جابر عصفور ونقد ثقافة التخلف

 

إميل أمين[1]

 

لا يعد الدكتور جابر عصفور كاتبًا أو ناقدًا عربيًا كبيرًا فحسب بل يجئ في مقدمة العقول الليبرالية العربية المنطلقة في الآفاق الرحبة بحثًا عن الطريق للنهضة، وتخليصًا من ثقافة التخلف والرجعية، ولهذا نراه يقول في مقدمة كتابه نقد ثقافة التخلف إنه:

منذ سنوات بعيدة وأنا مهموم بقضايا التخلف والتقدم، خصوصًا في المجالات الثقافية التي لا تزال تشغلني أكثر من غيرها، ولذلك كان اهتمامي بثقافة الاستنارة والعقلانية والحرية الفكرية والإبداعية والتسامح لا التعصب. والاحتفاء بالقيمة التي تؤكد آفاق التقدم الواعدة هو الدافع إلى تأليف كتب من مثل هوامش على دفتر التنوير، وأنوار العقل، وآفاق العصر، وأوراق ثقافية، ومواجهة الإرهاب، والاحتفاء بالقيمة.

ويضيف الدكتور جابر عصفور:

كنت أرجو أن استبدل بالجهد الذي بذلته في كتابة هذه الكتب وأمثالها جهدًا خالصًا للنقد الأدبي تأصيلاً وتنظيرًا وممارسة وترجمة، ولكنني، كنت ولا أزال، أشعر بمخاطر الإظلام المعرفي الذي تزايد، وكوارث التخلف الممكنة القائمة على أصول تجذرت في ميراثنا الحضاري ولا تزال تطرح ثمارها المرة في عصرنا الذي اختلطت فيه القيم، وكان يشجعني على المضي في هذا المجال وعلى النقد الأدبي داخلي المؤمن بأن إحدى وظائف الأدب الأساسية هي الانتقال بالإنسان من وهاد الضرورة إلى أفق الحرية المنفتح، وقد زادني تشجيعًا على السير في هذا الاتجاه تحولي من المذهبية النقدية بمعناها الضيق الصارم إلى الأفق المفتوح من مدارات "النقد الثقافي" الذي يعيد الوصل التفاعلي بين عمل الناقد وثقافة مجتمعه التي تتولد منها ومن مواجهتها الأعمال الإبداعية الأصلية والجذرية.

يقع الكتاب في نحو خمسمائة صفحة من القطع الكبير، وينقسم إلى خمسة أجزاء يتناول الأول منها قضايا الأصول التراثية، والثاني تواصل الأصول، فيما الثالث يتحدث عن خطاب العنف، والرابع عن الإسلام دين ودولة، أما القسم الخامس والأخير فمجال مناقشته يتعلق بمخاطر الدولة الدينية. وها هي لمحات من فكر الدكتور جابر عصفور في نقده لثقافة التخلف.

كيف تنشأ ثقافة التخلف؟

يجيب المؤلف في صدر كتابه بالقول تنشأ ثقافة التخلف من تفاعل أوضاع التخلف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمعرفية، ولكنها تتحول من نتيجة لهذه الأوضاع المتربصة إلى سبب لاستمرار الأوضاع نفسها، هدفها الأول في ذلك التبرير لا التنوير، الحفاظ على الوضع القائم لا تغييره، الانتقال بأهداف التبرير من جيل إلى جيل ومن زمن إلى زمن ما ظلت البنية الاقتصادية السياسية الاجتماعية المعرفية التي انتجتها واحدة باقية لا تتغير، كما لو كانت تؤدي دور المولد الذي يعود ليتولد من جديد من نواتج إنتاجه وإعادة إنتاجه المستمرة. ولذلك قلت إن ثقافة التخلف تبقى عبر هذه التحولات مستقلة عن أسباب إنتاجها لكنها تظل فاعلة في خلق عوامل تؤدي إلى إعادة إنتاجها، ما ظلت شروط التولد باقية.

والخاصية الأولى، بحسب الدكتور جابر عصفور، في ثقافة التخلف أنها تنكفئ على ماض متخيل تتهوس به ولا تكف عن استعادته محاكاة وتقليدًا وإتباعًا، وتبالغ في تقديسه بما يجعل منه إطارًا مرجعيًا في كل شيء قائم وكل شيء قادم، فيغدو هذا الماضي معيار القيمة الموجبة لما يمكن أن يحدث في الحاضر والمستقبل، بل إن المستقبل نفسه يغدو صورة لهذا الماضي الذي يستدير إليه الزمن في تعاقبه الذي يعود دائمًا إلى نقطة البدء المتقدمة في الوجود والرتبة، وذلك بأن يجعل كل ابتعاد عن هذه النقطة انحرافًا عنها.

