"إنشـاء العـلائـق"

 

داريـن أحمـد

 

S'il te plaît… apprivoise-moi !
– A. de Saint-Exupéry

 

عندما استعمل أنطوان دُه سانت إكزوپيري فعل "التدجين" apprivoiser وعرَّف به على لسان الثعلب في الأمير الصغير بوصفه "إنشاء العلائق"، تغيَّر معنى المصطلح كليًّا من كراهية إلى حب، من استعباد إلى مسؤولية، ومن قسر إلى متعة. وهنا إذا كانت الكلمة هي "البدء"، أو كان البدء هو "اقرأ" – ونعني به البدء الثقافي لهذه المرحلة التي نحياها الآن[1] –، فإن "الكلمة" ذاتها ليست ذات معنى في معزل عن العلاقة التي تحدِّد موقعَها منَّا ووقْعَها علينا.

وفي حال قسمنا الثقافة إلى قسمين لنشكِّل ثنائية – لا بدَّ منها في أيِّ سياق فكري – نطلق عليها اسم "ثقافة الموت" و"ثقافة الحياة"، فإننا نتكلم على شكل التدجين الذي تحدِّده علاقةُ كلِّ طرف من طرفَي هذه الثنائية مع متلقِّيها. هذا ما يبدو للوهلة الأولى. إلا أن تعيين معنى العلاقة ذاتها يحوِّر النتيجةَ السابقةَ إلى ثنائية علاقة/لاعلاقة بدلاً من ثنائية علاقة حياة/علاقة موت. فوقْع ثقافة الموت علينا، كمتلقِّين، هو عبء انفصالنا عنها، أي انعدام العلاقة معها، مع عدم وجود حيِّز يسمح لها بـ"استئناسنا" (تدجيننا إكزوپيريًّا)، بالإضافة إلى تعميم نفسها كمنظومة فكرية متماسكة وسهلة، وقبولنا.

يعرِّف ج. كريشنامورتي بالعلاقة على أنها "الوصال من دون خوف، حرية الفهم المتبادل، والتواصل المباشر". وسرعان ما ندرك أننا في الواقع، من منظور هذا التعريف، نقف خارج سياق "العلاقة" كليًّا، وأن ما يحدث بيننا وبين الآخرين أو بيننا وبين الأشياء هو احتكاك سطح بسطح لا أكثر. وهذا التواصل "الاحتكاكي" مزعج فعلاً بعدم تجاوُزه ضجيج الخدوش الصغيرة التي يُحدِثُها والمبالغة في ألم لهيب "جحيم الآخرين" (سارتر) الذي يحرق كلاًّ منَّا على حدة.

في مقابل العلاقة، يقف "السأم"، الذي هو تسمية أوضح للاَّعلاقة والذي عُبِّر عنه بامتياز في رواية السأم لألبرتو موراڤيا، حيث يعرَّف به على لسان بطل الرواية على أنه ذبول الأشياء وانقطاع العلاقة معها. وهو ليس عكس التسلية أو تزجية الوقت عبر القيام بعملٍ ما يتيح للمحرضات الخارجية أن تفعل فعلها في الفراغ الذي ينهش في الداخل: فأنا سئم في كلِّ حال، سواء كنتُ وحيدًا أم مع الآخرين، سواء كنت في صمت منزلي أو في ضجيج صالة السينما، سئم عندما أضحك وسئم عندما أتثاءب! هذا السأم، الذي هو في المجمل حالة عامة، غالبًا ما يلقي بثقله على الخارج، على المحرضات الخارجية: فليس من شيء من حولي قادر على إثارة البهجة في روحي، وليس من أحد قادر على النفاذ إليها؛ في اختصار، ليس من أحد أو شيء قادر على... تدجيني!

المستوى السابق من مستويات السأم يندرج نفسيًّا تحت بند "الاكتئاب المزمن" chronic depression، وفق تصنيف إريش فروم: فهناك الأفراد الفعالون، القادرون على إقامة علاقة تواصُل مع الآخرين ومع الأشياء، وهؤلاء عمليًّا غير سئمين؛ وهناك الأفراد الذين تثيرهم المثيرات البسيطة (سنتناولها لاحقًا على أنها ثقافة السأم ذاتها)، وهؤلاء عمليًّا غير مدركين أنهم سئمون بشدة ماداموا في دوامة التحريض المستمرة من انشغال دائم يبقيهم في منأى عن إدراك سأمهم؛ وهناك، أخيرًا، الأفراد غير القادرين على التأثر بالمثيرات البسيطة أو الفعالة، وهم عمليًّا، بشكل ما، مرضى.

