"الكلمات
كمثل الحجارة، يمكن لنا أن نبني بها..."
الشاعر اليوناني صاحب "البساطة الخادعة"
يانيس ريتسوس
كان يانيس ريتسوس، الشاعر اليوناني الأبرز في زمانه، مؤمنًا بقدرة
الشعر على تغيير العالم. وعندما كان يقال له: "ولكن ألا تعتقد أن الشعر بات فنًّا
رجعيًّا، وقد تجاوَزَه التطورُ التكنولوجي في هذا العصر؟"، كان يجيب:
إن الناس قد يتوقفون عن كتابة الشعر يوم يصبحون خالدين!
وعليه، فإن الشعر عند ريتسوس ليس هربًا من مجابهة العالم، بل بالعكس،
هو صراع من أجل اكتشاف المعنى الأخير للعالم، هو مقاومة للزمن، والتلف،
والموت:
الموت جمعٌ، وليس طرحًا. فلا شيء يضيع.
الضيق واليأس يساعدان حتى على البحث العميق عن عالم عجيب، أُعيد
تشكيلُه، هادئ، ودائم. وإذ ذاك،
فإن مذاق النهاية العميق يسبق القصيدة. إنه البداية.
وها هو ذا يقول:
كل كلمة هي منفذ
إلى لقاء يخفق غالبًا.
وفي هذا التشبث باللقاء، تكون كلمة أصيلة.
و...
إذا لم يكن الشعر هو الحل، فعبثًا ننتظر النعمة من أيِّ شيء.
كذا هو إيمان هذا الشاعر. وأظنُّه واحد من أربعة أو خمسة من الشعراء
العالميين الذين استطاعوا، بنجاح مدهش، أن يتغنوا بـ"قضيتهم" من دون أن تطغى على
فنِّهم: عرفوا، بما أوتوا من موهبة نادرة، أن يوازنوا بين الهمَّين الاجتماعي
والفردي.
يانيس ريتسوس
(1909-1991)
وقد كان ريتسوس بارعًا في ديباجته الفريدة التي استطاعت، بعيدًا عن
كلِّ لعب تركيبي (أو ما يسمَّى بـ"هدم اللغة") وهلوسات، أن تجعل من البساطة شعرًا
عظيمًا. وقد وُفِّق النقدُ العالمي في نعتها بـ"البساطة الخادعة". فأنت، حين تقرأ
مثل هذا الشعر، على بساطته المحمَّلة عبقَ الشعر كلِّه، لا بدَّ لك من التساؤل بينك
وبين نفسك: ألا يُظهِر لك مثل هذا الشعر، بمثل هذه البساطة الرؤيوية، أن أبواب
الخلق لا حصر لها، وأن لا قاعدة للخلق، وأن كلَّ قاعدة هي ظرفية ووقتية – وعبثًا ما
يقوم به المنظِّرون والمُقَونِنون لأصول الفن، وعبثًا وضع
الشروط التي من دون التقيد بها الفشل الذريع. أليست وحدها الحرية والموهبة والمهارة
الخلاَّقة وراء كلِّ عمل ناجح، لا "حظائر" النظريات؟!
أمْيَز الخصائص التي يتمتع بها شعرُ يانيس ريتسوس تقويمُه للأشياء،
حتى التافه منها، والاعتراف بأهمية عالمها الصامت الذي في إمكانه أن يكلِّمنا إنْ
أردنا سماع صوته. هنا الأشياء تنظر، تشعر، تعمل، وقد تأنْسَنَتْ. وإلى جانب
الاهتمام بالنشاط اليومي المعيش، كظاهرة للاستمرارية، أصبحت طقسًا يتجدَّد كلَّ
صباح. ها لويس أراغون يعترف قائلاً:
تُرى، من أين ينبع هذا الشعر؟ من أين هذا الإحساس بالقشعريرة لدى
سماعه؟
أو كما في قوله:
أقسم أنَّني لم أكن أعرفه. لم أكن أعرف أولاً أنه أعظم شاعر في عصرنا.
لقد عرفت ذلك على مراحل. من قصيدة إلى أخرى. أو بالأحرى من سرٍّ إلى آخر. وفي كلِّ
مرة، كان يزلزل كياني ذلك الكشف: الكشف عن الإنسان، وعن الوطن، وعن عمق هذا الإنسان
وهذا الوطن.
هـ.ف.ص.
* * *
رصـانـة
الكلمات كمثل الحجارة، يمكن لنا أن نبني بها
منازل هادئة، بمفروشات بيضاء، وأسرَّة بيضاء،
ويكفي أن يوجد شخصٌ ما، يومًا ما، ليسكنها، أو على الأقل
ليأتي وينظر من خلف سياج الحديقة، ساعة
يتوهَّج زجاجُ النوافذ بلون الدم،
وتُقرَع خلف التلال أجراسُ المساء. وبعد ذلك بقليل
يرتخي حبلُ الجرس ساقطًا وحده على الجدار.
الحـاجـة إلى التعـبيـر
"مع الزمن والتعب تموت الكلمات أيضًا" – يقول –
لم يبقَ له شيء للتعبير عن أيِّ شيء. أصابعه
تُصبح رقيقة. خاتمه يسقط. يربطه بطرف خيط.