ويؤكد الكاتب على أن ثقافة التخلف تقوم على خاصية جذرية لا تفارقها، فهي ثقافة عينها في قفاها، لا وجود للمستقبل في أي مستوى من مستويات إمكانه أو حضوره في وعيها الجمعي، فالماضي هو نقطة البدء، والمعاد في حركة هذا الوعي؛ والمستقبل يظل غامضًا متجاهلاً لا تفكير فيه إلا بمنطق ما سبق وقياسًا عليه، والتفكير المستقبلي أو التخطيط لاحتمالاته أو الاستعداد لما يمكن أن يعد به أمور لا وجود لها في هذا الوعي المسجون في المدار المغلق للماضي الذي لا يكف هذا الوعي عن إعادة إنتاجه والخوف من الجديد الغريب أو التجريب الذي يناقض المألوف أو العلم الذي ينطلق من الاختلاف لأمور مرفوضة في هذا الوعي الذي يعادي كل مغايرة جذرية ويستأصلها معنويًا أو ماديًا كي تعود الأشياء إلى سابق عهدها.

التهوس بالماضي وثقافة التخلف

ومن بين أهم القضايا التي يتناولها الكتاب تلك التي تدور في فلك بيت الشعر العربي الشهير أنه ليس من خير إلا في كل سلف ولا من شر إلا من كل خلف، بمعنى أن تقصر الرؤية والتوجه على كل ما هو ماض فيما عرف بالنزعة الماضوية.

في هذا السياق يكتب الدكتور جابر عصفور أنه لا تزال هذه النزعة من أهم المكونات التي ينبني عليها الفكر الاتباعي والثقافة الاتباعية، ومن أهم الخصائص التي يتأسس بها خطاب التعصب ويعتمد عليها، وهي جزء لا يتجزأ من خطاب الإرهاب المتوعد في أصوله الفكرية وممارسات خطابه التي تميل إلى العنف والتدمير، خصوصًا بما تنطوي عليه من استئصال المختلف وإقصاء المغاير. وإذا كانت الثقافة العربية السائدة هي ثقافة اتباع وتقليد بالدرجة الأولى في مدى هيمنتها وغلبتها على أشكال الوعي الجمعي، فإن النزعة الماضوية لا تفارق مركزها الدافعي في هذه الثقافة وتتحول إلى عنصر تكويني مهيمن له حضوره الكلي وتأثيره الشمولي الذي يتسرب في كل الأشكال والأنماط الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية.

وبالطبع يتسرب تقديس الماضي إلى التراث الذي يغدو ماضيًا مقدسًا بدوره، وذلك بالمعنى الذي يفرض به التراث حضوره المهيمن في كل المجالات التي لا ترى استمرارًا موجبًا لحضورها إلا ببعثه أو إحيائه، خصوصًا في لحظات ازدهاره التي هي لحظات نادرة في آخر الأمر.

والنتيجة المنطقية لذلك هي النفور من الجديد والتغير، وذلك بكل ما يقترنان به من عمليات تحديث أو تطوير وتغير أو حتى إصلاح. فالأصل هو الوضع الثابت المجمع عليه، خصوصًا في اقترانه بأنساق ثبتت فجمدت وأعراف استقت فثكلت وعادات اتبعت إلى أن تحجرت. وكل تجديد أو تغيير أو تحديث هو تهديد للأنساق القائمة والعادات المتقادمة والأعراف المتحجرة. ولا سبيل لإبقاء هذه الأنساق والعادات والأعراف على ما هي عليه إلا بإقصاء كل ما يخالفها أو يختلف عنها، وباستئصال كل ما يخرج عليها ويهدد حضورها الجامد واستمرارها الساكن. والعنف الذي يقاوم به الجديد هو العنف نفسه الذي تقاوم به أية محاولة للتغيير، وهو عنف يهدف إلى الإبقاء على ما هو قائم واستئصال كل ينطوي على تهديد للقائم الثابت المتكرر الذي لا يمكن رفضه أو وضعه موضع المساءلة أو انتهاكه بالتغيير في مدى تقاليده الراسخة.

