محاولة في التنقيب عن جذور العنف

 

محمد علي عبد الجليل

 

انطلاقًا من فكرةِ أنَّ العالَمَ الداخليَّ يساوي العالَمَ الخارجي وفكرةِ "كما في السماء كذلك على الأرض" ومن مبدأ مصونية الطاقة الأخلاقية، نقول بأن العنف الداخلي يجرُّ، كارميًا، العنفَ الخارجي.

وفي قول نبي الإسلام إشارةٌ إلى ذلك: "سألتُ ربي لأمَّتي أنْ لا يهلكَها بسُنَّة عامة، وأنْ لا يسلِّطَ عليهم عدوًا من سوى أنفسهم[1]". فكلُّ ما يسلَّطُ على النفس لا يتأتَّى سوى من النفس، وما يقدَّرُ على شعب ليس إلاَّ "كارما"[2] أعمالِ ذلك الشعب. فلِكَيْ يوقِفَ الكائنُ قضاءً ما، لا بدَّ عليه أنْ يمنعَ أسبابَه. ولهذا، يقول جان-ماري مولِّر في مقالته بشأن الحرب على غزة، ليس العنفُ حتميةً، ولكن...:

لديَّ القناعة العميقة بأنَّ تخلِّيَ الفلسطينيين عن العنف يتيح وحدَه خلْقَ عملية سلام حقيقية. وأنا أدرك أن هذا الخيار اليوم غير مرجَّح. قد يبدو، لأجل مسمَّى، هو الوحيد الممكن. عندئذٍ، قد يفتح هذا الخيار مجالاً لتطبيق طرائق المقاومة اللاعنفية، وهي المصادر الوحيدة للرجاء والإنسانية.

ينبغي، إذَنْ، أنْ يكفَّ الفلسطينيون عن العنف الذي يقدِّم ذريعةً للإسرائيليين لكَيْ يلجأوا بدَورهم إلى العنف. فندخل في حلقة مفرغة. والعزوف عن العنف لا يعني بتاتًا عزوفًا عن المقاومة، كما أكَّد جان-ماري مولِّر في مقالته القتلُ هو المسألة المطروحة.

كان اليهود، عِبْرَ التاريخ، يقابَلون بالكراهية والاضطهاد، أي بما هو انعكاسٌ لنفوسهم. وعندما علَوا في الأرض، أخرجوا ما في نفوسهم من عنف مكبوت فوقع على من بهم مثله. فنار العنف تتَّصل ببعضها. وبهذا المعنى فسَّر الإمامُ النِّـفَّـري آيةَ: "نارُ الله الموقَدة، التي تطَّلِع على الأفئدة[3]" بقوله: "النار من السِّوى فإذا رأت ما منها ارتبطَتْ به".

إنَّ ما يحدث في العالم الخارجي يرينا الموجودَ في داخلنا. وهو ما يتلاقى مع معنى الحديث: "إنما هي أعمالكم تُرَدُّ إليكم[4]". أيْ: من أعمالنا يسلَّط علينا.

لنتفكِّرْ قليلاً في الحديث: "انصرْ أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا.[5]" وقد سأل أحدُهم النبيَّ كيف ينصرُ أخاه ظالمًا. ولكنَّ الشِّقَّ الآخرَ المُهِمَّ من السؤال هو: "كيف ينصره مظلومًا؟" إذا سلَّمنا بأنَّ الإسرائيليين هم الظالمون وبأنَّ الفلسطينيين هم المظلومون، وهذه هي حقيقة، وإذا سلَّمنا أيضًا بأنَّ الإسرائيليين والفلسطينيين هم إخْوةٌ في الإنسانية، وهذه هي حقيقة أخرى ينبغي ألاَّ نتغافل عنها، فإنَّ حلَّ القضية يكمن في الإجابة على السؤال بشقَّيهِ معًا: كيف أنصر الظالمَ وكيف أنصر المظلوم؟

