كَسْــرُ الأحْــوال
علي جازو
إلى النِّفَّري ونيتْشِه
مقدمة
هذا الكتابُ مخصَّصٌ للنُّزُهات. وهو يصاحبُ الشِّعْرَ، وهو يصاحبُ النَّثْرَ.
* * *
قال
إنها مظلمةٌ، وإن الظلامَ بردٌ، وإن البردَ يخنقُ.
قال إنه خائفٌ، وإن الخوفَ يخفقُ تحت جلده، وإن جلدَهُ عبْدُ زهرةٍ صامتٌ.
قال إنه الصمتُ، وإن الصمتَ رعشةٌ أبديةٌ، نورٌ حَبَسَ لسانَهُ في مآلِ عينه، وإن
عينه تجمَّدت مثل ماءٍ.
وقال: لا أحدَ يرى الماء!
* * *
قال
إنها المحنةُ، وإن فكرتَهُ عن الحياة أفسدَتْ حياتَهُ، وإن الفسادَ شيءٌ كالعادة،
وإن العادة شرهةٌ صافيةٌ عمياء.
قال إنه يسقط، وإن للسقوط أوانًا كالنضوج، وإن النُّضجَ إغواءٌ سليمٌ، وإن الغوايةَ
مُقلِقةٌ حسَنَةٌ.
قال إن القلق سندُ قلبه، وإن قلبه العاثرَ ثوبُ حُسْنِ يديه، وإن يديه لم تفعلا ما
تحبَّان، وإن الحبَّ فردوسٌ متخيَّلٌ، وإن الفردوس خيالٌ حميمٌ كالعمل الممتع.
وقال: لا أحد يرى العمل الممتع!
* * *
قال
إنه يحدِّق عبر النافذة، وإن عشبًا كثيرًا نما حول الشجرة العتيقة.
قال إن جارته الشابة تقف في الظل، وإن وجهها في الظل مثل نسمة.
وقال إنها نقيَّة مثل حبَّة رمَّان، وإنها جميلة مثل برتقالة.
قال إنه يحدِّق، وإنه لمح يدين ناعمتين، وإن النعومة أخْفَتِ الحواسَ خلفها، وإنَّ
الحواس كلَّها تحدِّق، وإن النافذة تُغلَقُ الآن.
وقال: لا أحد يرى النافذة المغلقة!
* * *
قال
إن شبحًا يحدِّث قلبه، وإن قلبه مسرعٌ.
وقال إن الشبح طفلٌ، وإن قلبه ندُّ الطفل.
وقال إنه نسَّاءٌ كبير، وإن النسيان مخجلٌ.
وقال إن الحياء يؤلِّف الأشباح، وإن الألفة قاسية كالوحشة، وإن القسوة كسرت العزلة.
وقال إنه لن يترك البيت، وإن البيت يبني قبره.
وقال: لا أحد يرى القبر!
* * *
قال
إن الوقت ضيقٌ، وإن الضِّيق يدمع في عينيه.
وقال إنه البحر، وإن عينيه تفتَّحتا داخل البحر.
وقال إنه رأى سمكةً صفراء، وإن شعاعها آذى عينيه.
وقال إن الوقت حجرٌ، وإن الحجر قلادة الأرض، وإن الأرض تتنفَّس، وإن الغيوم ضِمادٌ،
وإن الغيوم أنفاسٌ، وإن الغيوم حبَّات القلادة.
وقال: لا أحد يرى الأنفاس!
* * *
قال
إنه مذنبٌ، وإن الذنْب ملعبُ العِقاب.
قال إنه يلعب، وإن اللعب صفة الملاك الوحيدة.
وقال إنه وحيدٌ، وإن الوحدة شمسٌ عذبةٌ ضاريةٌ.
وقال إنه ثمرةٌ، وإن الثمرة بذرة في عقله، وإن العقل زخرفٌ طائشٌ، وإن الطيش قويٌّ
عامرٌ.
وقال: لا أحد يرى الطيش!
* * *
قال
إنه أصيل، وإن الأصل بداية الرعب.
وقال إن فكرةَ الأصل فكرةُ القتل.
