|
الخطابـاتُ الدِّينيَّـةُ تصـبُّ في مصَـبٍّ واحـد
لقاء مع نصر حامد أبو زيد
هو اسم مرموق في عالم الفكر العربي والإسلامي. يسعى، من خلال مؤلَّفاته وآرائه، إلى تقديم قراءات جديدة للإسلام. لذلك كان أكثر المفكِّرين الذين أثارت مؤلَّفاتُهم جدلاً واسعًا أدى، في نهاية المطاف، إلى اتهامه بالردَّة!
عندما يتوغل في تفاصيل الحديث عن الخطاب الديني الإسلامي المعاصر، يجد أن "الخطابات الدينية كلها تصب في مصبٍّ واحد، ولا تختلف إلا في آلية التعبير وحسب". وهو يرى أن "ما نحتاج إليه ليس الدعم الإيديولوجي، بل النهوض من سباتنا العقائدي"! إنه المفكِّر الكبير نصر حامد أبو زيد. أ.ع. * * *
ما أسباب بروز ظاهرة التعصب الديني في المجتمعات الإسلامية؟ نصر حامد أبو زيد: الأسباب كثيرة، منها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو سياسي ذو بُعد فكري. أما الأسباب الاجتماعية، فيمكن لنا إرجاعُها إلى فشل المشروعات التنموية بعد الانتهاء من مرحلة النضال ضد الاستعمار: فالمواطنون توقَّعوا من أنظمتهم أن تكون قادرةً على تحقيق التنمية بما يرضي حاجاتِ الناس الماديةَ والمعنوية؛ ولكن – للأسف الشديد – لم يتحقق شيء من هذه التوقعات، حيث برز العجز عن تحقيق تنمية الإنسان في العالم العربي والإسلامي! أما الأسباب السياسية، فمردُّها إلى غياب الحريات في ظلِّ أنظمة رجعية ودكتاتورية وجدتْ مشروعيةً لها من خلال الدين؛ الأمر الذي أدى إلى وجود معارضة تعتمد على المشروعية نفسها، أي على الدين؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور وبروز الجماعات الإسلامية السياسية – هذا إلى جانب الأزمة الفكرية المتعلقة بالحكام والمجتمع ككل وبالجماعات الإسلامية: وهذه تتلخص في أن الدين أصبح مجالاً للتلاعب بالتفسير والتأويل. وفي هذا الإسناد الحذر من التفسير، تمَّ الاعتماد على التراث – أي على الفكر القديم – الذي أصبح المرجعية الفكرية المطلقة؛ ولأن كلا الطرفين غير ديموقراطي، تمَّ الاعتماد على التيار التقليدي في التراث، وبذلك أصبحت الجماعات الإسلامية معادية للتجديد. وإذن، فنحن في أزمة تجديد الفكر الديني. وواقع الخطاب الديني المعاصر، كيف تجده؟ ن.ح.أ.: هناك عدة خطابات دينية: فهناك الخطاب الديني التابع للمؤسسات الرسمية، وهو يعبِّر عن رأي الدولة أو يعبِّر عن الآراء التي توافق عليها الدولة، وهو ما يُسمَّى بالخطاب الديني الرسمي؛ وهناك الخطاب الذي يتسم بصبغته السياسية أحيانًا، وهو ما يُسمَّى بالخطاب الديني المُعارض؛ وهناك الخطاب الديني الصادر عن بعض الجماعات المهمَّشة؛ وهكذا. إذا أردنا أن ندخل في تفاصيل المنطلقات الفكرية لهذه الخطابات، ماذا يمكن لك أن تضيف؟ ن.ح.أ.: عند تحليل هذه الخطابات، نجد أن المنطلقات الفكرية التي تنطلق منها هي أن الحقيقة الإلهية متجسدة في النصوص، وأن فهمنا لها هو فهم بشري. أما المنطلق الثاني، فإنه يتجسد في فكرة مُفادها أن الحقائق كلَّها، في الماضي والحاضر والمستقبل، موجودة في هذه النصوص؛ وهذا بالتأكيد يغلق العقل ويَحجُر على التفكير الإنساني. أما المنطلق الثالث، فيكمن في البُعد التاريخي: فمفهوم التاريخ فيها غامض، بدليل أنها جميعًا تسعى في إقامة مجتمع مماثل للمجتمع الماضي؛ وبالتالي، فإن مفهومها للنص يُسقِط البُعد التاريخي ويقوم على قاعدة "الاجتهاد فيما فيه نص". وهذه الخطابات كلها، برأيي، تصب في مصبٍّ واحد، لأن المنطلقات الفكرية واحدة، والخلاف في آلية التعبير فقط. حاولتَ في كتابك نقد الخطاب الديني مناقشة الدلالتين اللغوية والاصطلاحية لمفهوم "التأويل" الذي يناقشه علماء اللغة بمقارنته بدلالة مصطلح "التفسير". فماذا عنهما؟ ن.ح.أ.: يناقش علماء القرآن الدلالة الاصطلاحية لمفهوم "التأويل" عادةً بمقارنته بدلالة مصطلح آخر هو "التفسير"، ويحددون العلاقة بينهما بأنها علاقة العام بالخاص: إذ يتعلق التفسير عندهم بالرواية، بينما يتعلق التأويل بالدراية؛ وفي عبارة أخرى، يتعلق التفسير بـ"النقل"، في حين يتعلق التأويل بـ"العقل". والنقل يعني مجموعة العلوم الفردية اللازمة للنفاذ إلى عالم النص وفضِّ مغاليقه، وصولاً إلى تأويله؛ وهو يتضمن، إلى جانب العلوم اللغوية، "علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب مكِّيِّها ومدنيِّها، ومُحكَمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصِّها وعامِّها، ومطلقها ومقيَّدها، ومجملها ومفصَّلها"، إلخ. إن هذه العلوم جميعًا تُعَد بمثابة مداخل لا غنى عنها لمَن يتصدى لتأويل النص، من دونها ينفسح المجال، بلا حدود أو ضوابط، أمام الفرد أو الجماعة لإسقاط إيديولوجيتها على النص، أي للوثب من "التأويل" إلى "التلوين". وهذا ما يطلق عليه القدماءُ اسمَ "التأويل المستكرَه" أو "التأويل المذموم"، ويقصدون به التأويل الشيعي بصفة خاصة. وقد أفسح علماءُ القرآن صدورَهم لتأويلات بعض الصوفية على أساس أنها "إشارات" و"مواجيد" لا تتعارض مع الدلالات الأصلية ولا تنفيها. ولا شكَّ أن من وراء رفض التأويلات الشيعية وقبول تأويلات بعض الصوفية دون بعضهم الآخر موقفًا إيديولوجيًّا ممالئًا للسلطة. ولكن هل التأويل مفهوم قاصر على التعامل مع النصوص اللغوية وحدها؟ ن.ح.أ.: بالتأكيد لا، بل يتسع مفهوم التأويل من سياق استخدامه في القرآن، وفي اللغة عامة، ليشمل الأحداث والوقائع والظواهر كافة؛ بمعنى أنه مفهوم للتعامل مع النصوص بالمعنى السميوطيقي semiotic الشامل. ولا بدَّ أن تتغير، بناءً على ذلك، مجموعة علوم التفسير لتُلائم طبيعة النص موضوع التأويل: فلكلِّ مجال معرفيٍّ أدواتُه ووسائلُه التفسيرية الخاصة hermeneutics التي لا ينهض التأويل إلا عليها؛ ولكن ليس معنى ذلك أن النشاط التأويلي مجرد نتيجة ميكانيكية للعلم. إن التفسير يرتبط بالرواية والنقل، فيما يظل مجال التأويل مرتبطًا بفاعلية العقل والاستنباط. مازال الخطاب الديني هو الأكثر تأثيرًا على الجماهير من الخطاب العلمي في مجتمعاتنا العربية. فما هي الأسباب من وراء ذلك؟ ن.ح.أ.: لا أعتقد أن السبب يكمن في قوة هذا الخطاب وقبول الجماهير له، إنما السبب الأساسي يعود إلى أن الجماهير مازالت لا تتمتع بحريتها في الاختيار؛ وبالتالي، يسود خطابٌ بعينه لأنه مرتبط، إلى حدٍّ كبير، بما يناسب السلطة السياسية في هذا الوقت أو ذاك. إذًا المشكلة في الأنظمة السياسية أساسًا؟ ن.ح.أ.: لا، المشكلة ليست في الأنظمة السياسية، وإنما تكمن في ممثلي الخطابات المتنوعة. وهنا أتذكر قولاً لأحد الفلاسفة النازيين يوضح المشكلة الأساسية، حيث يقول: "لم أكن أهتم للأمر عندما كان يُعتقَل الشيوعيون لأنني لست شيوعيًّا، ولم أهتم لذلك عندما بدأوا يعتقلون اليهود لأنني لست يهوديًّا، كذلك الأمر عندما اعتقلوا العمال... لذلك لم يكن هناك أحدٌ يدافع عني عندما اعتقلوني!" إذًا ما أريد قوله إنه من الطبيعي أن نختلف. ولكن، برأيي، عندما يتعلق الأمر بالحرية، عندئذٍ يجب أن يُدافَع عن حرية الجميع!
نصر حامد أبو زيد محاضِرًا في برلين. وهل مسألة التكفير المنتشرة حاليًّا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أحد صور هذا الخلل؟ ن.ح.أ.: بالضبط. فمسألة الحرية يجب أن تكون مزروعة فينا جميعًا، ويجب أن ندافع عنها كلنا. إلامَ يحتاج عالمنا الإسلامي في يومنا هذا؟ ن.ح.أ.: لا يغريني كثيرًا أن يهب لنجدتنا "الإيديولوجية" مثقفون غربيون، خصوصًا إذا كانوا يستخدمون اللغة الطوباوية نفسها التي يستخدمها المثقفون العرب! كذلك لا يغريني أن يعتنق مفكر غربي الإسلام: فذلك لا يقدِّم ولا يؤخر في إيجاد حلول أو مخارج للمشكلات والمآزق التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية؛ بل إن مثل هذه الظاهرة، التي يمثل روجيه غارودي نموذجًا لها – قصدت دخول عدد من المثقفين الغربيين الدين الإسلامي –، قد تعزِّز "النرجسية الثقافية" بصورة تعوقنا عما ينبغي القيام له من قراءة العالم وتشخيص الواقع، أي تسليط الضوء على المشكلات الحقيقية أو تعرية ما تنطوي عليه مشاريعُنا وخطاباتُنا. وهكذا، فإن ما نحتاج إليه ليس الدعم الإيديولوجي، بل النهوض من سباتنا العقائدي، بنقد نماذجنا في الرؤية والتقييم أو في العمل والتدبير. فالأهم عندي، مثلاً، هو وقف العنف في الجزائر أو منع تلك المحاكمات التي تقضي بفصل كاتب عن زوجته لأنه يمارس التفكير النقدي! والأَولى أن نقبل بعضنا بعضًا، بدلاً من ممارسة الاستبعاد المتبادل والاختلاف الوحشي. من هنا لا يعنيني كثيرًا نشاط غارودي "الإسلامي" بقدر ما يعنيني إنقاذ الناس من جحيم الحروب! ما تعريفك للإسلام السياسي؟ ن.ح.أ.: "الإسلام السياسي" نوع من المعارضة السياسية التي تعتمد على مرجعية الدين. والتفسير السياسي للإسلام تفسير خطير لأنه يقوم على استغلال الدين وتوظيفه في غير مجاله الروحي والأخلاقي.
نصر حامد أبو زيد مكرَّمًا في برلين. والتحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية، كيف تراها؟ ن.ح.أ.: هناك تحديات كثيرة تواجه هذه المجتمعات، لعل أبرزها الاستخدام النفعي للإسلام بهدف تحقيق مصالح معيَّنة لفئة ما، ليتحول الدينُ بذلك إلى أداة بغية تحقيق مآرب معينة. ما هو المطلوب لمستقبل أفضل للحضارة العربية الإسلامية؟ ن.ح.أ.: لا بدَّ من بناء مجتمع يقوم على التعددية والديموقراطية، بمعنى حق المعرفة وحق الاختلاف. وهذا لن يتم إلا بالإصلاح الاقتصادي – ولا إصلاح من دون ديموقراطية! مستقبل هذه الحضارة مرهون بشعوب هذه المنطقة وبالإنسان كفاعل اجتماعي. في كتابك نقد الخطاب الديني تحدثت عن آراء وأفكار تيار أو مشروع "اليسار الإسلامي". فماذا عن حيثيات هذا المشروع الذي طرحه حسن حنفي في بداية الثمانينيات؟ ن.ح.أ.: طُرِحَ مصطلحُ "اليسار الإسلامي" لأول مرة في بداية الثمانينيات في مصر؛ طرحه حسن حنفي، أهم ممثِّليه لا في مصر وحدها، بل في العالم الإسلامي عمومًا وفي العالم العربي على وجه الخصوص، وذلك في العدد الأول والوحيد من المجلة التي صدرت إحياءً لتقاليد العروة الوثقى التي كان يصدرها الأفغاني ومحمد عبده. وليس معنى ذلك أن "اليسار الإسلامي" لم يظهر بوصفه اتجاهًا فكريًّا متميزًا إلا في أوائل الثمانينيات، بل إن مغزى صدور هذا الإصدار الجديد لمجلة العروة الوثقى حاملةً شعار "اليسار الإسلامي" يتمثل في إحساس هذا التيار بالمخاطر التي تُحْدِق به من ناحيتين متشابكتين: تتمثل الأولى في المخاطر التي كان يتعرض لها اليسارُ بصفة عامة، بكلِّ اتجاهاته، نتيجة الانقلاب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري الذي بدأت بوادره في انقلاب مايو 1971 والذي لم يثمر ثماره المُرَّة إلا مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، حين أسلم النظامُ قيادَه كاملاً لأعداء الأمة: الاستعمار العالمي والصهيونية الدولية. ولأن اليسار الإسلامي ابن شرعي لحركة المدِّ القومي ذات الأفق التقدمي من الوجهة الاجتماعية، – وهي الحركة التي وجدت تعبيرها السياسي في نظام يوليو، خاصة في مرحلة الستينيات، – فقد كان من الطبيعي أن يصيبها كلُّ ما يصيب اليسار من حصر وتضييق ومصادرة من نظام السبعينيات. هل من جذور أو إرهاصات لهذه الحركة قبل فترة الثمانينيات؟ ن.ح.أ.: نعم، ترتد حركة اليسار الإسلامي إلى ما وراء ذلك "الإعلان" الذي صدر في أوائل الثمانينيات؛ بل نجد بعض إرهاصاتها في كتابات سيد قطب في أوائل الخمسينيات، كما نجده في اشتراكية الإسلام لمصطفى السباعي، أحد أقطاب "الإخوان" في سورية. ولا شكَّ أن هذه الإرهاصات تمثل امتدادًا طبيعيًّا للتأويل العقلاني للإسلام الذي طرحه كلٌّ من الأفغاني ومحمد عبده استجابةً للتحدي الحضاري الذي طرحه "الآخر الغربي"، من جهة، واستنادًا إلى التراث العقلاني للمعتزلة وابن رشد، من جهة أخرى. إن "الإعلان" الذي واكب بداية الثمانينيات لم يكن إعلان ميلاد لاتجاه "اليسار الإسلامي" بقدر ما كان إعلان "تأكيد وجود"، من جهة، وإعلان "تحديد هوية"، من جهة أخرى. لقد كان ذلك "الإعلان"، في عبارة أخرى، بمثابة إعادة ترتيب للأوراق وتنظيم للأولويات في مواجهة المخاطر التي يتعرض لها على المستويين السياسي والإيديولوجي. ولقد أعلن "اليسار الإسلامي" أنه [...] ليس حزبًا سياسيًّا، ولا يمثل معارضة حزبية، ولا يتوجَّه ضد أحد، لأنه يرى السياسة في ثقافة الأمة ونهضتها. فالمعارك أساسًا في الثقافة وداخل وعيها [أي الأمة] الحضاري. ولا يهدف اليسار الإسلامي إلى استنفار أحد أو الاستعداء على أحد، بل يرمي إلى يقظة الأمة، واستئناف نهضتها الحديثة، وطرح البدائل أمام الناس، والاحتكام إلى جماهير الأمة، وتجاوُز الحلول الجزئية والنظرات الفردية إلى تصور كلِّي وشامل لوضع الأمة في التاريخ. (عن افتتاحية اليسار الإسلامي، العدد الأول، 1981) ولكن هذه القناعة بالنضال على المستوى الثقافي الفكري تعود لتتحول، في نهاية الثمانينيات، إلى إصرار على ربط النضال الفكري بالنضال السياسي. في كتابك دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة، طرحتَ اجتهادات للنقاش في قضية المرأة من زوايا متعددة. فماذا تناولتَ فيه؟ ن.ح.أ.: فيه تأكيد على أن الخطاب المنتَج حول المرأة عربيًّا، في مجمله، هو خطاب طائفي وعنصري يتحدث عن "مطلق أنثى" ويضعها في علاقة مقارَنة مع "مطلق رجل". كما ناقشت قضية المرأة من منطلق أنها قضية اجتماعية، وما إدخالها في دائرة القضية الدينية إلا تزييف لها، فربطت في أحد الفصول (بعنوان "الواقع الاجتماعي بُعد مفقود في الخطاب الديني") التحولَ الذي أصاب الخطاب العربي برمَّته، فأحاله من خطاب نهضة إلى خطاب أزمة، بمدى تأثير ذلك على وضع المرأة العربية عامة. احتقار المرأة صورة لاحتقار الإنسان؛ ولا يُحتقَر الإنسانُ إلا في مجتمع تحكمه قبضةٌ يدَّعي صاحبُها حقوقًا ميتافيزيقية. كما تناولت في هذا الكتاب إنجازات المفكرين المتحمِّسين لقضايا المرأة، كمحمد عبده وقاسم أمين وضاهر حداد. غير أن الكتاب مشروع قيد الاستكمال. فقضايا المرأة أوسع من أن يخصَّص لها كتابٌ واحد! *** *** ***
التقتْ به: أمينة عباس
|
|
|