أنصرُ أخي الظالمَ بأنْ أفضحَ ظلمَه على الملأ وأسلبَ منه الأسبابَ التي جعلَتْه يظلم وحتى الحُجَجَ التي يستند إليها لتبرير ظلمِه. أطفئ النارَ بأنْ أمنعَ عنها أيةَ مادة من شأنها أنْ تزيدَ اشتعالها حتى الهواء. ومعروفٌ أنَّ الظالمَ يتغذَّى على "مظلومية" المظلوم وضعفه ويتغذَّى المستبِدُّ بخضوع المستبَدِّ به ويعيش المعتدي على خوف المعتدَى عليه. إنَّ حالة الضحية تغذِّي حالةَ الجلاَّد. ولكي نخرجَ من حالة "ضحية-جلاَّد"، ينبغي أنْ نواجِهَ الحالتين معًا: حالةَ "الاستضحاء" وحالةَ "الاستجلاد".

وأنصرُ أخي المظلومَ لا بالتعاطف مع عنفه ويأسه بل بإظهار نقاط ضعفه ليتفاداها. يؤكد جان-ماري مولِّر في مقالته القتلُ هو المسألة المطروحة: الفلسطينيون والإسرائيليون أمام تحدي العنف بأنَّ

تضامنَنا مع عنف الفلسطينيين [المظلومين حقًا]، بحجة التضامن مع مقاومتهم، ليس تضامنًا مع مقاومتهم بل تواطؤ مع عنفهم على نكبتهم. فالفلسطينيون لا يلجَأون إلى العنف أملاً بالنصر بل بدافع اليأس.

إننا، بتعاطفِنا مع عنف المظلوم، نقوِّي عنفَ المظلوم وعنفَ الظالم.

كذلك فإنَّ لجوءَ الإسرائيليين إلى العنف لقمع عنف الفلسطينيين لا يُعبِّر إلاَّ عن ضعف الإسرائيليين وعن فشلهم في إقامة علاقة مع جيرانهم وعن يأسهم من أملهم بالأرض "الموعودة". إنَّ فشل الإسرائيليين في إقامة علاقات مع جيرانهم العرب هو انعكاسٌ لفشلهم في إقامة علاقات مع أنفسهم وإنَّ رفض العرب للإسرائيليين انعكاس لرفض الإسرائيليين لأنفسهم. فمن رفضَ نفسَه رفضَ واقعَه ورفضَه واقعُه، وهذه قمة الضعف، وهي حالة الإسرائيليين. ينبغي ألاَّ يدخلَ الطرفان في حرب، كما ينبغي عليهما أنْ يَقْبلا واقعَهما؛ فالمنتصرُ والمهزومُ في الحرب خاسران، والرضا والتسليمُ غايةُ العلم والتعليم.

"الظالمُ عدلُ الله في أرضه ينتقم به ثم ينتقم منه[6]." وأكثرُ من يساعد الظالمَ على ظلمه هو المظلوم. إنَّ "استنعاجَ" الغنم يجذِبُ "استذءابَ" الذئب. ولكي يتوقَّفَ الذئبُ عن "الاستذءاب"، لا بدَّ أنْ يتوقَّفَ الغنمُ عن "الاستنعاج". إنَّ "استنعاج" الغنم هو "استذءابٌ" سالب، مثلما أنَّ "استذءابَ" الذئب هو "استنعاجٌ" سالب. وهكذا فإنَّ عنفَ الفلسطينيين يغذِّي عنفَ الإسرائيليين مثلما أنَّ عنفَ الإسرائيليين يغذِّي عنفَ الفلسطينيين. من غير المجدي، إذَنْ، تحميل طرف فقط مسؤوليةَ ما يجري دون الطرف الآخر.

إنَّ الإيديولوجياتِ العنيفةَ، ابتداءً من الحرب المشروعة وانتهاءً بتقديس الأبطال والشهداء، ليست سوى تكريسٍ للعنف الناتج عن الشعور بالنقص أو الاضطهاد أو الضعف أو الذل أو الظلم.