التقدم والتقهقر وأصل العداء للآخر

هل تنطوي الثقافة العربية على فكرة العداء للآخر أصلاً؟ يجيب المؤلف لا يزال يؤرقني ما تنطوي عليه ثقافتنا من نزعة عدائية تجاه الآخر بوجه عام، وما يلزم عن ذلك من الاسترابة في المغايرة والمباينة والتنوع والعداء للاختلاف في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والاعتقادية.

ويضيف الدكتور جابر عصفور لقد دمغتني هذه النزعة العدائية للآخر إلى تأمل جذورها التاريخية في تراثنا، ودراسة ما ترتبط به من أوضاع، وما يسهم في زيادة حدتها من دوافع، وما يحيط بها أو يتناسب معها من أوضاع وشروط. وقد انتهيت إلى أن الآخر ليس هو الأجنبي دائمًا إذ يمكن أن يكون المختلف في المجتمع نفسه، سواء من حيث العقيدة أو اللون أو المذهب السياسي أو الطائفة أو حتى النوع. ولذلك يمكن أن نتحدث عن أنواع من الآخر الداخلي الذي يشترك في المواطنة مع غيره، كما يمكن بالقدر نفسه أن نتحدث عن الآخر الخارجي الذي ينتسب إلى دول مختلفة ويختزلها في حضوره الرمزي بوصفه تجسيدًا لعالم مغاير ونماذج ثقافية مباينة. ويتصل بذلك تحديد مواز مؤداه أن الآخر الأجنبي ليس واحدًا وإنما هو متعدد، ولا يمكن إطلاق صفته بإطلاق القول فيه. والأمر هو نفسه في الأنا التي تقابل الآخر، والتي ليست في تضاد مطلق معه في كل الأحوال.

غير أنه إذا كانت علاقة العداء مع الآخر لا تنفصل عن جذور تاريخية في تراثنا البعيد والقريب، فإن هذه الجذور تقترن بتيارات لا تخلو من تأويلات دينية سلبية أكدت حضورها، وأشاعتها أهداف بشرية وثيقة الصلة بالصراعات السياسية والاقتصادية ومن ثم الصراعات الاجتماعية الثقافية، وهي تأويلات لابد من وضعها موضع المساءلة، خصوصًا في تضادها مع المعاني الإنسانية التي إنبنى عليها الإسلام في نصوصه الأصلية الأولى.

هذه المعاني تظهر في آيات وأحاديث ومأثورات من قبيل:

"يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم." الحجرات 13.

"ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى."

"بعثت إلى الأحمر والأسود."

"اطلبوا العلم ولو في الصين."

"الحكمة ضالة المؤمن."

وقد دفعت هذه المعاني أبناء الأمم غير العربية إلى الدخول في الإسلام إيمانًا بدعوته الإنسانية وبحثًا عن مستقبل واعد على أساس من التكافؤ مع العرب. ولكن المسلمين الجدد وجدوا الممارسة الواقعية مغايرة للمبادئ الدينية، خصوصًا في زمن الدولة الأموية، فحدث صدام سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي بين الباحثين عن تطبيق فعلي عادل للمبادئ المعلنة والممارسين للأوضاع الفعلية المحكمة. وتمتلئ كتب التاريخ العربية وغير العربية للدولة الأموية بنماذج من أشكال التمييز العرقي لصالح العرب، وأنواع من القسوة الاستعلائية في معاملة العناصر غير العربية، سواء من الموالي الذين دخلوا الإسلام وأصبح لهم ما للمسلمين من الحقوق وعليهم ما عليهم من الواجبات أو أهل الذمة الذين احتفظوا بدياناتهم الأصلية مقابل شروط معلومة.

عن المرأة العربية وإشكالية التقدم

والشاهد أن المرأة العربية كثيرًا ما أهدر حقها في العالم العربي، وهذه معضلة بعد أن كانت متقدمة كل التقدم.

يقول الناقد الأدبي الكبير د. جابر عصفور إنه رغم كل ما أنجزته هذه المرأة العربية الجديدة، ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، فأنها لا تزال تواجه تحديات عديدة، ولا تزال تعاني من مشكلات كثيرة، فالمسيرة لم تصل بعد إلى نهايتها، والنهاية نفسها مفتوحة بالوعود التي لا حد لإمكاناتها الإيجابية.