فالإنسان، وفقًا لما ذكره فروم، يبحث عن الإثارة ويستجيب لها بطبيعته. ولكن هناك فرقًا كبيرًا في العلاقة بين المتلقِّي والمثير بحسب نوع المثير ونوع المتلقِّي: ففي حين يعمل المثير البسيط على تحريض ردِّ الفعل عند متلقِّيه فقط، يعمل المثير الفعال على تحريض فعالية المتلقي، دافعًا إياه إلى مشاركة مستمرة لا يحدها سقف اكتفاء؛ أي أنه يدعوه، إن جاز التعبير، دعوةَ الثعلب للأمير الصغير، إلى إفساح مكان له وحده، بحيث لا يمكن استبدال شيء آخر به: فهو لم يعد شيئًا عارضًا لا تربطني به أية علاقة. يقول فروم:

وما يُهمَل عادةً هو وجود نوع مختلف من المثير، نوع يثير الشخص ليكون فعالاً. وقد يكون هذا المثير للفعالية روايةً أو قصيدةً أو فكرةً أو منظرًا طبيعيًّا أو شخصًا محبوبًا. فأي مثير من هذه المثيرات لا يُحدِثُ استجابةً بسيطة: فهذه تدعوك، إذا جاز التعبير، إلى الاستجابة بوصل نفسك بها بفعالية وتعاطف، بصيرورتك مهتمًّا بفعالية، فترى وتكتشف الجوانب الجديدة في "شيئك" (الذي يكف عن أن يكون مجرَّد "شيء")، وبصيرورتك أكثر يقظةً وإدراكًا. [...]

على العكس من المثير البسيط الذي يحتاج إلى تغيير أشكال ظهوره وتبدِّياته تغييرًا مستمرًّا درءًا للسأم، لانقطاع العلاقة بيننا وبينه. وإذا نظرنا إلى واقعنا الحالي لوجدنا ثقافة تعتمد على المثيرات البسيطة في خلق صلة بينها وبين متلقِّيها، محولةً إياه إلى حالة جثة متحركة؛ أي أنه يصير متحفزًا بشكل دائم، متوترًا بشكل دائم، منتفخًا حتى الانفجار، لكن من دون حياة أو فاعلية. ذلك أن سهولة تحريض ردِّ الفعل فقط تطغى على جهد بناء ثقافة إبداعية تمنح المتلقِّي فرصة المشاركة الخلاقة في سيرورتها وتطورها وتساهم في بناء تفرُّده الخاص الذي يمكِّنه من معرفة ما يريده فعلاً بدلاً من إملاء رغباته عليه؛ وهي في الأغلب رغبات تخدم المزيد من التحكم – دعامة عالمنا المعاصر – الذي يقود، بدوره، إلى مزيد من السأم.

ولكن بالإضافة إلى شرط المثير الفعال لبناء العلاقة، نحتاج إلى ما سماه فروم بـ"المتلقي القابل للملامسة"، وهو الإنسان الذي لا يحول خوفُه أو كسلُه أو موتُه النفسي بينه وبين تلقِّي الإشارات الحية ممَّن وممَّا حوله. يحدثنا فروم عن قدرة الطفل على خلق مثيراته الخاصة وعن كيفية تلقِّيه الطازج دائمًا للعالم من حوله، تلك القدرة التي تتلاشى مع تقدم الإنسان في العمر، ليحلَّ محلَّها تلقٍّ فاترٌ يميز إنساننا المعاصر. وهنا يلتقي فروم مع كريشنامورتي حين يركِّز على أهمية اللحظة الحاضرة والتخلي عن الأفكار المسبقة والنماذج الذهنية في تعامُلنا مع الكون والآخرين[2].

* * *

إذن، إذا كان سأمي، الذي هو حالة متفشِّية، هو تحولي إلى "شيء" منفصل عن كلِّ ما حوله، غير قادر على التقاط إنسانيته إلا عبر رؤية الدم الذي يلعب دور المؤكِّد على وجود الحياة – وهنا لسنا في حاجة تمامًا إلى القتل المباشر، إذ يكفي أن نتابع شاشتنا التلفزيونية أو جرائدنا –، وإذا كان سأمي هو استبدال نشوة إشباع رغائبية مؤقتة بالفرح الصافي، وهو استبدال عنف يتخذ شكل الضحك بالضحك نفسه، وهو استبدال آلية تتخذ شكل الحياة بكوني حيًّا فعلاً، فإنه لَمِنَ الطبيعي تمامًا أن تُستبدَل معاييرُ وجودي برمَّتها، ومن الطبيعي تمامًا أن يصير شعارُ "اطلب الموت توهَب لك الحياة" شعارًا منطقيًّا أدافع عنه بكلِّ الموت الذي أحمل.

* * *

أخيرًا، لنعد إلى موراڤيا الذي اكتشف وجهًا جديدًا لتاريخ "كلمتنا" الإنساني:

[...] وكانت النتيجة مشروع تاريخ عام يقوم على السأم لم أكتب منه إلا الصفحات الأولى. وكان هذا التاريخ ينطلق من فكرة سهلة هي أن التاريخ لم يكن مبنيًّا على التقدم أو على التطور البيولوجي أو على التطور الاقتصادي أو على أيِّ سبب آخر يقدِّمه عادةً مؤرِّخو الكتب المدرسية، وإنما يقوم على سبب واحد هو السأم. وقد شعرت بحماس شديد لهذا الاكتشاف الهام، فأخذت الأمور من أساسها، وعلمت إذًا أن السأم كان في البداية، وكان يسمَّى "العماء". فقد سئم الرب فخلق الأرض والسماء والحيوانات والنبات، ثم خلق آدم وحواء؛ وقد سئم هذان بدورهما العيش في الجنة، فتناولا الثمرة المحرَّمة، مما أسأم الرب منهما، فطردهما من جنة عدن؛ كذلك سئم قابيل من هابيل فقتله، وسئم نوح كثيرًا فاخترع الخمر؛ ولم يلبث أن سئم الرب من هؤلاء البشر، فدمَّر العالم بأن أغرقهم في الطوفان؛ ولكن الطوفان أسأمه مرة أخرى، فأعاد الطقس الجميل مرة ثانية. وهكذا يدور الزمن.

تنطوي الفكرة السابقة على إغراء هائل من جانبين: الجانب الأول هو إغراء الموت، خاصةً وأننا نعدم بيئة طبيعية وإنسانية وثقافية صحية نعيش فيها: فكل ما حولنا يحرِّض على التلاشي، الذوبان، الترقيم والتشييئ، لذا قد يبدو من السهل عليَّ تبنِّي هذه الفكرة، وجوديًّا، لتعزيز العدم الذي أعيشه، مرور الأيام المتشابهة وحضوري (= غيابي) فيها؛ والجانب الثاني هو إغراء العجز، عجز قبول هذه الصيغة المنتهية، الذي هو، بشكل ما، إغراء الحياة التي أحملها جنبًا إلى جنب مع الموت. إذ إن الإنسان، كما ذكر – ببلاغة العاجز – إرنستو ساباتو في روايته أبطال وقبور، لن يفقد الأمل أبدًا!

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] يعلِّق إريش فروم على امتحان اجتازه مردوخ في أسطورة إينوما إليش البابلية قبل تنصيبه ملكًا: إن معنى اجتياز هذا الامتحان هو أن الرجل قد تغلَّب على عجزه عن الخلق الطبيعي (وهو خاصية لا تملكها إلا الأرض والأنثى) في شكل جديد من الخلق هو الخلق بـ"الكلمة" (الفكر). ومردوخ، الذي بات قادرًا أن يخلق بهذه الطريقة، قد تغلَّب على التفوق الطبيعي عند الأم، فيستطيع من ثم أن يحلَّ محلَّها. وتبدأ القصة التوراتية من حيث تنتهي الأسطورة البابلية: فالإله الذكر يخلق العالم بـ"الكلمة".

[2] في رواية السأم يطرح ألبرتو موراڤيا نموذجًا لإنسان اللحظة الحاضرة، وهو بطلة الرواية المعنية بما يحدث هنا والآن، التي لا يحول تلقِّيها الطازج للعالم بينها وبين سأمٍ لم يتطرَّق إليه الكاتب.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود