|
توني موريسون آخر أفراد أباطرة
النوبل المنقرضين
يطيب للروائيات ما لا يطيب للجينات والبيولوجيا. إبّان إدارة الرئيس بيل كلينتون، كان يحلو للكاتبة الأفرو-أميركية الحائزة على جائزة نوبل للآداب، توني موريسون، أن تشيع أن كلينتون فاتحة رؤساء بلادها السود. لم تستطع موريسون أن تعتبر الرجل، السليل الأمثل لمجموعة "واسب" المحافظة، أي أن تراه بعيون الجميع، أبيضًا وانغلوساكسونيًا وبروتستانتيًا. على نقيض ذلك، أمعَنت في قسمات "السَواد" التي له. دلّلت على أصوله المتواضعة وتحدّره من الجنوب الأميركي وإنتمائه إلى بيئة عمّالية وأسرة "أحاديّة الأهل"، وانصرافه إلى غواية أكيدة لآلة الساكسوفون، عصا العبور إلى الانعتاق. يتراءى مؤاتيًا استدعاء تلك النُدرة، بعدما بات لأميركا رئيس أسود، بالمعنى الحَرفي من دون مواربات بيانيّة، وبعدما رجعت العبودية، من طريق موارب هذه المرّة، تؤرق الكاتبة، وتخيط شرنقة تخييلية حول آخر رواياتها التي بعنوان رحمة. في كانون الثاني الماضي، أي عمليًّا قبل نحو عام على الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بعثت موريسون رسالة دعم إلى سناتور ايلينوي آنذاك ورئيس البلاد راهنًا، باراك أوباما، حيث لم تقتصد بكيل المديح له. كتبَت: لقد عرف زمننا الماضي عددًا يسيرًا من القادة المستشرفين، وأنت رجل الزمن الحاضر... حظًا سعيدا لكَ ولنا. هذا التلازم بين الأنتَ والنحن، بين الأسود الفردي والأسود الجمعي، وجد مشروعيّته في اعتماد موريسون، على انفلاش مؤلفاتها المتروّية والورعة، تقطير القلق والنبذ الإجتماعي اللذين زنّرا أبناء جلدها. بيد أن هذا التسليم لم يجعل من موريسون، فاتحة الكاتبات السود اللواتي نلن جائزة نوبل، سوداء مُنّ عليها بنعت الروائية. ظلّت روائية سوداء، بالتقليد والولادة والخيار. من خلف الجدائل المسترسلة والطلّة المهيبة، بقيت تلك السيدة المتشبثة برفض اللازمات المجهّزة مسبقًا. بدءًا من أول رواية، العين الأشد زرقة (1970)، اشتغلت موريسون متكافلة مع مفهوم مواطنها وليم فولكنر الذي يفيد بأن الماضي لم يمضِ. في الوجهة المعاكسة لمنطق الزمن التبسيطي، تهافتت العبودية نحوها مع تقدّم عجلة التاريخ. وكانت رواية المحبوبة الأثيرة أولى نوافذ ثلاثيّة ضمّت الجنة والجاز والتي اختارها قراء صحيفة نيويورك تايمس في 2006، أعظم رواية أميركية في الأعوام الخمسة والعشرين المنصرمة. أما رحمة رواية العودة بعد انكفاء دام خمسة أعوام، فتدور في الزمن السابق تمامًا لحقبة المحبوبة، قبل أن تغدو العمالة المستعبَدة لبنة أساسية في الوفر الإقتصادي الأميركي. كانت لا تزال، آنذاك فكرة فظّة ومقيتة في طور التكوّن، في دهاليز منطق السوق. تعبّر رحمة عن دواخلها في أنماط غير مألوفة في خضم أميركا قارصة حيث يتبيّن الناس خاضعين، تتناتشهم أوزار العرق والدين والطبقة. رحمة، رواية فعل الرأفة أو قد نقول، فعل الوحشيّة الذي يدفع أمًّا إلى انتزاع حياة طفلها، لكي تقيه العبودية، ذاك الموت المتدثر بحلّة حياة. تضرب رواية رحمة جذورها في ماضي "اليانكيين" وتبدو من الخارج كأنها تجيء بدعوة لمعالجة الجروح المنبسطة على صفحاتها، وعلى صفحة روح وطن مرهق. في حين أنها توغل في تبعات حرب أفرزت ناسًا متعبين وتشريعات شذّبت وجه الأمّة. من طريق حظر التجمعات والسفر وحمل السلاح على السود فحسب، ومن خلال منح تصريح للأبيض لإنهاء حياة أي أميركي من أصول أفريقية، ولأي ذريعة تافهة، تم فصل البيض وحمايتهم من الآخرين، جميع الآخرين، وإلى الأبد.
في رحمة، يتّضح أن موريسون ممسوسة بذائقة وليم فولكنر، وبمكره الكتابي الجوّاني وغير الصارخ. على نسق مواطنها، ترمي موريسون شباك السرد قبل أن يحظى القارئ بأي إلماح. تستهلّ رحمة بمحاكاة الأنشودة الابتهالية التي تأتي، من عمق اللامكان، على نحو صوت مغفل الهوية يطمئن القارئ: لا تجزع. لا يمكن لقصتي أن تؤذيكَ على الرغم مما قمتُ به. أعدكَ بأن أستلقي في هدوء في الظلمة، وبأن أنتحب أو أتأمّل استعراض الدم مرة أخرى. لكن لن يسعني أن أمدّد أطرافي مجددًا لكي أنهض، وأكشّر عن أسناني. لا قدرة لهذه الجملة المتنكّرة بهيئة تهويدة أن تريحنا تمامًا. أي دم هذا الذي يسيل ويتمّ الحديث عنه؟ ما هو الفعل الذي اقترفه الصوت، وماذا يجري هناك في ظلمة تكاد لا تنقشع؟ توفّق موريسون في أن تغلّل سردها بالأقفال، تغرق في الإبهام وتترك القارئ فاقدًا وجهته ومتحرّقًا لجواب يتأخر: قد تظنّ، إن أردتَ، ما أُخبركَ به إقرارًا، لكنه إقرار مشبع بمصادر الدهشة، المألوف في الأحلام فقط، كما في تلك اللحظات عندما يمسي وجه الكلب الجانبي، جزءًا من أبخرة الغلاّية. عند هذا الحدّ، يبدو بروز غلاّية ووجه كلب جانبي في وسط المشهديّة، كأنه يجرجرنا، إلى مناخ عبثي. غير أن موريسون تطالعنا، لحظة نوشك على الاستسلام إلى ضياعنا الداخلي، بتفاصيل منظورة: أرى مينها مايي واقفة، يدها في يد إبنها الصغير، وحذائي يحشر جيب مئزرها. أما الإشارات الأخرى، فيتطلّب شرحها وقتًا إضافيًا. تشكّل تلك العلامات التي تستوقف الكاتبة، خريطة طريقنا إلى بحث معمّق في مرامي الرواية. ذلك أننا، عندما نصل إلى إدراك أن كلمة "مينها مايي" تعني "أمّي" في البرتغالية، يسعنا أخيرًا، رسم الإطار الجغرافي. نحن في ولاية فرجينيا عام 1690، والصدى الناطق راوية سوداء في السادسة عشرة بإسم فلورنس، تبنّاها، قبل ثمانية أعوام، ملاّك أبيض كجزء من تسوية لدين استحق له من أحد أسياد الرقّ البرتغاليين. هذا الفعل اللانفعي، ليس سوى المنفذ إلى الرحمة التي يحيل عليها العنوان. تحطّ فلورنس في بيت الملاّك جايكوب فارك وزوجته اللندنية ريبيكا، القادمة إلى العالم الجديد بحثًا عن حياة أفضل في رفقة رجل لم تلتقه يومًا، بيد أنها تذبل تدريجيًا، مع غياب أولادها، الواحد تلو الآخر. في المنزل، تقيم أيضًا لينا، تصغير ميسالينا، المتحدّرة من عائلة من السكان الأصليين أبادها الطاعون وباعها المشيخيون الذين أنقذوها، من جايكوب. إلى جانبهما سورو أي "أسى" بالإنكليزية، الفتاة الهجينة التي منحت هذا الإسم المسمّى، على إثر نجاتها من غرق إحدى السفن وقبل أن "تُمََرّ" إلى السيد والسيدة فارك. عند موت ربّ المنزل، يصير المكان حاوية لرفّ تقليدي