التـوكـيد والحـقيـقة

 

بديـع الكسـم

 

صبوة الإنسان إلى الحقيقة

إن الإنسان، في جانب أصيل وعميق من جوانب كيانه الروحي، صبوةٌ إلى الحقيقة وإرادةُ وعي. وقد يقال، فوق ذلك، إنه تطلُّعٌ إلى معرفة كلِّ حقيقة، وتوقٌ إلى معرفة كلِّية شاملة، ورغبةٌ ملحَّة في معرفة كلِّ شيء. والحق أنَّ ذاتًا دفينة في أعماق الإنسان تتصور المثل الأعلى في المعرفة معرفةً تحيط بكلِّ ما هو موجود، معرفةً تهدم المثل الأعلى نفسه بتحقيقه. لذلك لا يمكن أن ترويها أية معرفة مجردة وعامة، ولا ينقع غُلَّتها أيُّ علم بالكلِّيات. فلا يمكن بعد ذلك أن يرضي نزوعَ هذه الذات "التأليفُ الأسمى للفكر الإنساني" الذي يقال إن أينشتاين قد لخَّصه للمفكر الإيطالي جيوڤاني پاپيني في صيغة موجزة تقول "إن شيئًا ما يتحرك".

بل إن الرؤية التي يتجلَّى فيها الموجود المطلق، بكلِّ ما تبعثه في النفس من غبطة وفرح، تظل قاصرةً عن ملء فراغها، عاجزةً عن تلبية حاجتها إلى العينيِّ والمحسوس. ذلك أن الذات لا تصبو إلى معرفة المطلق فحسب، وإنما إلى المعرفة التي يملكها المطلق الحقيقي نفسه – إذا كان موجودًا – عن الوجود والموجودات. لذلك فإن الإنسان لا يغريه أبدًا الإلهُ الذي يجده عند أرسطو، – ذلك الإله الذي يعقل ذاته دون أن "يعقل الأسوأ"، أي دون أن يعرف الشرَّ والخطيئة، – ولا تلك المعرفة التي يجدها عند إله ابن سينا، الذي يكتفي بإدراك الحقائق الكلِّية.

إن الإله الذي يجب أن يُقتدى به على صعيد المعرفة، وبالتالي على صعيد الوجود، هو ذلك الإله الذي يدرك، كما يقول جوليڤيه،

[...] جميع الوقائع الجزئية في جذور جزئيتها، وينفذ إلى أدقِّ مظاهر حياة الكائنات العاقلة، وإلى مكنونات حركات فكرهم الخفية.

إن هذا الإله قادر، كما يقال، على أن يرى "النملة السوداء وهي تدب على صخرة سوداء في ليل بهيم حالك السواد"! فليس لأيِّ فعل حرٍّ يقوم به الإنسان أن يلقي ظلاًّ من الشك على معرفة الإله، رغم هواجس لوكييه، التي عبَّر عنها في ورقة الشرم، لأن هذا الإله يعرف، مسبقًا، ما سوف تقوم به الإرادةُ الإنسانيةُ الحرة، ويملك، فضلاً عن ذلك، الجوابَ عن السؤال الذي كان يلح دائمًا على هيدغِّر: "لماذا كان وجودٌ بدلاً من العدم؟"

قلنا إن ذاتًا خفية في أعماق الإنسان تتوق إلى معرفة كلِّ شيء. ويبدو أن هذا النزوع، الذي يقودها إلى التشبُّه بالعارف العليم، أصيلٌ في بنية الفكر الإنساني. فلو لم يكن الأمرُ كذلك لأصبح من العسير تفسيرُ نشوء فكرة العلم الكلِّي وتكوُّن الصورة المثلى للمعرفة في صميم الفكر الإنساني.

نحن لا نريد أن نتساءل، هنا، إذا كانت هذه الرغبة الملحَّة في معرفة كلِّ شيء قبسًا من "العقل الإلهي" في نفس المخلوق، أو أنها ليست إلا تعبيرًا عن لذة الإدراك التي تتَّسم بالصلف والحسد والإثم. قد تكون هذه الرغبة ربانية–شيطانية لا يحيط بها العقل، أو لا تعدو أن تكون ميلاً بشريًّا خالصًا، مُغرِقًا في بشريَّته؛ ميلاً إلى رفع الرغبة في إشباع الحاجات المشروعة وبواعث الفضول اليومية التافهة إلى درجة الطاقة اللامتناهية.

بيد أن هناك واقعًا ملموسًا، ألا وهو أن الإنسان، الذي يعيش بجسده في الزمان المحدود والمرتبط بالواقع المتناهي، يتكشَّف لنفسه، ويتحقَّق بالفعل، نفيًا متصلاً لهذا الحنين إلى المعرفة الشاملة. وبالنسبة إليه، على كلِّ حال، يمكن بالتأكيد أن نقول كما قال أرسطو: "ألاَّ ترى بعضَ الأمور خيرٌ من أن تراها." إن كرامته الدنيوية لتضطره إلى أن يرفض معرفة سلسلة لا نهاية لها من الحقائق التافهة والمعيبة وأن يلوذ بحماية "الجهل النبيل"، إذا صحَّ التعبير. لقد أراد بعضهم أن يسخر من القديس توما الأكويني – ربما بغير حقٍّ أو بغير فهم – لأنه تساءل عن "عدد الملائكة التي تستطيع أن ترقص معًا على رأس دبوس"! ويضرب كارناپ لنا مثلاً على حقيقة من هذه الحقائق التافهة الجواب على السؤال القائل: "ما متوسط وزن سكان ڤيينَّا الذين تنتهي أرقام هواتفهم بالعدد 3؟" ثم إن حياة أيِّ شخص، مهما كانت حياة عادية وتافهة، لا تنفك تكدِّس الحقائق فوق الحقائق، لا لشيء إلا لأنَّ كلَّ وجدان إنَّما هو معرفة بشيء من الأشياء.

إن انفتاح الإنسان على الحقيقة يعني أنه جهد متصل لكي يحيا في قلب الحقيقة ولكي ينمو في ضوئها. وإن حضور الحقيقة أمام الفكر الإنساني يحتفظ لها بخصائص العلوِّ والموضوعية والإطلاق، فيلقي بذلك على الإنسان، في الوقت نفسه، مسؤوليةَ تأسيس الحقائق الكبرى أو الحقائق–القيم. فالإنسان هو الذي يختار حقائقه إذ يختار ذاته، وهو الذي يجسِّدها بجعلها تتوافق مع مجرى حياته. إن كلَّ حقيقة–قيمة هي "حقيقة–لي": فهي تلتصق بوجودي التصاقًا مادمت صادقًا مع نفسي، ولا تنفصل عن الزمان إلا بفعل الأمانة للفكر. وهذا ما يمكن أن تبيِّنه كل دراسة فينومينولوجية للمعرفة ترمي إلى إدراك ماهية النشاط الفكري.

فلنلقِ نظرة الآن على بعض الخصائص العامة التي يتصف بها فعلُ التوكيد، من حيث إنه يمثل، في مجالات المعرفة كلِّها، قمة النهج المعرفي العليا.

حقيقة التوكيد

كلُّ حُكْمٍ يُقرَّر فهو يُقرَّر على أنه صادق. ولا شكَّ أن العبارة في حدِّ ذاتها لا تتضمن توكيد مضمونها. أما فعل الحكم، الذي يعبِّر عن نفسه بالقضية، فليس فقط "فعل إعراب عن معنى، وإنما فعل اعتقاد أيضًا". وهل يعني حلُّ متناقضة paradoxe إپيمينيدس إلا إثبات أن "الكريتي الكاذب" عاجز منطقيًّا عن التوكيد[1] وأن كلَّ قضية يصوغها قضية فارغة من المعنى؟ ومن هنا، إذا كانت القضية "أنا ميت" متناقضة تناقضًا داخليًّا، كانت القضية "أنا كاذب" من قبيل المحال. فالتوكيد يعني امتلاك المرء حقيقة التوكيد، أو أن الحقيقة في ذاتها قد ملكت عليه نفسَه – والأمران سيَّان. أما مضمون القضية المادي، فلا يغير شيئًا من بنية الحقيقة فيها، لأن هذه متضمنة في التوكيد في حدِّ ذاته...

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] راجع: إبراهيم كرو، "دور المتناقضات في تاريخ العلوم، قديمًا وحديثًا"، معابر، باب إپستمولوجيا، إصدار آب 2006. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود