه؟
تدحرج الصخر من جبل إلى واد أصواتي
ولا أفهمُ إن كان هناك صوت آخرٌ
لثابتٍ آخرَ عن أصواتي يتساءلُ
لكن الهواء حياديٌّ مثل الموت
والفراشات ساخرةٌ مثل القتل.
ليس فيَّ أو مني ما تقتلُ
إلا أني مشمئزةٌ وعلى شفتي ابتسامة،
صاحيةٌ وأجفاني الكثيرة تغطي الشمس والبحر والضوء والليل.
وأيضًا هناك قمرٌ أعرفه من رائحته
ومن احتكاك أجنحة الصراصير القمرية.
قلْ إنك تعرف ذلك حتى يبلغ تأكدي من وجود الحياة سفح عينٍ مفتوحةٍ
وعقلٍ غامضٍ يدندن لغةً ما.
ضحكةٌ... ضحكةٌ مثل الفراشة
مثل اتساعٍ مخيفٍ لعينين برئيتين
بطيئتين
لم تدركا سرَّ موتهما في زمن توقف.
* *
*
متعة
أستضيفك كي أخبرك كم أنا متعبة ومشتاقة
وأقدّم لك القهوة كي أخبرك كم الرائحة التي حولك تغويني.
أحدّثك عن الشعر حتى تراني،
وعن السلام كي تشتعل نيرانك،
وعن الحب لكي تنسى عشيقةً أو زوجةً في انتظارك.
وأصمت كي يكون زفيرك شهيقي
وأنا أراقب حركات شفتيك ويديك.
ولا أسمعك
كي تشعر بأنوثتك من وجهة نظرك،
لكني، وحول كل هذه التفاصيل، أستمتع بمنظر الغيم من نافذة صغيرة.
* *
*
في انتظار الحياة
الشمس محراثٌ على أهدابهم، هم الجالسون في الظلِّ
يصنعون أقدارًا صغيرة ليوم يُغيّم خلفهم،
لا يسألون: هل مرَّ حصان من هنا وسوطٌ على ظهره يسوق الطريق؟
هل نظر فارسٌ محمومٌ بالجزيرة نحونا، وأصغى؟
هل تطابق الموت والرسم؟
لا ينظرون إلى القطرات المتهدلة من أصابعهم، لا ينزفون.
وأنا لن أحرِّك قشّةً نحوهم.
في تخثر الماء رأيت وجهي.
رأسي يجول في ألوانهم، وجسدي انطفأ.
كالأزرق المطروش في عين أعمى رسم الله بيتي في حديقته،
وبحيرةً خضراء فيها انعكاس أناني لقوس في يده،
هو الملاك العاري
يلبسني أطواق الثياب ويضحك.
قد تدحرجتُ في أظافره، في الشقوق الصغيرة التي سواها في الجبال؛
في الأصوات الهامسة التي تخرج من رئتيه.
وفي نظرات عينيه لونت يومي
وقلت: إني هنا وأريد للمستحيل أن يبقى
أن يسرق كل الدهشات المخفية والظاهرة
ويفرشها أمامي.
أريد للمنطق أن يتكسّر على مرآة نهر
ويترك روحه للغيم يجتاحها مثل هرقلٍ يموت بلسعة نحلة.
نحِنّ ونحن جالسون على معقد
إلى فضاء لا أسوار له
ورَبٌّ مغرور قليلاً لكنه لا يتحول بين حين وحين إلى أشياء لا نعرفها
لسنا نقول إنّا نخاف التغير، ونخاف الدهشة
لكنا نقول إنّ الخوف هو انتقال اللون من طرف إلى طرف دون المرور بنا
وأنّا نخاف أنْ نشفَّ مثل كيس رماه الناس ولفظته الطبيعة.
* *
*
سبق
حلم معبأ بحِرَفيّة في أيقونة مشمسة
هو نهاية هذا الركض الهادئ
لا متسابقين يتعرقون على الطرقات
لا أشجارَ تتثاءب كلما نظرت إلى خفقان الهواء حول أذرعهم
لا مصوتين يعبثون بالـ SMS
لكسر رتابة الوقت
لكن، لعلنا نتسلى بطرق الأرض
فحين يصل آذاننا صوتُ طعناتٍ رتيبٌ نأخذ شهيقًا عميقًا
ونتلوى كأفاعٍ صغيرة.
* *
*
شعر
لا أريد التشاجر مع ليونة التعبير
فقد أسكرتني همجية الكلمات ومنحدرات اللغة
لذلك، حين يصبُّ قارئ راحته هنا،
وتذوب مثل شمعة تحت شمس حارقة،
تخرج ثعابين من جحور المعاني،
تركت سمها عندي.
* *
*
اتِّحاد
أخيرًا أقلعت الشمس
وأنا أرقبها من ثقب الباب، متحرشةً بالضوء الأول:
أهو ذيل ما تتركينه على أكتاف عشاق يدغدغهم وبر أفكارك فيعطسون
غير آبهين بالرذاذ المتساقط عليّ؟
سأنتحر أمامك مقيدةً لساني بثقوب الليل،
التي يسمّيها عشاقك أنجمًا.
فقد عرفت الخشية وكرهتها،
وكرهت العتمة وسكنتها.
في أي مكان ترانا اقتربنا من أنفسنا حتى تحولت أنفاسنا إلى كرة
ترميني بها وأرميك؟
* *
*
تناقض
عرّف الله بمقطوعة موسيقية ونام صامتًا كحجر.
عرّف الحب بدغدغة الرذاذ تحت شمس حارقة
وحين أغوته في الحلم سيرينية سمراء، قال: أحب الشقراوات،
وعندي طريق ينتهي إليها.
امرأة من شمس وذهب
تغزل شعرها مثل مصيدة، وتجهل أن البرج عالٍ والله مقص.
* *
*
وحدة
كم يصفعني جناح الفراشة
في صمتي، في جلوسي على ضفة وقتي،
وانتظاري مرور فكرة ملونة
كي أؤمىء لها، وأقول: مرحبًا.
هي تنظر بعيونها المئات إلى كل الاتجاهات إلا اتجاهي
وربما ترى الشجرة التي على جذعها أنا معلقة لكنها تتغافل عني
أو ربما أنا التي لا أضيء كفاية، أو أعتم كفاية، وإنما أتلاشى في ألوان الأشياء،
وأحلم أن تميّز الكائن اختلافه،
وأحلم باختلافي.
لكلٍّ منا شكل يعطيه شكله
وحين يتعب يأخذ شكلاً "جديدًا" من مرآة.
هو نفسه مرة في جهة اليسار ومرة في جهة اليمين،
لكن رأسه يسند السماء، وقدماه تسندهما الأرض،
وأنا جذعٌ بلا جذر أو ورق.
***
*** ***