ليس فقط العنيفُ من يساهم في القتل، بل كلُّ من يؤذي عنيف بمقدار ما يؤذي. من يلوِّثُ الطبيعةَ عنيف، ومن يقتل نملةً عنيف، ومن يوبِّخ زوجتَه أو ابنتَه أو ابنَه ليفرض أيديولوجيتَه عنيف. كذلك فإنَّ غيرَ اللطيف عنيف. لو كانت لنا آذان صاغية لسمِعْنا أمَّنا الأرض تصرخ من العنف الذي نُلْحِقُه بها.

عندما يشعر المرءُ بالإهانة قد يكبتُ غضبَه أو يبحث عن متنفَّس أضعف يصبُّ عليه جامَ غضبه. وهكذا فقد فرَّغ اليهودُ شعورَهم بالذل المتراكم عِبْرَ قرون على الفلسطينيين فكانوا الضحيةَ لكونهم الأضعفَ، مع توافرِ عواملَ أخرى. فقضيةُ فلسطين ليست وليدةَ العصر الحديث، بل نتيجة قرون طويلة من الأخطاء، ليس أخطاءَ الفلسطينيين واليهود فحسْبُ، بل أخطاء البشرية جمعاء، وبالتالي لا يتمُّ حلُّها بإلقاء طرفٍ من الأطراف اللومَ أو الحجارةَ أو الصواريخ على طرف آخر.

يرى ديمتري أﭭييرينوس في مداخلته: جذور العنف: مقاربة تحليلية نفسية أنَّ

غياب الاحترام من شأنه، إذا تراكَمَ، أنْ يفضيَ إلى العنف؛

ولكنَّ غيابَ الاحترام للآخر ناتج عن غياب الاحترام للذات. فغيابُ احترام الذات الذي يظهر على شكل غياب احترام الآخر هو أحد أهم العوامل التي تؤدي إلى العنف. وغيابُ احترام الذات مردُّه إلى عدم فهمها أو إلى سوء فهمها وإلى عدم معرفة كيفية التعامل معها. فالعنف لا يزول بكبته إنما بتصعيده أو بتحويله إلى طاقة إيجابية بنَّاءة. إنَّ من يعنُفُ بالآخر إنما يعنف بنفسه من حيث لا يدري؛ وهنا الطامَّةُ الكبرى. يتصرَّف العنيفُ من حيث لا يدري، أيْ أنَّ أساس العنف، بتعبير آخر، هو الجهل، الجهل بقيمة الإنسان، الجهل بقوانين النفس، الجهل بقوانين الكارما. إنَّ تعنيفَنا الآخرَ، الذي هو صورتُنا، يولِّد فيه طاقةً سلبيةً ترتدُّ علينا عاجلاً أم آجلاً. العنف طاقة كامنة في النفس لا يجدي كبتها ولا تفريغها بطريقة تدميرية لا على النفس ولا على الآخر الذي هو صورة من صور النفس، بل ينبغي ضبطها و"تسديدها تسديدًا صائبًا" (التعبير لديمتري أﭭييرينوس) بحيث تصبح طاقة بِناء ووعي. وهذا يتطلَّب نيةً وإرادة. لقد ذكرَ القرآنُ سيرورةَ تصعيد الطاقة العنيفة في ثلاث مراحل في الآية: "والكاظمين الغيظَ والعافين عن الناس واللهُ يحبُّ المحسنين[7]." المرحلة الأولى: ضبط الطاقة (الكاظمين الغيظ)؛ المرحلة الثانية: نسيان الإساءة (العافين عن الناس)؛ المرحلة الثالثة: تحويل الطاقة العنيفة إلى طاقة إيجابية أو إحسان يعود مردودُه على النفس (واللهُ يحب المحسنين). ينبغي، إذًا، تحويلُ الطاقة العنيفة المدمِّرة إلى طاقة بنَّاءة، وليس تحويل النظر عن العنف واتِّباع سياسة النعامة، كما تشير بذكاء النكتةُ التي تُعبِّر عن وضع البشرية العنيف والتي تقول بأنَّ "بوش" صرَّح بأنهم قرروا قتلَ 20 مليون مسْلِم وطبيب أسنان واحد [فقط!]، فكانت أسئلةُ جميع الصحفيين: "لماذا طبيب أسنان واحد؟!"

لننظرْ في أنفسنا وحولَنا ونصعد. لنقرأْ ونرقى.

عندما نرى ما يُنفَق على تجارة السلاح، وعلى تجارة الدواء أيضًا [!!!]، ندرك إلى أي وضع مأساوي وصلَتْ البشريةُ الحالية. "فهل من مُدَّكِر"[8]؟

دمشق، في 11-3-2009

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اللهَ زوى لي ‏الأرضَ فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها [...] وإني سألتُ ربي لأمَّتي أنْ لا يهلكَها بسُنَّة عامة، وأنْ لا يسلِّطَ عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتَهم، وإنَّ ربي قال: "يا محمد، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتُكَ لأمَّتكَ أنْ لا أهلكَهم بسُنَّة عامة، وأنْ لا أسلِّطَ عليهم عدوًا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتَهم [...]." صحيح مسلم، باب هلاك هذه الأمَّة بعضهم ببعض رقم 7440.

[2] كارما أو كَرْمى: مفهوم يعني الفعل الذي يقوم به الكائن الحي (خيرًا أو شرًا) والعواقب الأخلاقية الناتجة عنه. واللفظة مشتقة من الجذر السنسكريتي kri ويعني الفعل. ويقضي هذا القانونُ الأخلاقي العادل القائم بذاته بأنَّ أيَّ فعل أو قول أو فكرة لا بدَّ أن تترتب عنه عواقب ما دام أنه نَتَج عن وعي. فالكارما هي قانون الجزاء، قانون الثواب والعقاب، قانون الفعل وردِّ الفعل. وخير ما يعبِّر عن هذا القانون في القرآن هو آية: "فمن يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ خيرًا يرَهُ، ومن يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ شرًا يرَهُ". (الزلزلة، 7، 8)، وفي الإنجيل: "بالكيل الذي تكيلون يكال لكم". (متَّى، 7، 2)

[3] سورة الهُمَزة، الآيتان 6 و7.

[4] حديث قدسي، عن أبي ذر: "يا عبادي إني حرَّمْتُ الظلمَ على نفسي وجعلْتُه محرَّمًا بينكم [...] إنما هي أعمالكم تُرَدُّ إليكم [...]" صحيح مسْلم، الحديث 6737.

[5] أخرجه البخاري في صحيحه (حديث رقم 2443)، ولفظه في البخاري: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، فقال رجلٌ: "يا رسولَ الله، أنصرُه إذا كان مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالمًا كيف أنصرُه؟!" قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره".

[6] حديث رواه الطبراني في الأوسط عن جابر. وردَ في تذكرة الموضوعات، ج1، ص 1451.

[7] سورة آل عمران، الآية 134.

[8] هل من مُدَّكِر؟ أي: هل من أحد متذكِّر ومتَّعِظ، إشارةً إلى التعبير القرآني: "ولقد أهلكنا أشياعَكم، فهل من مُدَّكِر؟ وكلُّ شيءٍ فعلوه في الزُّبُر. وكلُّ صغير وكبير مُسْتَطَر." سورة القمر، الآيات 51 و52 و53. وفي هذه الآيات إشارة واضحة إلى الكارما، حيث يذَكِّرُ القرآنُ بالعاقبة الكارمية التي أنزلها على الأمم السابقة. فهل من متَّعظ؟ إنَّ كلَّ فعل، صغيرًا كان أم كبيرًا، خيرًا أم شرًا، مكتوبٌ في كتاب الكون.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود