|
سـليمـان البسـتاني
تقديم
ماذا قال في رحيل سليمان البستاني؟
كان من عادة الصحف العربية النيويوركية أن تنشر أخبار وصول المُبحِرين من جبل لبنان وبلاد الشام إلى نيويورك، وبخاصة إذا كانوا من أهل السياسة أو القلم. لكن السياسي والباحث الأدبي سليمان البستاني (1856-1925) تسلَّل إلى المدينة الأميركية من غير طبل ولا زمر، ربما لأنه كان قدوةً في التواضع، إضافةً إلى أن المهمة التي أبحر من أجلها في صيف 1924 لم تكن سياسيةً أو ثقافية، بل استشفائيةٌ نتيجة إصابته بمرض خطير في عينيه. لكن نبأ وجود الوزير والنائب في السلطنة العثمانية ومعرِّب الإلياذة سرعان ما اخترق جدار المرض والتواضع، فكتبت جريدة السائح في 23 تشرين الأول 1924 أن "البستاني في نيويورك منذ بضعة أسابيع". وسرعان ما تدفَّق أدباءُ الجالية وتجَّارُها إلى مكان إقامته لمحاورته والاستفادة من خبرته في حقلَي السياسة والثقافة. وأقامت "الجمعية التهذيبية السورية" حفلةً خطابيةً تكلَّم فيها رئيسُها إلياس عودة، والصحافي أسعد الملكي، والقس الكاتب الشويري إبراهيم الرحباني، وصاحب جريدة الهدى نعوم مكرزل، والآنسة هيلانة غسطين التي "انتسبت" إلى "نادي صديقات جبران خليل جبران" في أوائل عشرينيات القرن الماضي. وكان مفترَضًا أن تُقام للبستاني حفلةٌ أدبيةٌ ثانيةٌ في ربيع 1925 يكون هو أحدَ خطبائها، لكن القدر، أو بالأحرى المرض، أودى بحياته في غرة حزيران 1925.
واحدة من أواخر الصور المأخوذة لجبران (عن كتاب روبن ووترفيلد، حياة جبران وعصره). كان جبران في طليعة زوَّار البستاني ومحاوريه، بل وأصدقائه الجدُد والمساهمين في تخفيف آلامه الجسدية والنفسية. وقد أصبح، إثر رحيله، الأكثر تأثرًا بموته والأبلغ في التعبير عن تأثُّره بالقلم والريشة معًا. فعندما قرَّر صاحب السائح (لسان حال "الرابطة القلمية") عبد المسيح حداد إصدار عدد خاص عن البستاني، لم يكتفِ جبران بكتابة مقال عنه، بل صدَّر بنفسه الصفحةَ الأولى بلوحةٍ رَسَمَ فيها رأسَ الراحل وهو مسجَّى. وبما أن جبران لم يتعوَّد الارتجال، فإن الرسم كان "ثمرة ساعات أمضاها الرسام مع الجثمان"، على ما جاء في السائح الصادر في 22 حزيران 1925.
"الأربعة الكبار" في "الرابطة القلمية"
(من اليسار إلى اليمين): نسيب عريضة، جبران خليل جبران، كشف جبران في مقاله التأبيني المستفيض، غير المنشور في مجموعته الكاملة، بعض المعلومات الخاصة بالبستاني، ومنها قول سيدة أميركية شاركت البستاني في إحدى المآدب: أنا أجهل اللغة العربية ولا أعلم شيئًا عن السياسة الشرقية، لذلك لا أستطيع معرفة قَدْر هذا الشيخ الجليل. ولكنني لمَّا صافحته وابتسم لي تمنيت لو لم يمنعني الخجل عن تقبيل يده. وعندما نقل جبران إلى البستاني ما سمعه من تلك السيدة المثقفة، [...] لم يقل كلمة قط، بل ظهرت على شفتيه تلك الابتسامة الحلوة، ثم تساقطت دموعُه السخية على لحيته البيضاء. من البستاني الإنسان المتواضع، ينتقل جبران إلى البستاني الذي رجحت في ميزانه كفَّةُ السياسة على كفَّة الثقافة، فيقول: [...] إذا لامه أحدٌ لأنه انصرف عن العلم والأدب إلى السياسة يقول مكتئبًا: "نعم، لقد أسأت إلى نفسي... على أنني أرجو أنني لم أسئ إلى أحد." وجبران، في كلِّ حرف من مقاله، يحاول