|
المنظمة العالمية للتجارة: السلطان الخفي
تشير المنظمة العالمية للتجارة Organisation mondiale du commerce إلى القطاعات التي يجب أن "تنفتح" على "المنافسة الشريفة" بوصفها قطاعات "واعدة"! مقاييس الخدمات باتت تُراجَع لتشمل: استخراج المياه، حماية الطبيعة والمجالات الطبيعية، حماية الغابات وترشيد التدوير المستدام للغابات، الدراسات حول الانعكاسات البيئية، خدمات البحث، التنمية، برامج توعية العموم، إلخ. وهذه الخدمات توضع في خانة خاصة بالمنظمة بعنوان: "قائمة تسوُّق" shopping list!
قطاع توفير الماء الصالح للشرب لم يكن معنيًّا بالتصنيفات التي كانت متداوَلة سنة 1994: فبالنسبة لغالبية البلدان يُعَد هذا المجال من مشمولات الدولة والقطاع العام. أما استخراج المياه الجوفية، فهو يخضع لاعتبارات عديدة، بيولوجية وبيئية، ولتراخيص تحدِّد الكمية المستخرَجة. وإضافة إلى توفير المياه الصالحة للشرب، فإن استخراج المياه سيغدو محلَّ نقاش باتجاه خصخصته. والبنك الدولي مقتنع بأهمية هذه الخدمة: فهو يوزع كتيبات في المدارس الأفريقية يشير فيها إلى أهمية الحفاظ على الماء ويهيِّئ الرأي العام لقبول مبدأ "دفع المقابل"، في الوقت الذي تستهلك الصناعات الإعلامية كميات هامة من المياه (مثل Intel Corporation التي ابتلعت طبقة المياه الجوفية الصافية في Silicon Valley، لتلفظها بعد ذلك ملوثة)؛ فهذه الصناعات، مثلها كمثل الصناعات الكيميائية والنووية، تشتري الماء بأسعار خاصة زهيدة. ولهذا أصبح الماء سلعة نادرة: فهو يتعرض للتلوث في بلدان الشمال، وكمياته محدودة في بلدان الجنوب. وفي نظر "جبابرة" الماء تمثل هذه الوضعية فرصة سانحة! إن إدراج عملية الحصول على الماء captage وتوفيره للمواطن هي من ضمن الخدمات التي تعتزم المنظمة العالمية للتجارة OMC خصخصتها. وقد أثار هذا الملف قلاقل وصعوبات في بلدان العالم الثالث، ونتج عنه رفعُ دعاوى أمام محكمة المنظمة العالمية للتجارة. وسنعرض فيما يلي لبعضها: 1. في الأرجنتين، في سنة 1995، تمكَّن فرع من فروع شركة Vivendi من الحصول على ترخيص مدته 30 سنة باستثمار نظام جرِّ المياه في منطقة Tucuman. ودفتر الشروط توقَّع استثمارات ضخمة لتجديد قنوات المياه والآبار؛ وقد سمح للشركة أن تضاعف من أسعار فواتير الماء. وبعد بضعة أشهر، تحول لون الماء فجأة فأصبح بنيًّا! إذ ذاك قرَّر سكان Tucuman رفض دفع فواتير الماء، وطالبوا بأن تتحمل البلديات مسؤولية جرِّ المياه. وتحت ضغط الجماهير، اضطرت الدولة إلى التخلِّي عن الاتفاقية التي تربطها مع Vivendi؛ وهذه، بدورها، رفعت دعوى على الحكومة الأرجنتينية، مطالبةً إياها بمبلغ 100 مليون دولار كتعويض عن خسائرها! 2. حصل كارتل Bechtel للمياه بمدينة سان فرانسيسكو على ترخيص بجرِّ المياه في منطقة Cochabamba ببوليڤيا. ففي كتابها الذهب الأزرق، تتطرق Maud Barlaw إلى مضاعفة أسعار الفواتير التي أقرَّها Bechtel سنة 1999: بالنسبة لغالبية البوليڤيين أصبح سعر الماء يفوق أسعار المواد الغذائية! والأدهى من ذلك أن الدولة البوليڤية أجازت لهذه المؤسسة احتكارًا مطلقًا لقطاع جرِّ المياه واستثمارها، وتعهدت بأن تتخلَّى عن دعمها للفئات الفقيرة – وذلك كله تحت ضغط البنك الدولي. وبذلك صارت المياه، حتى تلك التي يتم الحصول عليها من الآبار الجماعية، تخضع للحماية لصالح مؤسسة Bechtel. وحتى المزارعون الذين يخزنون ماء الأمطار في صهاريج puits-citernes (أو ما يُعرَف لدى التونسيين بـ"الماجل") يضطرون إلى دفع مقابل مالي. ردًّا على ذلك، قامت "منظمة الدفاع عن الماء والحياة" في Cochabamba باحتجاجات ساهم فيها عشرات الآلاف من البوليڤيين. وبعد مشادات وأحداث عنف سقط فيها ضحايا، اضطرت الحكومة إلى إلغاء الاتفاقية على خصخصة المياه. وإثر ذلك، قامت مؤسسة Bechtel برفع دعوى على الحكومة البوليڤية، مطالبةً بتعويضات قُدِّرَت بـ40 مليون دولار! 3. علاوة على القضايا المتعلقة بسعر الماء، فإن خصخصة قطاع استثمار المياه وتوزيعها تطرح مسألة تلوث الماء الصالح للشرب. فعندما تتم خصخصة قطاع المياه يفقد الناس الحقَّ في الحصول على المعلومات المتعلِّقة بالجدوى وبالتقيد بمعايير الصحة المرتبطة بها. فلقد ظهرت فضيحة سنة 1998 في مدينة سيدني بأستراليا عندما اكتشف المواطنون أن الماء الصالح للشرب الذي توزِّعه مؤسسة Suez يحتوي على أعداد عالية من الطفيليات من نوع Cryptosporidium giardia، ولم يتم إعلام الناس بذلك! لقد توصلت المنظمة العالمية للتجارة WTOإلى إدراج استثمار المياه ضمن "خدمات المحيط" التي تجب خصخصتُها. انعكاسات ذلك على الأجيال القادمة ستكون وخيمة جدًّا، خصوصًا إذا علمنا أنه لن يُسمَح للدول بأن تحدِّد سقفًا لكميات المياه التي ستتمكن الكارتلات من ضخِّها من المصادر الجوفية؛ وهذا يعرِّضها للاستنزاف. والحال أن "الذهب الأزرق" غدا مادةً نادرةً بفعل التلوث والاستغلال الفاحش للمصادر المختلفة. والخلاصة أن المنظمة العالمية للتجارة WTO تتقدم خطوات حثيثة نحو خصخصة الكائنات الحية والمصادر الطبيعية، شاقَّةً الطريق أمام شركات وكارتلات ماضيها حافل بفضائح التلوث وغير عابئة بمصالح الشعوب ولا بالمخاطر البيئية الوخيمة التي قد تنجم عن مثل هذا التوجه. *** *** *** [*] Agnès Bertrand et Laurence Kalafatidès, « La privatisation des entrailles de la terre », in OMC, le pouvoir invisible, Éditions Fayard, mars 2002.
|
|
|