وإذا سألنا الدكتور عصفور أن يشخّص أو يصف المشكلات الثقافية للمرأة العربية اليوم فإنه يستلزم البدء بمجموعة من الملاحظات الاستهلالية والتي في إطارها يمكن ربط قضية تقدم المرأة أو تخلفها مع السياقات العامة، فماذا عن ذلك؟

أولاً: لا يمكن فصل ثقافة المرأة عن ثقافة الرجل، ومن ثمَّ ثقافة المجتمع ككل. كما أن مواجهة المشكلات الثقافية للمرأة لا تنفصل عن مواجهة بقية المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فكلها مشكلات تتبادل التأثير في المجتمع. ولا تتناقض هذه الملاحظة مع حقيقة انفراد المرأة العربية بوضع خاص بها ثقافيًا وذلك بسبب غلبة الثقافة الذكورية السائدة التي تنحاز إلى الرجل أكثر من المرأة.

ثانيًا: لا يمكن فصل الأوضاع الثقافية في أي قطر عربي عن بقية الأقطار، فالعلاقة الثقافية بين الأقطار العربية علاقة متبادلة لا يتوقف فيها أي طرف عن التأثير في غيره والتأثر به.

ثالثًا: لم يعد ممكنًا الحديث عن ثقافة عربية للمرأة بمعزل عن ثقافة العالم المعاصر، خصوصًا بعد أن تداعت الحواجز يبن الأقطار وأصبحت العولمة بمعانيها الثقافية والاقتصادية واقعًا قائمًا وتحديًا ملموسًا.

والثابت أن أولى المشكلات التي تربط بين المرأة وثقافة التخلف في العالم العربي هي الميراث الثقافي التقليدي الجامد الذي لا يزال مهيمنًا بنزعاته المتحجرة وهو ميراث لا يزال ينظر إلى المرأة على أنها ناقصة عقل ودين مستندًا في ذلك إلى مرويات نقلية وإلى تأويلات بشرية مغلوطة لنصوص دينية وإلى نظرة متعصبة تبرر كل شيء على أساس من الماضي.

ويضم هذا الميراث ما تواتر من أحكام وتصورات وعادات وممارسات لا تكف عن تحقير النساء وسوء الظن بهن والتقليل من شأنهن. هذا الميراث الثقافي الذي ينزل بالمرأة إلى أسفل الدرجات كي يعلي من شأن الرجل لا تزال آثاره موجودة إلى اليوم وتشد المجتمعات إلى ثقافة التخلف.

ثقافة العنف وخطاب القوة

لم تكن الدول العربية يومًا ما مصدر للعنف أو الإرهاب لكنها، وفي سنوات متأخرة، وجدت نفسها إزاء تلك الإشكالية التي طالت الجميع.

وخطاب العنف الثقافي هو جزء لا يتجزأ من ظاهرة مجتمعية أعم منه، ظاهرة لا ينفصل فيها الخطاب الثقافي عن غيره من خطابات العنف الموجودة في المجتمع وفي المجالات الموازية التي يتبادل معها الآليات والدوافع والملامح، ولذلك ينبغي وضع عنف الخطاب الثقافي في سياقه الأعم الذي يؤكد أن العنف الخطابي بوجه عام غالب على المجتمع ويتجاوز المجال الثقافي إلى غيره من المجالات التي يتأثر بها ويؤثر فيها، وأنه من هذا المنظور ظاهرة عامة متبادلة ما بين مواقع الإرسال والاستقبال التي تضم، إلى جانب الأفراد والمجموعات، الأجهزة القمعية والإيديولوجية للدولة من حيث هي سبب للأزمات الاقتصادية والتسلطية السياسية.

ويؤكد الدكتور جابر عصفور على أن شيوع خطاب العنف الثقافي يرجع إلى أسباب سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية ودينية، ومن الممكن أن نقرن هذه الأسباب، في نتائجها المباشرة وغير المباشرة، بالكبت الطويل الذي انفجر عنيفًا محتدمًا قامعًا ومقموعًا في الاتساع النسبي لهوامش حرية التعبير التي لا تزال محدودة، والعنف الذي لا تفارقه دالة على أشكال القمع السياسي والاجتماعي والثقافي الغالب على الأقطار العربية.

لكن ماذا عن أهم الأسباب السياسية التي تدفع إلى العنف؟ يجيب الدكتور عصفور بقوله إنها تتصل بالآثار الناتجة عن حضور الدولة التسلطية في توزعها الغالب على الأقطار العربية، وهي الدولة التي تحتكر مصادر القوة والسلطة في المجتمع لصالح الطبقة أو النخبة الحاكمة، معتمدة في ذلك على اختراق المجتمع المدني وتحويل مؤسساته المستقلة إلى تنظيمات تابعة تعمل بوصفها امتدادا لأجهزة الدولة، ويقترن ذلك بالهيمنة على النظام الاقتصادي وتحويله إلى خدمة النخبة الحاكمة وذلك على نحو يقرن الاقتصاد بالسياسة أو العكس في المدى الأيديولوجي لهذه الدولة التي تسعى أجهزتها الإيديولوجية إلى تأكيد معنى الإجماع ورمزية القيادة.

ويترتب على ذلك التضحية بمبادئ الحرية في سبيل فرض الوحدة القمعية، وتأسيس التراتب بين القيادات والمؤسسات بوصفه الوجه العامر للنظام البطريركي الذي يفرض طاعة الأعلى على الأدنى في كل الأحوال.

وطبيعي أن تقوم شرعية الحكم في هذه الدولة الاستبدادية على استعمال العنف والإرهاب أكثر من الاعتماد على الشرعية التقليدية، الأمر الذي يؤدي إلى عدم وجود انتخابات لها معنى، وإلغاء الدساتير أو تعطيلها، وتجميد الحقوق المدنية المقترنة بحقوق الإنسان أو تعليقها.

ولا تنفصل الأسباب الاجتماعية عن دوافع العنف من هذا المنظور خصوصًا حين تغلب البنية البطريركية على المجتمع مقترنة بأنواع من أشكال التمييز القسري الذي يمايز بين ما يعده المجتمع أو تعده المجموعة الاجتماعية أعلى أو أدنى وذلك على أساس من تبرير أفضلية الأعلى على الأدنى بموروثات من معتقدات وعادات وتقاليد، موروثات تؤصل التمايز على أساس من اللون أو الجنس أو العمر أو الطاقة أو الثروة.

التخلف وتساؤل عن حرية التعبير

والمقطوع به أن واحدة من أهم القضايا التي يجب الحديث عنها، عندما يكثر الكلام عن التخلف، هي العلاقة بين حرية الرأي وظروف التقدم أو التأخر. ويذكر المؤلف، في مقدمة الحديث، بما قاله الدكتور يوسف إدريس، الكاتب والمبدع المصري الراحل، بأنه:

كل الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتبًا واحدًا لممارسة إبداعه بشكل كامل بعيدًا عن القيود المتعددة التي يفرضها على الكتابة الاستبداد السياسي والتصلب الفكري والجمود الاجتماعي والتعصب الديني.

ويضيف الدكتور عصفور:

قد مضى على كلمات يوسف إدريس ما يقرب من عشرين عامًا لم يتناقص فيها قمع الرقابة الخارجية بأشكالها السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية بل تزايدت المصادرات باسم السياسة مرة والدين مرة أخرى، الأمر الذي اقترن بتصاعد الاستبداد السياسي وتدافع تيارات التعصب الديني التي سرعان ما انقلبت إلى ممارسة للعنف العاري على المفكرين والمبدعين الذين لا يزالون يجدون أنفسهم ما بين مطرقة التطرف الديني وسندان السلطة السياسية.

والمفارقة المحزنة عند الكاتب هي أن الجميع في هذه الأيام يتحدثون عن الإصلاح وضرورة البدء في عملياته الجذرية، والحكومات العربية تتحدث عن الإصلاح السياسي الذي يعني الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي الذي يعني حرية رأس المال والإصلاح الثقافي الذي يعني إطلاق سراح العقل في مدى التفكير والوجدان في مدى الإبداع، ولم تترك المؤسسة الدينية الفرصة فتحدثت هي الأخرى عن تجديد الخطاب الديني وإصلاحه، وجميع الذين يتحدثون عن الإصلاح يعرفون أنه لا إصلاح دون حرية فكرية وإبداعية، وأن بداية تقدم أية أمة مقرونة بأفق الحرية المتسع لمفكريها ومبدعيها وإلغاء القيود التي تعرقل خطواتهم الجسورة بصياغة خرائط عقلية وإبداعية جديدة وواعدة.