الإضاءة على مناقبية البستاني التي لازمتْه في حياته السياسية، وهو شأن نادر الحدوث مع "نجوم" السياسة! وكما قبيل الوفاة كذلك بُعيدها: فقد عُقِدَتْ أكثر من حفلة لتأبين البستاني. وبالطبع كان لنعوم مكرزل حضورٌ قوي، سواء على منصة الخطابة أو عبر جريدته الهدى. وقد عزَّز من حضوره اتصالُ بعض أنسباء الراحل من بيروت، وفي طليعتهم فؤاد أفرام البستاني، وطلبهم منه ترتيب نقل الجثمان إلى الوطن وقيادة الحفلة التأبينية الوداعية التي ستقام في نيويورك. وكان أول ما قام به مكرزل كتابة رثاء ظهر في الهدى صباح اليوم الثاني لرحيل البستاني، قال فيه: مات البستاني الكبير، مات الشاعر الكبير، مات العلاَّمة الكبير، مات المنشئ [المربِّي] الكبير، مات اللغوي الكبير، مات المتواضع الكبير، مات اللبناني الكبير، مات ابن الدبية في نيويورك. وعلى الرغم من ترؤس جبران "الرابطة القلمية" ومساهمته في تحرير السائح، حرص المكرزل على التعاون معه في كلِّ ما له علاقة بالبستاني. فقد نشر في جريدته بتاريخ 8 حزيران 1925 خبرًا يتمحور على مشروع إقامة تمثال للبستاني، يرعاه هو بالتعاون مع جبران وصديقته ماري عزيز الخوري. (والجدير ذكرُه أن بعض الباحثين أكَّدوا أن تلك المرأة "الثرية الجميلة الشبقة" حاولت امتلاك جبران، خصوصًا في غرفة نومها [كذا!]، لكنَّه تمرَّد عليها وكتب مقالته الجنية الساحرة. وبالطبع، لا صحة لأيِّ حرف من تلك المعلومة: ذلك أن "الجنية الساحرة" هي قطعًا ماري هاسكل، خصوصًا أن تاريخ نشر المقالة سبق صداقة جبران لماري الخوري، ناهيك عن أن الأخيرة فتحت منزلها في نيويورك لـ"الرابطة القلمية" وساعدت ماديًّا كلَّ كاتب أو فنان "طفران"، ومن المرجَّح أنها كانت ستموِّل مشروع التمثال، في حين ينحصر دورُ جبران في الناحية الفنية.)
پورتريه ماري هاسكل بقلم الرصاص لجبران، 1910 ولكن إذا فشل مشروع التمثال لأسباب غير معروفة، فإن ترتيبات نقل الجثمان وإقامة حفلة تأبينية كانت ناجحة. تولَّى المكرزل التعريف بالمؤبِّنين: الخوري منصور اسطفان، محافظ نيويورك (هيلان)، المتقدِّم في الكهنة باسيليوس خرباوي، الأرشمندريت برنردُس، اللاهوتي الإنجيلي خليل عساف، الصحافي يوسف مراد الخوري (صاحب جريدة الشعب)، الناشط الفلسطيني الطبيب فؤاد شطارة، الصحافي أسعد الملكي، الصحافي الشيخ عباس أبو شقرا، الدكتور عبد المسيح المصور، و... جبران. وقد جاءت كلمة جبران مختصرة. ويُستنتَج من عبارة "تُلِيَتْ في الحفلة التأبينية"، التي توَّجتْ نصَّ الكلمة المنشورة في الهدى بتاريخ 9 تموز 1925، أن كاتبها لم يكن حاضرًا. فلماذا غاب جبران؟ وما هو سر تكثيفه لكلمته إذا قورنت بمقال السائح؟ فهل يكون الغياب والتكثيف من وراء نشر الخطبة في الصفحة السابعة من الهدى، في حين تصدَّر المقالُ الطويلُ الصفحةَ الأولى من السائح؟ من المؤكَّد أن "عداوة الكار" المستحكمة بين عبد المسيح حداد ونعوم مكرزل لعبت دورًا في عدم استقبال جبران في صالون الهدى. ومن المرجَّح أن الجمع الكبير من رجال الدين "أقنع" جبران بإرسال كلمته لتُقرأ بالنيابة بدلاً من إلقائه لها شخصيًّا كما كان يفعل في عشرات الحفلات الأدبية والاجتماعية والتأبينية. وبالطبع، أزعج غيابُ أبرز الخطباء "مايسترو" الحفل التأبيني، فدفعَه إلى التعامل مع الخطبة وكأنها مصوغة بقلم كاتب ناشئ! أما تكثيف الخطبة، فربما يعود إلى أن معظم ما لدى جبران في خصوص البستاني قد ضمَّنه مقالَ السائح. غير أن الكلمة المكثفة كانت بليغة المضمون وأنيقة الشكل، ومن المؤكد أن مسوَّدتها مليئة بالتصحيحات والتعديلات، كما هي حال سائر المسوَّدات الجبرانية لكلماته المهمَّة. وإذا انتقينا من تلك الخطبة قولَ جبران أن صورة البستاني [...] الهيولية لم تنحجب عن بصرنا حتى ظهرت صورتُه المعنوية لبصيرتنا مغمورةً بشعاع من الخلود، فإن قراءتنا للنصِّ بكامله تؤكِّد لنا أن سائر العبارات تفوقها بلاغةً وأناقة، كقوله إن [...] البستاني واحد من القليلين [...] الذين يمرون بهذا العالم ويتركون وراءهم أغنية تردِّدها الأودية والمغاور كلَّ صباح وكلَّ مساء. ليس في سيرة جبران أي تنويه بصداقته لسليل الدوحة البستانية وإعجابه به. ولا تحتضن مجموعته العربية الكاملة أيَّ حرف من المقال والخطبة. لهذا كانت هذه الإضاءة على علاقة جبران بسليمان البستاني وتقويمه لشخصه وأدبه لمناسبة مرور 125 سنة على ولادته. جـان دايـه * * *
سـليمـان البسـتاني
بقلم جبران خليل جبران
الحياةُ يقظةٌ غريبةٌ جميلة. أما الموت فيقظة أغرب وأجمل. الحياة تسيِّرنا على سُبُل ضيقة محدودة. أما الموت فيطير بنا في فضاء غير محدود نحو نقطة الدائرة العليا. الحياة توقِفُنا كلَّ يوم وليلة في باب هيكل الوجود. أما الموت فيدخل بنا إلى قلب الهيكل. ولا فارق عندي بين هيكل تحتفظ فيه الذات الصغرى على كيانها الشخصي وبين هيكل تمتزج فيه تلك الذات بالنظام الكلِّي العام المجرَّد الخالد. فضمير الوجود هو هو ضمير الوجود، متفرعًا كان كألوان الموشور أو متوحدًا كقرص الشمس. الحياة والموت أقنوما الخلق، ولا ولن يكون الواحد منهما من دون الآخر. فلولا جهاد الحياة ووجدها لما كان الموت، ولولا ما في الموت من التشذيب والتقليم لما كانت الحياة. ومن الغرائب ننا – ونحن أبناء الحياة والموت – لا نفكر في الحياة إلا إذا ما توهَّمناها قاسيةً ظالمة، ولا نفكر في الموت حتى يضع أصابعَه على عينَي رجل كبير فينا. فما أشبهنا بمركب يسير بين اللجَّتين – البحر والفضاء – ولكنه لا يبلغ الأعماق إلا إذا تحطَّم وهبط، ولا الأعالي إلا إذا احترق وتصاعد لهيبًا ودخانًا. * * * عندما مات سليمان البستاني وقفت فكرةُ كلِّ مَن عَرَفَه أو سمع به متهيِّبةً خاشعةً أمام جلال الموت، وقفت سائلةً متفحِّصةً مستغربةً انحجابَ روح طيبة كانت نورًا في عيوننا ونغمةً عذبةً في آذاننا. أجل، وقفنا نسأل ذلك السؤال الأزلي الأبدي الذي ترسمه يد الموت على شفتَي الحياة عندما يقضي في الناس رجلٌ عظيم. وقفنا نسأل مستفهمين، مثلما فعل أول كاهن في الأرض أمام رفات أول ملك في الأرض، ومثلما يفعل اليوم كلُّ محبٍّ يرى وجه حبيبه متشحًا بذلك النقاب الرمادي الذي يحجب الوجود عن الوجود ويفصل بين مظاهر البشرية وخفاياها. إن الفكرة البشرية تستصعب الامتثال إلى موت الرجل العظيم. ولقد كانت في الأجيال الغابرة تتمرد، بل ترفض، موت الرجل العظيم. فجدودنا اللبنانيون نكروا موت تموز [أدونيس]، بطلهم وملكهم، فكانوا في الخريف يقولون: "قد ذهب تموز إلى الغاب لينام ويحلم"، فإذا ما جاء الربيع قالوا: "ها قد استيقظ تموز من غفلته." وكانت صبايا لبنان يَسِرْنَ في أوائل نيسان إلى الحقول والأودية ليشاهدن جمال بطلهنَّ في كلِّ زهرة تفتح قلبها لنور الشمس وليسمعن صوته متآلفًا مع خرير كلِّ جدول منحدر من أعالي لبنان إلى البحر. وفكرة جدودنا اللبنانيين في تموز لا تختلف عن فكرة الفُرس في بطلهم مثرا ولا عن فكرة المصريين في ملكهم أوزيرس: فمثرا ظل حيًّا كالخضر، وأوزيرس ظل حيًّا كإيليا النبي. لم يمت تموز في عقيدة جدودنا، لأن جمالَه كان أبهى من أن تُذبِلَه المنيةُ وصوتَه أعذب من أن يُخرِسَه القبر. مثلما نكر جدودُنا موت تموز بصورة مطلقة حاتمة، هكذا نستصعب نحن، ولكن بصورة محدودة مقيَّدة، موت الرجال الممتازين. ولقد كان سليمان البستاني رجلاً ممتازًا، فنحن نستصعب موته. أما ميزة البستاني الخاصة فقد كانت في أخلاقه أكثر منها في علمه، مع أنه كان غزير العلم، وفي قلبه أظهر منها في بيانه، مع أنه كان بديع البيان، وفي روحه أبعد منها في مآتيه وأعماله، مع أن مآتيه وأعماله كانت كلها جليلة سامية. ميزة البستاني كانت في ترفُّعه عن صغائر الاجتماع وتوافهه، وعن كلِّ ما في الاجتماع من المظاهر البراقة اللمَّاعة الخلابة. فكم مرة قال لي: "نحن نفكر ونشتغل ونشقى، أما السعادة الحقيقية ففي أن نكون محبِّين مخلصين. إن السعادة الحقيقية في قلب الفلاح اللبناني قبل أن تتسرَّب إلى الشرق أمراضُ المدنية الغربية." وكانت ميزة البستاني في بساطة روحه، وفي طُهر قلبه، وفي سلامة طويَّته، وفي أُنْسِه ومودَّته وولائه. فأيٌّ منَّا سمع برجل يترجم إلياذة هوميروس ويصدِّرها بتلك المقدمة الممتعة، ثم تستوزره دولة، ثم يعقد صلحًا بين أمَّتين متحاربتين، ثم يُرسَل في مهمات اقتصادية إلى سبع عواصم، وبعد ذلك كلِّه يجيء إلى نيويورك ضريرًا، ويجلس منفردًا في سكينة الليل، لينظم باللغة العامية الحكاياتِ والأمثالَ للأطفال – تلك الأمثال والحكايات التي أحسبها من أجمل وأبلغ ما أثمرتْه النفسيةُ اللبنانية. ومن منَّا سمع برجل سلك كلَّ المسالك واجتاز كلَّ المعابر – فمن النثر إلى النظم إلى التجارة إلى الإدارة إلى النيابة إلى الوزارة – ثم يجيء "بابل الجديدة" فيقول لصديق له: "الرجل الرجل من يَخدم ولا يستخدم، وينفع ولا يستنفع، ويبقى مجهولاً." ومن منَّا سمع بوزير دولة يطلب إليه سفيرُ دولة أخرى أن يمضي اسمَه على بعض المعاهدات التجارية لقاء مبلغ كبير من المال فيقول له: "لو وضعت اسمي في ذيل هذه الأوراق لما كان اسمي يساوي فلسًا واحدًا. وأنا بالطبع لا أريد أن أغشك فأعطيك اسم رجل يُرشى لتعطيني مبلغًا كبيرًا من المال." ومن منَّا عرف رجلاً في السبعين إذا مدحه أحدٌ على عمل تورَّدت وجنتاه حياءً كأنه لم يزل صبيًّا في السابعة، وإذا لامه أحدٌ لأنه انصرف عن العلم والأدب إلى السياسة يقول مكتئبًا: "نعم، قد أسأت إلى نفسي... على أنني أرجو أنني لم أسئ إلى أحد." * * * لا أنسى ولن أنسى ليلةً جمعتْني وسليمان البستاني ببعض الأميركيين حول مائدة أنيقة. وبينما نحن نتباحث في الفن والأدب، التفتت إليَّ سيدةٌ ذات منزلة معتبَرة وقالت لي: "أنا أجهل اللغة العربية ولا أعلم شيئًا عن السياسة الشرقية، لذلك لا أستطيع معرفة قَدْر هذا الشيخ الجليل. ولكنني لمَّا صافحته وابتسم لي تمنيت لو لم يمنعني الخجل عن تقبيل يده." وبعد يومين، حين زرت البستاني وردَّدت على مسمعه كلمات تلك السيدة، لم يقل كلمة قط، بل ظهرت على شفتيه تلك الابتسامةُ الحلوة، ثم تساقطت دموعُه السخية على لحيته البيضاء. تلك دقيقة نادرة أبانت لي حقيقة البستاني، بكلِّ ما في تلك الحقيقة من الدعة والاحتشام والرفعة، بل تلك دقيقة نفعني فيها البستاني أكثر بما لا يقاس من أيِّ كتاب وَضَعَه ومن أية قصيدة نَظَمَها. * * * لقد ترك لنا سليمان البستاني ثروة طائلة من علمه واختباراته. وسوف نقتسم تلك الثروة بقدر ما في كلِّ واحد منَّا من الميل والاستعداد. غير أنني أعتقد أنه قد ترك لنا شيئًا أفضل من العلم وأبقى من الاختبار: أعتقد أنه قد ترك لنا ذكرى ذاتيَّته الجميلة النبيلة. إن العلم يتقلَّب مع الزمن، واختباراتِ الآباء تمحوها اختباراتُ الأبناء. أما تأثير الذاتية المتجوهرة فتبقى ببقاء مدِّ الحياة وجَزْرها، وتبقى ببقاء روح الله في الإنسان. عن السائح، 22 حزيران 1925 * * *
سـليمـان البسـتاني كلمة جبران في الحفلة التأبينية
في كلِّ يوم وليلة تتسع المسافةُ بين ذاتية سليمان البستاني السائر نحو قمة الجبل الأعلى وبين المقيمين في هذا الوادي. وكلما اتسعت المسافةُ ظهرتْ تلك الذاتية أشد وضوحًا وجلاءً وجمالاً. وهذا في عقيدتي أدل مقياس على ميزة البستاني وتفوُّقه. من الناس مَن يسحر الناس طالما هو بينهم، فإذا ما ابتعد عنهم زال ذلك السحرُ واضمحلَّ كأنه لم يكن. ومن الناس مَن يجهله الناسُ حيًّا موجودًا، فإذا ما حجبتْه أنوارُ الشفق عرفوه وأكرموا ذكرَه. ومن الناس مَن يستوجب إعجابَ الناس أول وهلة يسمعون به، ثم يتدرج ذلك الإعجاب إلى الاحترام، فإذا ما قضى زاد إعجابُهم به وتعاظم احترامُهم له، إلى أن يشعروا بشكل من التهيب كلما لفظوا اسمه. وهكذا كان سليمان البستاني: مكرَّمًا في حياته، موقَّرًا بعد مماته. فلم تنحجب صورتُه الهيوليةُ عن بصرنا حتى ظهرت صورتُه المعنويةُ لبصيرتنا مغمورةً بشعاع من الخلود. والرجل الذي يعيش مترفعًا ويشتغل متفانيًا، ويعطي الناس من روحه ولا يأخذ من جيوبهم، هو الرجل الذي يظل مستوليًا على عواطف البشرية طالما في قلب البشرية شوقٌ إلى الجمال والحقِّ والحقيقة.
"[...] من القليلين [...] الذين يمرون بهذا العالم ويتركون أغنية تردِّدها الأودية والمغاور [...]." كلُّ ميت حيٌّ بحياة النواميس والأنظمة. ولكن قلَّ مَن يموت ويبقى حيًّا في ذاكرة هذا العالم. وسليمان البستاني هو واحد من أولئك القليلين القليلين الذين يمرون بهذا العالم ويتركون وراءهم أغنية تردِّدها الأودية والمغاور كلَّ صباح وكلَّ مساء. هو واحد من أولئك الذين ينحتون الحجارةَ لبيت الإنسانية، ويغزلون الخيوطَ لثوبها، ثم يسكبون نفوسهم خمرًا في كأسها. * * * عندما مات سليمان البستاني وقفتُ وحيدًا إلى جانب نعشه وبكيت على نفسي متوهمًا أنني قد فقدت بفقده صديقًا محبًّا محبوبًا. ولكن لم يمر يوم وليلة حتى رأيت صديقي واقفًا أمامي وفي عينيه نجمتان من نجوم الأزل وبين شفتيه كلمةٌ من حديث الأبد. لا، لم يمت سليمان البستاني. فنحن نحبه اليوم أكثر مما أحببناه بالأمس، والقلب البشري لا يحب العدم. عن الهدى، 9 تموز 1925 *** *** ***
|
|
|