من نساء توني موريسون. كل واحدة أسيرة ماضيها المتضعضع المنتظم في مدّ وجزر، في نثار قصص شخصية تنفلش حينًا وتنكمش أحيانًا. هؤلاء سيدات متفلّتات يدرن، فرادى، في حلبة أفكارهن القصيّة عن الأخريات. تسكّن كل امرأة عزلتها الهشّة التي لا يخفّف عبأها، تمامًا، حضور سكالي وويلارد، وهما عاملان متمرّنان، مثليان وأبيضان. في رحمة تمرّ قدرة الرجال على المضيّ في مواجهة العالم من خلال تسميم أقدار نساء سَلَكَ ترحالهن شفرةَ القسوة والانحطاط والخطر. تساند هؤلاء النسوة الواحدة الأخرى، كناطورات الهيكل، في حين تشهد أدوارهن تحوّلاً، في موازاة تطوّر الأمة وجنوحها نحو طبيعة شريرة وسوداوية، على نسق العبودية التي ترتسم خطواتها في عقر الذهنية الأميركية. نحن القراء المتآلفين مع دنيا توني موريسون نتعرّف، من دون جهد، أو كلل، إلى الاستدعاءات الباعثة للقشعريرة التي تتخطى الامتثالي، وعلاقات القوة القائمة بين النساء. هناك عروس تتبادل نظرات الريبة وخادمة زوجها التي استخدمت حديثًا، إلى أن تصير حنانًا أصيلاً ومتبادلاً. وهناك طفل محروم من أمّ يتعلق، على نحو مؤلم، بأم محرومة من طفل. تحدد الأمومة المتحوّلة رواية رحمة التي تبدأ وتنتهي مع ما يشبه الابتزاز العاطفي والشيطاني في آن واحد، الذي يستره العنوان ويفسّر، وإن جزئيًا، الخواتيم. تزاوج موريسون موسيقى حقبة زمنية معينة، على مستوى اللفظ والحكمة التي تجيء على نحو غير مباشر، من دون استلهام السلطة العفوية التي تتمتع بها. في التماع وجمال، تذكّر موريسون بالمرجعيات الأدبية الروسية، من دون ذرة تقليد. تلبَس معرفتها، في تخفّف لا مثيل له، على الرغم من فضح كل صفحة تحكمها بأشياء الزمن الذي ترويه، بأدواته ومصادر ضراوته وضروراته، وتحدياته وألغامه أيضًا. غالبًا ما يبهت أصحاب النوبل المسنّون أدبيًا من دون الاقلاع عن النشر، يغرقون في حاضنة غريبة حيث يعزّز التبجيل المعسول تعاليهم الامبراطوري. وفي حين يستمرّ القراء في الاقبال على إصداراتهم الحديثة، يعوزهم الارتطام برعشة اكتشاف. في أعقاب فوزها بجائزة نوبل للآداب في 1993، تلقّفت موريسون التكريم بطيب خاطر وامتنان. لم تنبذ الجائزة كما فعل سارتر، ولم يهمها المجازفة في أن تصير مؤسسة جماهيرية، كما حذّر فيلسوف الوجودية الفرنسي. ربما لأنها صارت أكثر من ذلك. تلك سيدة في السابعة والسبعين، تأخذنا إلى روايتها واللذة تستحوذ علينا. نقرأ موريسون، ونتيقّن أنها باتت آخر أباطرة النوبل المنقرضين. تلك سلالة أميركية اعتبرتها الأكاديمية الأسوجية، قبل شهور، "كثيرة العزلة" لتستحق منها، إيماءة رضا. *** *** *** [1] بريد إلكتروني: roula.rached@annahar.com.lb |
|
|