يرميه في البئر، يسحبه. لا شيء. البئر
فارغة من الماء وليس للخيط أي معنى. ومع ذلك، كان ارتطام
الخاتم بالحجارة كأنه يقيس شيئًا ما،
شيئًا ما يجب قياسُه بأيِّ ثمن للوصول،
مع مجيء المساء، إلى العدد المفرد نفسه المدوَّن خلف الباب.
اندهـاش
تُركَتْ قطعةُ خبز على الحجر.
توقَّف عصفورٌ عندها. نَقَرَها. عادت العجوز:
"لم أتركها لك"، قالت له. وأخذت قطعة الخبز،
وراحت ترميها له كسرةً بعد كسرة.
حدَّق العصفور في عينيها، ولم يأكل.
عـزلـة
تسلَّق الجبل، ثم انتصب ونظر حوله، وصرخ. تدحرجت في الأسفل الحجارةُ على الحجارة.
عـودة
رحلت التماثيل أولاً. ثم جاء
دور الأشجار، والناس، والحيوانات. خلا
المكان تمامًا. لم يبقَ غير عويل الريح،
وتطايرت الصحف والأشواك في الشوارع،
وظلَّت الأضواء وحدها تشعُّ في المساء.
وعاد يومًا شخص. أنعم النظر حوله،
ثم أخرج مفتاحه. غرسه في التراب،
كأنه يسلِّمه إلى يد تحت الأرض،
أو كأنه يغرس شجرة. ثم انتصب، وصعد
الدرج الرخامي ونظر إلى المدينة طويلاً،
وأخذت التماثيل تعود في حذر، الواحد تلو الآخر.
أخطـار
سُمِّر الموتى على الجدران، إلى جانب الإعلانات العامة
للقروض الوطنية، الموتى واقفون على الأرصفة،
على المنصَّات الرسمية، بأعلامهم، وخوذاتهم،
وأقنعتهم الكرتونية. الموتى
ليس لهم بعدُ مكانٌ للاختباء. ليسوا أسياد
عظامهم الجافة (موتى يصلحون للتبادل، صناديق
تشيلها الرافعات، كراتين صفراء مشبوكة بالدبابيس).
الموتى يتعرضون لأسوأ المَخاطر،
وذا المتبصِّر، البهلوان الذي يمشي حاملاً مظلَّته،
في الأعلى، على أسلاك كهربائية،
فوق المضيق، معصوب العينين بمنديل،
في
أثناء سقوط قطرات المطر الأولى.
ثم تجلجل الصاعقة،
ويدعو النافخون في الأبواق النساءَ إلى عصر الإعلام،
لكن هؤلاء كنَّ محتجَزات في الأقبية، وقد أكلن مفاتيحهن.
من دون...
القمر يلفُّ النبع، الحديقة تحت الستائر،
وعلى المخدَّة الحمراء، والإناءان برسومهما السوداء،
ينعكس شعاعُ الشمس من خلال زجاج النافذة المواجهة،
ويوازن بهلوان ضئيل على أنفه
كرسيَّين صغيرين أسودين، يصعد عليهما وينزل
كلب نحيف طيِّع، وذلك من دون أيِّ سبب،
من دون حتى أن تأتي ابنةُ الطباخة، البلهاء،
وتجلس على الدرج الرخامي لتصفِّق
في أخطر الأوقات، فيما تخرس النجوم حتى،
ويقف الضفدع على قدم واحدة على حافة هوَّة الزمان.
مـنطـقة محظـورة
كان عليه دائمًا أن يبحث، بلا سبب، بلا ضرورة،
عثر في الرماد على جزر صغيرة خاوية،
ومصلَّيات قديمة تعجُّ بالريح.
على عتبة مصلَّى، كان ثمة كرسي،
وفي الأسفل، بين الصخور، أوَتْ توتياء ضخمة
تظلِّلها غيمةٌ جامدة. وبعد ذلك،
لا شيء لديه ليضيفه. لكن الواضح أنه كان يتجنب
بكلِّ احتراس أن يلفظ كلمة "موت".
اجـتيـاح
لقد مرُّوا من هنا أيضًا. ورحلوا. سكون. حجارة سوداء.
أشجار مقطوعة. مصابيح محطَّمة. وعلى الطريق
حطام زجاج النوافذ، ومسامير، وعُلب، وخيطان. وداخل
الغرفة الفراغ، وعلى المائدة المرتبة،
في كلِّ طبق، رأسٌ مقطوع. وعند الباب،
ضُرِبَ عنقُ الراقصة.
"يا سيدي – تقول – عليَّ أن أُسرع
لألحق بهم، يا سيدي، عليَّ أن أُسرع."
كانوا يغسلون سلال قُطوف العِنَب. وكانت الزيزان تغنِّي.
من مجموعة الجدر في المرآة
* * *
معـنى البسـاطة
أختبئ خلف الأشياء البسيطة، كي تهتدوا إليَّ،
فإن لم تهتدوا إليَّ، تهتدون إلى الأشياء،
ستلمسون تلك التي لمستْها يدي،
وستتحد بصماتُ أيدينا.