ويذكر الكاتب بأن دعاة الحرية من الكتاب والمفكرين العرب الكبار، مثل الدكتور طه حسين، لم يكونوا يجلسون في دعة مؤثرين السلامة منتظرين أن تغير الحكومات من قوانينها المقيدة للحريات، وإنما رجل مثله كان يدرك أن الحرية تنتزع انتزاعًا لأنها ليست هبة من سلطة أو جماعة وإنما هي حق لا يمكن اكتسابه إلا بممارسته وتأكيده بالعمل الجسور والمبادرة الخلاقة والمبادئ الشجاعة.

الدولة الدينية وإشكالية الحكم

وفي نهاية العرض لا يغفل الدكتور جابر عصفور الإشارة إلى إشكالية الدولة الدينية، وهنا يجيب بالقول: إذا نظرنا إلى مخاطر الدولة الدينية من المنظور السياسي وحده لم نجدها قرينة الاستبداد فحسب بل قرينة عدم وجود أسلوب واضح أو محدد لوصول الحاكم إلى الحكم.

ولا يوجد في هذه الدولة مؤسسات متمايزة مستقلة وهو الأمر الذي يفسح المجال واسعًا لاستبداد الحاكم وإلغاء الديمقراطية بلوازمها من دستور وقوانين أو وضعها في مؤخرة الاهتمام بشرط أن تكون على أساس من مرجعية دينية، هي مرجعية فئوية أو طائفية في الأغلب الأعم. ولن يوجد مفهوم للمواطنة بمعناه القائم على المساواة في الحقوق والواجبات فليس هناك سوى المسلم والذمي والمستأمن في هذه الدولة التي يتراتب فيها الفئات تراتبًا قمعيًا قائمًا على التمييز.

وبالطبع لا ننسى أن مبدأ الاسترقاق أو عودة الرقيق يمكن أن يعود إلى هذه الدولة التي تنبني على درجات متباعدة من الحرية المقصورة على السادة، والقيد المحاط بهم وغيرهم من الذين يقعون في مرتبة الموالي أو المؤلفة قلوبهم، وبالطبع فالحكم النهائي لرجل الدين أو من يحل محله في هذه الدولة، سواء كان مجال الحكم أمرًا علميًا خالصًا أو إشكالاً سياسيًا بالغ التعقيد، يتزايد تعقيده في عصر العولمة، فالقسمة الصارمة إلى حلال وحرام، شرعي أو غير شرعي، لا مجال لها في هذا العصر بالغ التعقيد، سريع إيقاع التغير الذي نعيشه.

ويلزم عن كل ما سبق النظرة الضيقة إلى القانون والاختلاف الخطر في أعماله أو تطبيقه أو تنفيذه فيتحول إلى ممارسات متباعدة قابلة للتناقض في أحكامها حسب اختلاف المذاهب الفقهية للقضاة الذين يحكم كل منهم حسب مذهبه وليس حسب قوانين واحدة متحدة تجاور كل المذاهب، في تحقيقها للمصالح المشتركة للمواطنين على اختلاف طوائفهم.

ولعل خلاصة القول في هذا الكتاب القيم هي اعتراف الدكتور عصفور:

لا أزال أؤمن أن الغالب على ترثنا هو قيم التخلف لا التقدم، والدليل على ذلك أن الحضارة العربية الإسلامية لم تزدهر إلا بمدى ما حققت من حرية فكر وابتداع وأنها لم تعرف طريقها إلى الانحدار إلا عندما استبدلت التقليد بالاجتهاد والتعصب بالتسامح والتسلط الظالم بالمساواة في العدل.

ولعل أكبر الإشكاليات التي يشخصها هي أن خطابنا الديني السائد أصبح معاديًا للعلم في زمننا وللانفتاح على الآخر المغاير لنا في الملة؛ ووجد التخلف، متسارع الإيقاع، في الثقافة العربية المعاصرة ما يستند إليه ويدعمه في ثقافة عصور الانحدار والانهيار القديمة التي تغلب فيها النقل على العقل وتزايدت فيها صور التمييز التي لا تزال موجودة إلى اليوم، يرتد فيها الصدر الجديد على العجز القديم أو تستند فيها أشكال ثقافة التخلف المعاصرة على أصولها التي تتبادل وإياها التأثير والتأثر والوضع والمكانة، الأمر الذي لا يبشر بكثير أو قليل من الأمل طالما ظلت ثقافة التخلف هي السائدة.

*** *** ***

ايلاف


 

horizontal rule

[1]  كاتب مصري. بريده الإلكتروني: emileamen@yahoo.com

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود