|
رؤى الكـينـونـة
نحتاج إلى القليل من الطعام والقهوة وإلى الكثير من الحبِّ والحرية وجنوح الخيال[1]. والخيال – كالمثل الأعلى – أمر فائض، بطبيعته، عن قدرات الجسد وحدوده. أما أنتَ فقد أبكيتَ الحب، وأدميتَ الحرية، وكسرتَ أجنحة الخيال، فضاقتْ بك مساحاتُ الجسد وعوالمه. اختزلتَ الوجود إلى موقف صحراوي، وتشبَّثتَ بواقع بارد لا تلقائية للحياة فيه، فانسحب الجمالُ وتسرَّب من بين أصابعك، حتى كادت شموع النبل والشهامة من ملامح وجهك الجميل أن تنطفئ. * * * بتُّ أتساءل عندما أمشي في الغابة: هل أنا مَن ينظر إلى الأشجار والطيور والسماء والغيوم، أم أنها هي مَن ينظر إلي؟! أم ترانا نتبادل العين والمكان دون أن ندري؟! ومَن هو هذا الحارس الذي يقف صامتًا وراء كلماتنا وأفعالنا؟ كيف امتلك هذه التعبيرية الفائقة كلَّها وهو صامت؟! * * * أيُعقَل أن نَفَسَ الوجود أصبح زفيرًا لا شهيق فيه لأن الله تخلَّى عن "رابعته" العاشقة المتعبِّدة؟! فأين أنا؟ وأين أنت؟ وأين رقصنا في هذا الغموض؟ * * * أتعلم أن الرقص، كالصلاة، لا يحتاج إلى حذاء[2]، بل إلى إله نتأمَّله؟ وأنه يعرِّي الكينونة من أخطائها وهفواتها؟ وأن أجمل لباس ترتديه الكينونة هو العري؟ – العري من اللغة، من الخطاب ومحظوراته، من الثقافة والآخر، العري من العالم. * * * تصوَّرْ... كم هو بهي ومقدس الرقص في زوايا المكتبات، وشم عبق الأوراق المتراصة وراء بعضها بعضًا، وكأنها أجساد تحتفل دومًا دون خجل وأمام مرأى الجميع! لا بل إن مهمَّتَها هي أن تحتفل، وحالما تنهي طقوسَها المقدسة فإنها تموت وتُحرَق لئلا تتعفَّن. * * * الصفحة اليمنى في كلِّ كتاب هي الجانب الأنثوي من الورقة، والصفحة اليسرى هي الجانب الذكوري. وفعل الكتابة يبدأ من الصفحة اليسرى، وكلَّما قلبت الأوراق ازدادت كثافةُ الجهة الأنثوية، لينتهي فعلُ الكتابة عليها. كل ورقة هي عالم متكامل في ذاته، هي الغياب الحاضر دومًا لتاريخ سطَّرَه رجلٌ وامرأة – فما بالك بقصص الكتب والمكتبات! أليس هذا هو المعيار الصحيح لتصنيف الكتب الجيدة والرديئة؟ وأنت لا يليق بك أن تدوِّن ورقة من نوع رديء، ولا أن ترتدي لباسًا كلباس الأمراء والسلاطين المخادع، بل يليق أن تقرأ كتبًا عنونتْ حضارةً مزدهيةً وقدَّستْ آلهةً لا مكان في سمائها سوى للجنَّة! * * * تأمَّلْ نور الشمس وصوت فيروز السماوي. فإن كلَّ إبداع يغيِّر ويبدِّل ويوضِّح ويعمِّق ويؤيِّد ويُعلي ويفيد ويعيد خلق أو يخلق، مقدِّمًا الأعمال الأخرى كلَّها. وبالنظرة ينتقل الوجود من العين إلى العقل، وتُعرَف أعمالُ الطبيعة الخلابة، وتتتالى أشكالُ التنوع اللامتناهي لإبداع الذات لذاتها. * * * على الرغم من أشكال العجز والمنع والبتر كلِّها، يستمر الأنا في امتداده نحو العالم، محافظًا على كيانه من الهدر، محفزًا الأنت ألا يكون مألوفًا. * * * هكذا يقول الحب: كُنْ كما أنت، أيها الحبيب، لكن حذارِ من السقوط في الزيف والسراب! إنني أحببت التميز في أناك الأخلاقي. فلا تكن مكرِّرًا لغيرك، بل اخلقْ بدائلك الجديدة حيث يوجد الأمل والخيال والشعور بأن الآتي هو الأفضل وأن هناك مَن ينتظر سعادةَ عينيك الدافئتين. * * * بالحبِّ انبثقت الذات الإلهية من وحدتها المطلقة، وظهرت لامحدوديتُها للأنبياء والصوفية. فالمحب لم يطلب من الجمال أن يراه، بل هو رآه وبحث عنه واختبأ في شرايينه. * * * بفعل الحبِّ ورؤية الجمال معًا يستطيع جسدُ العاشق فعلَ ما لا تستطيعه أجسادٌ أخرى، في صحوه ونومه، في عمله وراحته، في حبِّه وكراهيته، في تعبُّده وتمرده، وفي نشوته وسباته[3]. إنه قادر على التفكير في الحياة – في هوامشها كما في متْنِها – ليفسح في المجال للرفض والمغايرة، وليُظهِرَ للملأ كلَّ ما هو مسكوت عنه، فينجلي قناعُ الثقافة الزائف، وتعود اللغةُ إلى أصولها البريئة قبل تحميلها بأعباء القيم الأخلاقية والاجتماعية. * * * فلنخط أوراقنا كما نرغب، ولنرسم لوحاتنا بريش العري وألوان الحقيقة، ولنتأملْ جمال الوردة وهي تتورَّد وتتفتح. فهي تعرف أنها جليلة بإيماءات تورُّدها، وأنها تمتِّع العين والقلب والوجدان وتُبهِجُ العقل وتثير مكنونات النفس الجميلة، لتحرِّك القلم على الورقة وتراقصهما، وتبدع وتبدع وتبدع... حتى درجات الخلق الإلهي! * * * يا مَن تُراقِصُ خيالي! لقد راقص الله بين كلماته وأوراقه، وأمرنا أن نراقص بين كلماتنا وأوراقنا، لا لكي نقلِّده، بل لكي نتجاوزه، فنخلق آلهةً تنحني لنا عندما نبدع، وتغضب منَّا حالما نوقف موسيقانا. * * * الأنا الإلهي لم يشعر بإتمام عمله وبحلول موعد راحته إلا حينما خلق المرأة. لقد فكَّر وتأمل، فتفجَّر أعظم إبداعاته بإدراكه أن لديه فيضًا من الجمال لا يليق إلا بها وحدها. وهو إن أمر بـ"حَجْبِها" فلأنه خشي عليها من عيون الرجال. غير أن دهاءها فاق دهاءه، ومارست عليه لعبة الإغواء والإغراء، في حجابها كما في عريها، فاستسلم وآمن بعبادتها، وقال مندهشًا: "عجبت مما فعلت يداي! أنا الخالق المخلوق، وأنتِ العابد المعبود! أنتِ البهاء كله والعشق كله، وأنا المتيَّم بمقدساتكِ، فلا تبخلي بها علي! عهدي لكِ أن أمارس طقوسكِ كلَّ صباح وكلَّ مساء. ولن أنام، يا حبيبتي، قبل أن أرضي شفتيك وأفكَّ رموزك وأسرارك." * * * جسدانا، يا حبيبي، أوجدانا على نحو ما يرغبان، ووحَّدانا في نسيج هو الأصل في كلِّ وجود. وإن افترقنا فلكي نعود في توق كتوق الرضيع إلى ثدي أمِّه، في شوق كشوق النجوم إلى ملامسة حواف الكون. فإن ألوان قوس قزح لا تتشكل إلا بعد أن تُفرِغَ السماءُ كلَّ مكنوناتها في جوف الأرض لتفيض على وجهها. * * * مسرح الباليه عالم مختلف وحرٌّ وانسيابي يضعنا في مواجهة مباشرة مع الـ"نحن". هذه هي بداهة كينونتنا الإنسانية: أن نومئ ونعبِّر ونحزن ونفرح ونفترق ونلتقي ونصرخ! * * * ما تعلَّمتُه من كينونة الجسد هو أن قيمة اللوحة الفنية تكمن في تعبيرها عن أربعة أنواع من الفنون: فن الرؤية، الصمت، الكلام، ومن ثم فن الكتابة الخلاقة! * * * يقول شاعر أول الجسد آخر البحر:
جسدانا
كتابة * * * يا صديقي، إن ما يدفعنا إلى القيام بأشياء الحبِّ غير المفهومة هو لجوؤنا إلى ما خُبِّئ في ذاتنا عندما بدأنا نتعرَّف إليها. * * * من عادة رمال الشاطئ الرقيقة أن تستوعب غضب أمواج البحر وتُلاطِفَها. لذا لا بدَّ ذات يوم للأمواج من الوصول إلى شطآنها آمنة. * * * مادام في إمكاننا أن نحلِّق في حرية – كالطيور – بين اليابسة وسمائها، فلن نسمح بزيادة فراغات عالم الأوزون الهارب من الأرض إلى العدم والهاوية! بل لا بدَّ أن تتلاشى المسافاتُ بين ساحاتنا الوجودية ويمتلئ الكونُ بكياننا. *** *** *** [1] راجع: كريم أبو حلاوة، "كي لا يصبح العيش بديلاًعن الحياة!"، شرفات، وزارة الثقافة، دمشق. [2] راجع: أحلام مستغانمي، عابر سرير، منشورات أحلام مستغانمي، بيروت، ط 3: 2003. [3] راجع: جيل دولوز، الصورة والزمن، بترجمة حسن عودة، وزارة الثقافة، دمشق، 1999. [4] أدونيس، أول الجسد آخر البحر، دار الساقي، بيروت، ط 2: 2005.
|
|
|