قمر آب يشعُّ في المطبخ
مثل قِدْرٍ مطليَّة بالقصدير
(بسبب ما أقوله لكم بالذات)،
يضيء المنزل الخاوي، وصمتُه الساجد –
الصمتُ يبقى ساجدًا أبدًا.
كل كلمة هي منفذ
إلى لقاء يخفق غالبًا.
في هذا التشبُّث باللقاء، تكون كلمة أصيلة.
النسـاء
النساء بعيدات جدًّا. لأغطية أَسِرَّتهنَّ رائحة "ليلة سعيدة".
يضعن الخبز على
المائدة كي لا نشعر بأنهنَّ غائبات.
وإذ ذاك نشعر بأننا مذنبون. فننهض عن كراسينا ونقول:
"لقد تعبتِ اليوم يا امرأة"، أو أيضًا: "دعي ذلك، أنا سأُشعل المصباح."
وعندما نحكُّ عود الكبريت، تستدير في هدوء،
متجهةً إلى المطبخ في اجتهاد لا يمكن تفسيرُه،
وظهرُها تلَّة صغيرة من المرارة محمَّلة الموتى العديدين،
موتى العائلة، موتاها وموتانا.
ونسمع خطواتها على الألواح الخشبية القديمة،
نسمع الأطباق تبكي في خزانتها، ثم نسمع
القطار ينقل الجنود إلى الجبهة.
تـرابُـط
الأبواب والنوافذ تغيب طوال الليل،
لا ندري أين – طوال الليل –، ربما تَشْرُد في الشوارع،
أو في الغابات الكبيرة القديمة، ربما تعود
أشجارًا، لا ندري.
وذلك الضجيج الخشبي الذي يُسمَع في الليل
على أرصفة المدينة –
لا شكَّ أنه ناجم عن الأبواب والنوافذ الهاربة
تاركةً خلفها المنازل والسماء يتواصلان في حرية.
ولكن إذ يطلع النهار، ترجع الأبواب والنوافذ
إلى أماكنها كي تعزل السماء والمنازل بعضهما عن بعض، وتُخفي
الأسرارَ عن عارفيها، فيستطيع الناس أن ينتقلوا مجددًا،
أن يفتحوا ويُغلقوا بابًا، أن يحددوا الساعة
والمكان، أن يأخذوا أدواتهم –
المنشار، المتر، الكماشة، الفرجار –
كي يعدوا على أصابعهم القصيرة السمينة ويدوِّنوا
أرقام الخير لحسابهم النفعيِّ على الألواح المقطوعة
حديثًا، بحروف خرقاء وعلامات هندسية ساذجة،
لكي يصنعوا أبوابًا ونوافذ جديدة – ولكن ليس
للعزل، لا – بل ليُلبوا بكلِّ بساطة حاجات النمو
الديموغرافي، ولحفظ الحرارة أيام الشتاء.
وتنتشر كلَّ صباح رائحةُ الخشب المنجور حتى الضواحي البعيدة.
من مجموعة أقواس
* * *
مـا الفـائدة؟
"كل شيء بات قديمًا، شاخ، لم يعد يُستعمَل" – يقول –
الدخان الخفي، الغُرف المغلقة،
الأعلام، القتلى، المنشورات، التماثيل –
بهت الستار الأبيض،
وتغشَّى وجهُ المرآة،
وأمام العِثِّ في الفستان الأنيق
الذي كنتِ ترتدينه تلك الليلة،
وأغلق المقهى أبوابه،
وتهاوت الشرفةُ على بساط من القرَّاص،
وتمثال الحديقة غدا بلا ذَكَر –
ما الفائدة، في هذه الحال، من الحزن، من الغضب،
الحرية، فقدان الحرية، ملاعق الفضة، التوفير،
طقم أسنان الميتة الذهبي،
الشمس،
الشمعدانين على الطاولة، وحبوب الأسپرين،
وما الفائدة من الحبِّ والشعر؟
كان الطقس يومذاك رائعًا – كنَّا في شهر تموز –
وكانوا ينسِّقون الخبز
في فُوَطِهم،
والمركب الصغير يبتعد،
وكانوا يُشعلون الصحف في قبعة القشِّ
وسط المياه.
نسـخة
الأشياء تعود من الموت إلى مكانها الأول
أكثر غموضًا، أكثر جدَّة. يقف السرير
على قوائمه الأربع، كذلك الطاولة، والكرسي،
يعود مربَّع الشمس من النافذة على أرض المنزل المكشوطة،
وصوت بائع الصحف أمام محلِّ مزيِّن الحيِّ،
بذلك الإحساس بالظلم، فيما تنزلق
الموسى الكبيرة
على وجنتَي المراهق الظريف – هذه الموسى ذاتها
التي سبق لها أن حلقت للمتوفَّى مساء البارحة.
وفي الجانب المقابل تكرِّر المرآة الأشياء ذاتها، طورًا أكثر تألقًا، وتارةً أكثر
بهتًا.
من مجموعة الممشى والدرج
*** *** ***
تقديم وترجمة: هنري فريد صعب