|
مقـبرة السـلالة
لا ينفك سيف الرحبي يتكلَّم على عبث الحياة في صحراء الوجود غير المختلفة عن "صحرائه" الطبيعية المحيطة به – وهو ابن تلك البلاد الشاسعة، حيث الجفاف والوحشة يمتزجان في منظر واحد خلاصته العراء. كأن قصة الإنسان، في رحلته الأزلية غير المجدية عبر فلاة الكون، لا تني تشغل الرحبي، بدءًا من محيطه الطبيعي وانتهاءً بقصائده. ومَن وُلد ونشأ بين جبال مسقط الرهيبة وصحراء الربع الخالي لا بدَّ من أن يمضي بالكلمة الشعرية إلى أقصى غموضها وعبثيتها، جاعلاً من كلِّ مشهد ملحمةً مأسويةً للبشرية جمعاء خاليةً من أيِّ أمل. الأحوال الزمنية والمكانية كلها متشابهة، والإنسان يكابد ما فرضتْه حالتُه عليه: رحلوا عبر الربع الخالي، جاؤوا من كلِّ أطرافه ونواحيه، قبائل تترى، تتبعها النساء والأطفال لمحاربة الرياح التي تأتي على الزرع والمياه. توغَّلوا قليلاً في المتاهة، أبصروا أرخبيلات من سراب. [...] من تلقائها هبَّت عاصفةٌ بكوا سرَّها اللامرئي، فأتت على القوم ونثرتْهم في الرمال. كان نسر وحيد يحلِّق فوق الجثث، والدماء لا تسيل من كثرة ما جفَّت في العروق. متاهة وسراب وموت ودماء... إنها رحلة الإنسان الشاقة عبر الأجيال تدفع فيها حتى الدماء. يقول: الصبية تركض في العراء، ترتطم بسماكة الفراغ، فتسقط جثة هامدة. الفراغ الذي يحيط بالشاعر، وجوديًّا وجغرافيًّا، ليس سوى التعبير الأعمق عن "وحشة المساء" و"صمت اللقالق على الشاطىء المهجور". فالحضور في كتابة الرحبي أشبه بالهجرة الدائمة والغياب أو الرحيل المستمر. إنه الموت القادم في كلِّ لحظة، الموت الذي خطف الأم، ومعها الحنان والدفء: أيتها الكريمة الحنونة، مَن يعين الابن على وحدته وشتاته، على الكوابيس الهائجة التي ليس لها قرار؟ مَن يعين الابن المرميَّ على قارعة العالم حيث لا موت ولا حياة؟ هذه الكلمات الطالعة من قعر الروح الأليمة هي كلمات الإنسان الوحيد والأعزل، الإنسان المنكسر، المجروح، الضعيف، بل التعبير الأصدق عن واقع البشرية في عزلتها – كأن الحماية الوحيدة في النهاية لا مصدر لها سوى الأم، وإذا ماتت الأم مات العالم، أو لنقل، عاد إلى قسوته ووحشته: [...] لأنني الآن امتلأت بنوركِ أكثر، بحلم اللقاء في تخوم الأبدية، لأن اللقاء هنا كان مطعونًا بثقل البشر وفظاظة المكان. فبعد رحيل الأم، يخلو العالمُ من عذوبته، ويبقى مشرَّع الأبواب على الفظاظة الوافدة من كلِّ صوب.
مجموعة سيف الرحبي[*] مرثية كتبَها في ذكرى رحيل ولمناسبة فقدان أقرب إنسان إليه: تلك الأم التي لطالما حضنتْه حاميةً إياه من فظاظة الحياة وخشونتها. قصيدة حنين في غياب منبع الحنان الأول: فمع غيابه يندثر معنى العالم ولا يبقى لليقين مقر. فلا الموت مقبول ولا الحياة معقولة. إنه العبث التام. ولا راحة ولا استقرار إلا في حضن دافئ، حنون، يمكن له أن يَهَبَ العالمَ شعورًا وتصورًا: حملت وجهكِ الناصع بالحياء والصدق تميمةً لأيامي، بوصلةً لغموض الطريق، امتلأتُ بموتك قبل أوانه، تشرَّبتُه وأنتِ تتنزهين في بهو المنزل وروابي الأفلاج. أم الشاعر بوصلة لطريقه المعتم، لنفقه المظلم. تضيء ليلَه بوجهها الناصع. فالبياض يرمز لدى الرحبي إلى العذوبة والطهارة اللتين تلوِّنان علاقته بأمِّه. وقد تنبأ بموتها، أو كما يقول، "امتلأ بموتها"، قبل أن تموت من فرط حبِّه لها وخوفه عليها وعلى نفسه بعد غيابها. امتلأ في أثناء الكتابة بشفافية الصورة الشعرية ونضارة العبارة. ما كتبه سيف الرحبي رثاءٌ للأم في قصيدة طويلة ترثي، في الوقت نفسه، البشرية جمعاء. فكل فرد في هذا الكون يختبر العذاب ذاته لدى مواجهة نهاية الحياة: لكن المشيئة، المشيئة وحدها، تجعل الطريق أقلَّ هولاً وتجعلنا نفكِّر في نعشٍ لامرئي يحمله الدهر وجنوده الأيام. وهل يتحول التساؤل حول لغز الموت إلى التساؤل حول ماهية الجسد والكيان والوجود؟ ينتهي الرحبي إلى عدم الإيمان بالجسد الذي "يغرب" والذي يتحول إلى وهم أو طيف: مَن نلتقيهم في قرى طفولتنا البعيدة نُقرِئُهم السلام، والسؤال عن الأهل والأصدقاء بالعبارة المرتجفة على الشفاه، والجسد الذي يغرب عميقًا عميقًا في الماضي. كأنما صُنِعوا من أرومة الغياب، إنهم أطيافنا الغابرة. يغرب الجسد ليستحيل إلى طيف أجيال قادمة وأجيال مضت. وما يختبره الشاعر الرحبي يتجاوز التجربة الذاتية الراهنة إلى التجربة الجماعية التي لا تتقيد بوقت محدد، بل ترتبط بالحالة العامة للإنسان أينما كان. تختصر قصيدة الرحبي آلام البشرية، كأنه يحكي عن كلِّ غياب. *** *** *** عن النهار، الأربعاء 19 تشرين الثاني 2003 [*] سيف الرحبي، مقبرة السلالة، منشورات الجمل، ألمانيا، 2003.
|
|
|