|
ضـدَّ إفسـاد الشِّـعر
1 هذا "المد العولمي" يريد تحويل الشِّعر إلى "خطاب تكميلي تابع للإعلام والاستهلاك" المبتذل، أي تحويله إلى لعبة تدر الأرباح على أصحابها فقط من خلال هذا النوع من الدعايات الرخيصة والمكشوفة. بهذا الشكل، يكون الشِّعر قد فقد استقلاليته وحريته، وسلَّم رأسه لِمَن لا يعرف قيمته، وقَبَرَ صوته الآخر الذي هو جوهره في الأصل. لهذا نلحظ، مثلاً، أن الشِّعر، في المنطقة العربية بالأخص، قد استشرت فيه حمَّى الجوائز والمسابقات وتوزيع الألقاب المضحكة؛ كما تمَّت، بسبب هذه الموجة، استثارةُ أوهام وتورُّمات لا أول لها ولا آخِر. لقد أصبح الشِّعر في الخطاب الإعلامي شعر بروزة وبراويز، وليس شعر تجارب صميمية ونصوص كبرى؛ شعر متاحف وتماثيل شمعيَّة، وليس شعر تجريب وتجديد وتوليد حركات شعرية جديدة مثلاً؛ شعر عداوات غبارية وتكفيريات وعصبيات وآفاق مسدودة في الغالب؛ شعرًا يمجَّد فيه الشاعرُ على حساب الشِّعر، حتى ولو كان شعره لا يساوي ثمن الورقة التي كُتِبَ عليها؛ شعر "نجوم" وعكاظيات وصخب وجماهير، يصنعُهُ المال وتنفخ فيه الپروپاغندا من روحها العمياء؛ شعرًا ينفي الشِّعر، يخنقه، يخفي صوته الحقيقي، ويعادي جوهره العميق. 2 خطَّ الشاعر الإماراتي عبد العزيز الجاسم "بيانه" الشعري الموسوم بـ"ضد إفساد الشعر" بمناسبة "اليوم العالمي للشعر"، ذاهبًا إلى فضح المسكوت عنه في حركة الشعر العربي، مؤديًا دوره الكشفي في إضاءة إحالات مهمة لتوصيف مدى الشعر وتحديد اتصاله الحقيقي بمصدره العارف وإيقاعه الجلي، – كونه نغم الكون وتجلِّيات الصمت، انطلاقًا من كون الشاعر هو الموهوب الأول لتنقية المفردات من شوائب العالم وإسراجها بنور كريستال الروح، في شبه ومضات شعرية تتَّقد لتُكاشِفَ ما يحدث له وللكون معًا. ثمة انزياحات تعبيرية شديدة الأهمية يتلوها "البيان" عند درجة تصويبها وإدانتها ونقدها الجارح لما يحدث. ليس سرًّا تفشِّي كل هذه المواكب المُسرَجة بهوادج المديح والكرنڤالات النقدية والنفاق العلني المستشري من حولنا. فهي ليست ظواهر جديدة تعم العالم؛ إذ هي مشيدة منذ الأزل، واكبت الحركة الشعرية ضمن صيرورة لا مفرَّ منها، تتمثل في التنوع في الإسهامات الإبداعية وتفرُّد الندرة وعادية الكثرة. لكن الجدة التي حدثت في راهننا تمثلت في تماهي التجارب الشعرية الموكولة إليها قيم التفرد واليُنوع بتلك الظاهرات الكرنڤالية، بل خضوعها لاشتراطات البهرجة الإعلامية والتلميع الانطباعي وانصياعها لمشاريع موضوعة أساسًا لإفساد الشعر. الجديد في الأمر: حدوثُ "الجمهور" الذي صار يصغي لما يسمَّى شعرًا ويصفِّق؛ انصياعُ المنصات والشعراء لصدأ الجوائز؛ التهافتُ على الانتشار في فضاء النت بنشر ما لا يُنشَر؛ الهرولة نحو المهرجانات وطباعة الكتيبات والهرج بلا تكليف ولا تشريف من أحد! 3 صراع الشِّعر مع الشاعر، إذن، يستمد قوَّته من هذه الأرض – أرض الأصوات والأصول الضائعة للأشياء في الكون. ففي هذه الأرض، وعليها، وعبرها، تولد لغةُ الشاعر، أي اللغة الثانية للعالم على لسانه، وليس لغة ما هو عامي ويومي ومبتذل. وإذن فالشاعر، بهذا المعنى، يعمل ضد نسيان أصول الأشياء وأصواتها الغائبة، حيث يعيد إليها الحياة والنضارة، يبعثها من موتها ونسيانها من جديد. لذا فهو، بالتحامه بالعالم ونبشه في تلك الأصول القزحية، يعيد إلى الحياة لغتَها ونورَها وبراءتَها وتألقَها وحبَّها وطفولتَها المنسية. إنه يصنع ديمومة الحياة والعالم ويقف، من خلال إيمانه بالقوى الروحية للشِّعر، ضدَّ قوى الفناء والزوال والرعب والآلية والابتذال، و"ضدَّ الصدأ الذي يهدِّد تصورنا للحب والحقد، للتمرد والمصالحة، للإيمان والسلبية" – لأن الشاعر، بحسب تعريف غاستون باشلار، هو [...] دليل طبيعي للميتافيزيائي الذي يرغب في فهم قوى الاتصالات اللَّحظية كلِّها، وحماسة التضحية، من غير أن يترك لازدواجية الذات والموضوع الفلسفية الفظة أن تقسمه، ومن غير أن يترك لثنائية الأنانية والواجب أن توقفه. هكذا تبزغ الحقيقة الشعرية وحدها في النص، في حرية وكرامة وجرأة، كالحياة تمامًا، نصًّا شعريًّا لا يبتغي إلا الهواء مريدًا له. لا تتحقق التجربة الشعرية المتفردة حول شاعر يلهث نحو المنصات والنياشين، بل تتآكل في سكونها بعيدًا عن روح تتهالك على الزيف وقشوره، فلا ترفع الكلمات حبرها عتيًّا على الورق، ولا نصغي لإيقاع الجسد، بل نراه يتلفَّت حول الموائد ونحوها. ولا مكان لنبض الكون بين جموع لا تجيد سوى الضجيج! نور الشعر! – حتمًا هذا ما تتقصَّاه الروح –؛ وميض الشعر وحده، بلا قوافل ولا منشدين. المكاشفة التي أعلنها عبد العزيز الجاسم لا تعني بلدًا ما، بل تختص بحقيقة الخراب التي تتعرض له الثقافة والإبداع في زمن عربي يحيا بامتياز محو كلِّ رصين وعميق، كالشعر في ليله الطويل... *** *** ***
|
|
|