قال إنه قاتلٌ، وإن القاتل منتحرٌ.
وقال إن الانتحار سيدٌ، وإن السيادة عبودية.
وقال: لا أحد يرى العبودية!
* * *
وأقول
إنِّي عادلٌ، وإن الأرض تفترس وجهي، وإني أخاف أن يفقد عقلي عطفه، وإن العقل ثقة
القيد الرنَّانة، وإن القيد مصير كلِّ فم.
وأقول إنِّي مجنون فمي، وإن الألم حريتي السرِّية، وإن السرَّ تحت كلِّ لسان شحاذٍ.
وأقول: لا أحد يرى الشحاذ، لا أحد يرى اللسان!
* * *
قال
إن حدقتيه اتسعتا، وإنه كان يضحك، وإن الضحك عين القوة، وإن القوة هي البلاهة
العملاقة.
وقال إن الصمت صعبٌ جليلٌ، وإن الصعوبة ردٌّ قاتمٌ، وإن الردَّ إصغاءٌ هزيلٌ.
وأقول إن الصمت لذَّة لا تُحتمَلُ، وإن العين واسعة مصغيةٌ.
وقال: لا أحد يرى العين!
* * *
قال
إنه حقلٌ، وإنه عقلٌ، وإن العقلَ حقلُ مرآة تحترقُ، وإن رؤية السماء تحوِّل الجسد
طيفًا بلا وزن، وإن الفراشة رزانة كلِّ عقل.
وقال إنه طيفٌ تحت سيفٍ، وإن السيف نخاعُ ملاك مُهان، وإن الطيف لا يُرى، وإن
الرؤيا محلُّ خلاف وموطئ عشق، وإن الخلاف مسار طفل أعمى، وإن الطفولة حقل بلا
صاحبٍ، وإن الشمس وداع كلِّ طفل راقص.
وقال: لا أحد طفل الشمس الهارب، طفل الشمس الراقص!
* * *
قال
إن القبر امتحان البحر، وإنه ثراء العقل المخمور، وإن العقل امتحان السرِّ الظاهر،
وإنه بهاء القلب المخمور.
وقال إن القلب لا يعرف العقل، ولا يعرف القبر.
وقال إن القبر نواة القمر، وإن النواة بذرة الشجرة.
وقال إن الشجرة لا تعرف القبر، ولا العقل، ولا القلب.
وقال: لا أحد يرى الشجرة، لا أحد يرى البحر!
* * *
قال
إنه جدْيٌ، وإنه ثدْيٌ، وإنه ردم الجدي، وردم الثدي.
وقال إنه أفقٌ لكلِّ مساء.
قال إن المساء نادرٌ، وإن الصباح نادرٌ.
وقال إن الحليب طعم الفناء الخلاَّب، وإن الفناء قفزات جدْيٍ، وإنه رأى «جدْيًا على
ثدْيٍ».
وقال: لا أحد يرى الثدي، لا أحد يرى الجدي!
* * *
قال
إنه الشيطانُ، وإنه الخداعُ الآسنُ المُدامُ.
قال إنه الحقيقة، وإنه الكذب المطعون بحقيقة هي الكذبُ.
قال إنها الطبيعة، وإن الطبيعة أنهت عملها.
وقال: لا أحد يرى الطبيعة!
* * *
قال
إن له شمسًا مثل قلب، وقلبًا مثل ظلٍّ، وظلاًّ مثل غيمة غطَّت الشمس والقلب
والظلَّ.
وقال: لا أحد يرى ظلَّ الظلِّ، لا أحد يرى الغيمةَ.
* * *
قال
إنه مبتهجٌ لأن له اسمًا، وإنه اسمٌ لأنه ميْتٌ، وإنه ميتٌ لأنه حيٌّ.
قال إن الصوت عجيبٌ، وإنه شرٌّ، وإن الصمت عجيبٌ، وإنه شرٌّ، وإن الكلمة بنتُ
الصمت، وإنها خيرٌ.
وقال: لا أحد يرى الكلمة!
* * *
قال
إن السَّماء زرقةٌ مُهانةٌ، وإن الإهانة هي الكذب.
قال إن الكذب لا يعرف الإهانة، ولا يعرف السَّماء، ولا يعرف النوم.
قال إن السَّماء امرأةٌ، وإنها عقل جميلٌ، وإن العقل خاسرٌ.
وقال: لا أحد يرى الجمال الخاسر، لا أحد يرى «الجمال النائم»!
* * *
قال
إن له يدًا، وإن يده شريفةٌ، وإن الشرف ضعفٌ في العقل.
قال إن له عينًا، وإن عينه سليمةٌ، وإن السلامة ضعفٌ في الروح.
وقال: لا أحد يرى الروح، لا أحد يرى العقل!
* * *
قال
إنه يعيش في عامودا، وإنها مدينةٌ بكلِّ شيء.
قال إنها تؤكد الفردوس.
وقال: لا أحد يرى الفردوس!
* * *
قال
إنه قلبٌ، وإن قلبه بستان نظرته، وإنه طريق ترابية فارغةٌ، وإنه عشبٌ قضمتْه خرافٌ
على حواف الطريق.
قال إنه الشمس، وإن الشمس مذاق عقله، وإنه طيفٌ، وإنه سيفٌ بقلب كلِّ ضيف وعقل كلِّ
غريبٍ.
وقال: لا أحد يرى الضيف، لا أحد يرى الغريب!
* * *
قال
إنه لعبةُ حياته، وإنه فكرةٌ فحسبُ.
قال إن الفكرة حلمٌ، وإنه يحلم مثلما يفكِّر.
قال إن البريء يحلمُ، وإن الشجاع يحلمُ، وإن الجبان يحلمُ، وإن الصامت يحلمُ
بالشجاع الحالم والبريء الحالم والجبان الحالم.
قال إن الزمن ريشةٌ، وإنه يثق بريشةٍ.
قال إنها ترتعش، وإنه يسكن ما يرتعشُ.
وقال: لا أحد يرى الريشة، لا أحد يرى الرعشة!
* * *
قال
إنه الدنيا، وإنه علوٌّ ضَجِرٌ.
قال إن الضجر هو الغد السابق الآتي، وإن الفتنة هي اللحظةُ، وإن اللحظة لا تنفد.
قال إنه محتارٌ، وإن الخير كلَّه الحيرةُ كلُّها.
وقال: لا أحد يرى الدنيا، لا أحد يرى الحيرة!
* * *
قال
إنه مرتابٌ، وإن الريبة لغز محبوب، وإنها علامة حبٍّ.
قال إن العاشق لا يضجر، وإن القلب يضجرُ.
وقال إنه ماءٌ، وإن القمر يمحو الماء، وإن الماء يمنح الأرض.
وقال: لا أحد يرى القمر، لا أحد يرى الأرض، لا أحد يرى الماء!
* * *
قال
إنه مسالمٌ كأرنب، وخفيفٌ كأرنب، وخائفٌ كأرنب، وحكيمٌ كأرنب.
قال إن الأرنب قلبه، وإن الأرنب ملكٌ.
وقال: لا أحد يرى الأرنب، لا أحد يرى الملك!
* * *
قال
إن لسانَهُ عشبُ كلِّ أرض، وإن «كلَّ قبرٍ قبرُهُ».
قال إن لسانه لا يسع عقله، وإن عقله لا يسع قلبه، وإن قلبه لا يسع لسانه، وإن قلبه
يسع عشبَ الأرض.
وقال: لا أحد يَرَى ما يُرى!
* * *
قال
إنه وحيدٌ، وإنه بلا عمل.
قال إن الوحدة جوهر الأشياء، وإن الفراغ أصل العالم.
قال: لا يعمل مَن لا يفرغ.
قال إن التعب كلمة الطين الماكرة.
وقال: لا أحد يرى التعب الفارغ، لا أحد يرى الطين الفارغ!
* * *
قال
إنه ينام في سريرٍ هو شجرة.
قال إنه يتغطَّى بلحاف كَمَنْ يعانق حَمَلاً وليدًا.
قال إنه ينظر عبر نافذة ليست سوى حديد تحت الأرض.
قال إنه الهواء عينه، وإن الهواء قلبه، وإن الهواء عقله.
وقال: لا أحد يرى الهواء، لا أحد يرى الحديد!
* * *
قال
إن العشبَ يتزاحمُ ولا يؤذي، وإنه العشب الذي لا يؤذي.
قال إنه حصانٌ في حلم فتاة عمياء، وإنه تلك الفتاة العمياء.
قال إن العشب عين الفتاة العمياء.
وقال: لا أحد يرى العشبَ!
* * *
قال
إن العالم هدب قلبه، وإن قلبه الكونُ كلُّه.
قال إن «الكون إصبعٌ والزمن حصان».
وقال: لا أحد يرى الهدب، لا أحد يرى الحصان!
* * *
قال
إن العدم مزاجٌ سيءٌ، وإن الوجود مزاجٌ سيءٌ.
قال إن الخير مزاجٌ سيءٌ، وإن الشرَّ مزاجٌ سيءٌ.
وقال: لا أحد يرى «ما وراء الخير والشر»!
* * *
قال
إن النجمة هي الرحمةُ، وإن النجمة هي التأملُ، وإن النجمة هي الانتظارُ، وإن النجمة
هي الإرجاءُ، وإن النجمة هي الفرقُ، وإن النجمة هي الرؤيةُ، وإن النجمة هي حلمُ ما
يظهر قرب ما لا يظهر.
وقال: لا أحد يرى الفرق!
* * *
قال
إنه الظاهرُ العابرُ، وإنه الباهرُ السافرُ، وإنه الخاسرُ الآسرُ، وإنه الفاجرُ
الهاذي.
قال إنه اليأسُ المهيمنُ، وإنه العذوبةُ المسنَّةُ.
قال إن العذوبة هي الأثر الواهي الذي تتركه فراشةٌ على كأس زهرة.
وقال: لا أحد يرى الأثر!
* * *
قال
إنه الوقتُ، وإنه السمكةُ، وإنه البحر والترابُ.
قال: البحر لا يكفي الوقت، والتراب لا يكفي الوقت، والسمكة لا تكفي الوقت.
وقال: لا أحد يرى الجوع!
* * *
قال
إن عليه إغلاقَ عينه، وإنه عينٌ ترى قلبَه وترى عقلَه.
قال إن قلبه لا يكفي عينه، وإن عقله لا يكفي عينه.
وقال: لا أحد يرى نظرة عين واحدة!
* * *
قال
إن الفراغ أمر ثمين، وإن الفراغ بهجةٌ، وإن الفراغ عمل.
وقال: لا يعملُ مَن لا يبهجُ!
* * *
قال إنه «الجمال الذي يخفي الرجال».
قال إنه السَّماء التي تخيف النساء.
قال إنه الحياء الذي يُسري الجمال في الرجال، وينقذ النساء من السماء.
وقال: لا أحد يرى الرجال، لا أحد يرى النساء!
* * *
قال
إنه خبزٌ، وإن يدًا تحوِّل النار إلى خبز.
وقال إن في الخبز قلبَ كلِّ شيء، وإن في النار قلبَ كلِّ شيء.
قال إنه بخارٌ، وإن علوًّا واحدًا ليس دربًا، وإن البخار لا يحتاج إلى درب.
وقال: لا أحد يرى التحول!
* * *
قال
إنه ضعيف، وإن قيامَ شجرة في الأرض سعادةُ الأرض.
قال إن يده تشبه قيام شجرة.
وقال إن الدليل ظلامٌ.
قال إن الظلام بداية التفتح.
وقال إنه زهرة لا تتفتَّح لأنها عينٌ لا ترى، وإن الصمت زهرةٌ، وإن القوة صمتٌ.
وقال: لا أحد يرى الزهرة، لا أحد يرى الصمت!
* * *
قال
إن السماء تضرب الأرض بيد الوقت، وإن الوقت زجاج العين، وإن الزجاج يرقُّ مثل قلب،
وإن القلب وجودٌ حزينٌ.
قال إن السَّماء معنى كلِّ الأوقات.
وقال: لا أحد يرى السماء، لا أحد يرى كلَّ الأوقات!
عامودا، 2006-2007
*** *** ***