جزيرة الورد قبل القيامة بقليل

 

ممدوح رزق

جزيرة الورد ليس الاسم القديم لمدينتي فحسب، هو أيضًا الاسم الذي سيظل يتطابق تمامًا مع المسمى. مدينتي كانت وستستمر حتى نهاية وجودها جزيرة ورد حقيقية بكل ما تنجبه من كائنات وأشياء. هي أيضًا وصف لكوكب الأرض نفسه باعتبارها جزء من كل. جزء يعبر ويدل بصدق على معنى الكل. لكن للأسف الشديد ورغمًا عني فعلاً فأنا أعيش في هذه المدينة وطالما أنني كذلك فلابد أن أنفّذ المهمة المحددة التي كُلفت قدريًا بها. هناك دور ينبغي أن أؤديه دون أدنى اعتبار لجمال مدينتي وضد كافة المشاعر الرقيقة المسالمة لكل الورد الذي يملأ الجزيرة!!

المسرح لا يوجد في المبنى الكبير المطل على النيل والمجاور لحديقة صباح الخير يا مصر، وأيضًا لا يوجد في المبنى القائم خلف مديرية الأمن بالقرب من كازينو أندريا. المسرح يمتد بالتحديد من مقهى الفراعنة وحتى كازينو الحرية الشهير بمقهى اللبن في ميدان أم كلثوم مرورًا بـ فندق مارشال المحطة.

ما هو أنسب دور لي داخل (نص) واضح وبسيط إلى هذه الدرجة؟

تعرف ... حينما اندفعت البنت زميلتنا في الفرقة من باب قصر الثقافة وجرت في الردهة الطويلة وهي تضع يديها على وجهها وتبكي وتصرخ بشكل هستيري ثم أخبرتنا أن زميلنا مات في حادث سيارة وهو عائد من القاهرة عند أجا... تعرف ... شعوري لحظتها لم يكن مجرد شعور بالصدمة أو بالألم أو بالفزع. هل جربت التجمد المفاجئ الناجم عن إفاقة مباغتة كشفت لك بمنتهى القسوة أنك لست بطلاً. ليس أنت فحسب بل وكل الآخرين الذين تعرفهم والذين لا تعرفهم. كأن تمثال حجري بنفس حجمك ومقاييسك سقط داخل جسدك بعنف من ثقب مجهول في رأسك وسحق تحته كل شيء كان ينبض في لحظة واحدة. لا أحد بطل ولا حتى كومبارس. إننا شيء آخر ربما لم يُعثر له على اسم أو صفة بعد ولكنك رغم هذا تعرف - وهذا ما يزيد الأمر قسوة - أن السيارة البيحو أجرة / الدقهلية التي كانت في طريقها من القاهرة إلى المنصورة وانتهت رحلتها عند أجا لم تكن سوى قطعة ديكور.

يا أيها الذين تنتظرون هل أخبركم بأكثر ما يؤلم في الانتظار. أن تكون لديك غرفة معلق على أحد جدرانها صورة أب ميت تؤمن كلما نظرت إليها بأن الماضي ليس قضية منتهية أبدًا وأن الأشياء القديمة التي لا تُحسم، ومع ذلك تكون مجبرًا على تجاوزها، تتحول إلى أشباح تنمو تدريجيًا وهي تلتهمك من الخلف لحظة بعد لحظة. ألا يكون في يدك ما تفعله لهذا الأب وهو في قبره سوى التفكير فيه بعمق وأنت تضحك أمام فؤاد المهندس حينما يغني: (يبقى أتجوز ليه .. وأنا مالي .. ولا أتقيد ليه .. كده مالي). أن تختنق فجأة أثناء الضحك والتفكير وتشعر بدموع تريد الانفلات من عينيك لأنك تعرف كم كان هذا الرجل يحب سيدتي الجميلة. أكثر ما يؤلم في الانتظار أن تناديك العجوز المريضة التي تنام في الحجرة المجاورة بينما تشاهد المسرحية وتطلب منك حينما تذهب لتقف بجوار سريرها ألا تدخن كثيرًا قبل النوم: (كفاية إللي حرقته طول اليوم) ولكنها لن تخبرك أبدًا أن قصة واحدة تتكرر فحسب. تتكرر رغمًا عن أي أحد يريد تغييرها. لن تخبرك بذلك رغم أنها رأتك تنظر في عينيها وتتأمل تجاعيد وجهها وجسدها الراقد تحت الأغطية كجثة تأخر دفنها. رأتك وربما فهمت ما بداخلك لكنها أغمضت عينيها ولم تقل شيئًا. ما فائدة أن تخبرك؟! أليست القصة تتكرر رغمًا عن أي أحد؟! أكثر ما يؤلم في الانتظار أن يوجد في نفس اللحظة شاعر قصيدة نثر ابن مومس يكتب نصًا عن العلاقة الجوهرية التي تجمع بين رجل وامرأة وتليفون وعلبة مناديل كلينكس. أن يكون هذا الشاعر هو نفس البيضة التي تحاول أن تشرح لك العالم وهي تشرب الشاي في ميدان المحطة.

اليوم سألغي نفسي تمامًا وأنا معك. لن أذكر أي سيرة لك عن حياتي. سأجعلك أنت بطل هذه الليلة وسأكون الكومبارس الذي يحتاجه أي بطل كي يدعم بطولته. سأسألك عن أحوالك وأستفسر عن همومك كأنني أريد أن أطمئن حقًا عليك. صدقني. لن تعود في نهاية المساء إلى بيتك إلا وفي روحك يقين راسخ أنك مهم بالفعل بالنسبة لأحد في هذه الدنيا. هذا الأحد هو أنا. الذي ما أكثر المهمين بالنسبة له في مقاهي المنصورة.

اليوم أنا الصادم المُربك الذي ستدرك ضرورة أن تكون حذرًا وأليفًا وأنت جالس معه. لا تحدثني عن الحب والمرأة والزواج والجنس حيث سأخبرك بهدوء أنني على استعداد للزواج من واحدة أخذته مرتين فقط قبل أن تعرفني. لا تبدأ حديثك معي بالسؤال العفوي: تصدق بالله؟ لأنني سأرد عليك بهدوء أيضًا: (لأ). لا تذكر الأدوار الشريفة التي يؤديها أشخاص أو جهات معينة فيما يتعلق بالنضال الوطني لأنني سأعطيك المعلومة التي لن يعطيها لك أحد غيري وهي أن حركة كفاية منقسمة لنصفين يحارب كلا منهما الآخر: نصف (وسخ شغّال مع الأمن) ونصف نظيف يعمل بجدية وإخلاص وأنت تعلم بالطبع أنا أنتمي لأي قسم.

لماذا لا تبدو عليك الصدمة؟! لماذا أنت غير مرتبك الآن وأنا أنظر في عينيك بقوة ومبتسمًا بالطريقة التي تجعل من وجهي أشبه بفوهة بركان أو بمغارة سحرية أو بكهف وحشي غامض يمكنه ابتلاعك في أي لحـ .. لماذا تدير وجهك عني وتبتسم؟! أنت لا تبتسم. أنت على وشك أن تضحك. هل تريد أن تضحك بالفعل؟! أنا متأكد أنك حينما تدير وجهك عني وتبتسم هكذا فإنك لا تنظر لشيء. أنت فقط تفكر في كلامي وابتسامتي وتريد أن تضحك. هل أنا لست عنيفًا ولا خبيثًا بالقدر الكافي؟! هل كل ما يصدر عني حقًا هو النقيض المثالي للعنف والخبث؟! ما الذي يمنعك أن تضحك إذن؟! لماذا تكتم ضحكاتك وتحاول دائمًا تغيير الموضوع لتحرمني من دور البطولة الذي أستحقه؟ لا تقل أنك تحترم مشاعري ولا تريد إيذاءها. أنت خائف. خائف أن تضحك فتعبث بالأسلاك العارية المتوارية بداخلي وتصعق. خائف من أن تفسد برمجة الخزانة التي تحوي حقيقتك عندي فيفتح بابها فجأة وترى نفسك عاريًا. أنت خائف لأنك لا تريد أن تفقدني. لا تريدني أن أنهض في صمت وبمنتهى الهدوء وأتركك ولا أعود إليك أبدًا. أنت تحتاجني. رغم كل شيء أنت تحتاجني. أنت تدرك بداخلك حقًا أنني البطل.

بعد موتي سأعود إليكم. ربما سأزور كل واحد منكم في أحلامه أو أدخل إلى ذهنه فجأة من باب سري بينما يفكر في الحياة والموت. سأخبر الفنان التشكيلي الرائع بأن الكاتب المسرحي المخرّف يقول عنه كلامًا سيئًا جدًا، وسأخبر الكاتب المسرحي الكبير بأن الروائي التافه ينعته بين الناس بأقذر الصفات، وسأخبر الروائي الجميل بأن الفنان التشكيلي الذي يكره نفسه يتحدث عنه بشكل غير لائق. سيواصل البطل دوره حتى بعد الموت ولن يجعل الممثلين الآخرين يفتقدونه أبدًا. الممثلون الذين يحتاجونه دائمًا ولن يكون لخروجهم كل مساء من بيوتهم وسيرهم في الشوارع وجلوسهم في المقاهي مبررًا من دونه. لن يكون للوحاتهم ومسرحياتهم ورواياتهم قيمة من غيره. أيضًا لن أجعل جمهوري الحبيب يفتقدني. سيعرف القهوجي وماسح الأحذية وبائع المناديل أنني موجود كلما نظروا إليكم وأنتم تأتون حاملين جرائدكم ومجلاتكم وكتبكم وتجلسون وتتحدثون في نفس الأشياء التي تعرفون جيدًا أنكم تتحدثون فيها منذ سنوات طويلة، وتضحكون على نفس الأشياء التي تعرفون أنها لم تعد مضحكة منذ سنوات طويلة أيضًا. سيعرف جمهوري أنني موجود كلما نظروا إليكم وأنتم كما أنتم: آلهة فاشلة تستريح قليلاً في المقهى من متاعب الألوهة، وتعجز كل ليلة وهي تراقب العابرين أمامهم عن حل مشكلتها الكونية الكبرى: هل هم آلهة حقًا رغم الفشل في تحرير العالم من الكراهية أم أن الفشل في تحرير العالم من الكراهية دليل على كونهم آلهة؟!

أنا مثّلت كثيرًا. لكنني لم أمثّل أبدًا.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود