|
الدِّين الشديد: صعود الأصوليَّات حول
العالم
غالبًا ما يبدو اعتبارُ الأصولية الدينية حالةً عالمية، متباينةَ المصادر الثقافية ومختلفةَ المواقع الاجتماعية والسياسية، وكأنه محاولة لدحض الزعم أو الظن بأن الأمر محصور في مجتمع محدَّد أو ملازم لثقافة بعينها. فمحاولة تعميم كهذه لا تعني، في الأحوال كافة، أنه ليس ثمة بالفعل ظاهرة أصولية عالمية، على الأقل في حدود ما يجادل غبرييل ألموند وسكوت آپلباي وعمانوئيل سيڤان في كتابهم المشترك الذي نحن في صدده[*].
فعندهم أن الحركات الدينية الأصولية، من حيث عداؤها المشترك للحداثة والعَلمانية، إنْ على صورة الثقافة أو على صورة المؤسَّسات، هي حالة رفض عالمية أخرى لـ"عصر الأنوار" شبيهة بحالتَي الرفض السابقتين عليها: ردة الفعل الكاثوليكية والمحافِظة على الثورة الفرنسية، وبروز الحركات والنظم التوتاليتارية، الشيوعية والنازية، في القرن العشرين. ولكن كيف لحركات يهودية ومسيحية، پروتستانتية وكاثوليكية، وإسلامية، سنِّية وشيعية، وهندوسية وسيخية وبوذية – كيف لحركات على هذا التباعد الجغرافي والتباين الثقافي أن تكوِّن قوام ظاهرة واحدة، حتى وإن كانت ظاهرة عالمية؟! يجادل مؤلِّفو الكتاب بأن البحوث التي قاموا بها والدراسات التي استشاروها تبيِّن أن ثمة "أوجُه شبه عائلية" ما بين هذه الحركات تجيز الكلام على تشكيلها لظاهرة متصلة. وفضلاً عن اعتمادهم على مصادر أساسية ومتفرقة، استند المؤلِّفون إلى العديد من المقالات والبحوث الميدانية مما يتألف منه "مشروع الأصولية"، وهو مشروع دراسة أكاديمية شاملة انطلق في مطلع العقد الماضي وشارك فيه العديدُ من الأكاديميين والباحثين المهتمين من شتى أنحاء العالم، ليثمر عن عشرات الفصول صيرَ إلى جمعها في خمسة أجزاء. بيد أن توافر مثل هذا الجهد العلمي الميداني الشامل ليس وحده ما يسوِّغ لمؤلِّفي كتاب الدين الشديد تمييز أوجُه شبه عائلية ما بين مختلف الحركات الأصولية، سواء حركة "كاخ" أو "حماس" أو "اتحاد المتطوعين القومي" الهندوسي أو "الپروتستانت الأمريكيين"، وإنما المفاهيم والمقولات التحليلية التي استعانوا بها في عقلنة هذه الحركات، باعتبارها على قدر من التشابه يجعل اجتماعها صورةً لحركة واحدة. وبمعونة مقولة من نحو مقولة المنطقة الأجنبية، يقدم عمانوئيل سيڤان مسحًا شاملاً لثقافة الحركات الأصولية، الإبراهيمية العقيدة، منذ ظهورها في مطلع القرن حتى اليوم. فهي ثقافة "المنطقة الأجنبية" لأن مؤسِّسي هذه الحركات شدَّدوا، منذ البداية، على فكرة "المنفى" أو الغربة التي تَسِمُ إقامتهم في مجتمعاتهم وما بين أبناء جلدتهم. لذا فقد جهدوا في إنشاء منطقة إيديولوجية وتنظيمية تميِّزهم عن هذه المجتمعات والأمم وتَقيهم مخاطر علومها وقيمها الحديثة والعَلمانية. على أن هذه المنطقة ليست بجغرافيا مستقلة، حتى وإن أفلح بعض الحركات الأصولية في اكتساب مراكز وأحياء خاصة بها وبمريديها، وإنما هي أقرب إلى فضاء رمزي قوامه العلاقة التي تربط أعضاء الحركة بعضهم ببعض، فضلاً عن الملبس والسلوك واللغة التي يستخدمونها في عقلنة العالم وتقويمه. وما قيام حدود هذه المنطقة إلا نتيجة إصرار هؤلاء الأعضاء – وخاصة زعماؤهم ومرشدوهم – على التمييز فيما بينهم وبين بقية العالم. وحيث إن منطقة كهذه تفتقر أيضًا إلى الاستقلال والسيادة، فإن لا سلطان لها قانونيًّا على أفرادها، خصوصًا الملتحقين حديثًا بها، ماخلا السلطة الأخلاقية. فحيث، في غالب الأحوال، يفتقر القائمون على منطقة كهذه إلى وسائل القسر أو الإغراء، فإنهم يعمدون إلى رفع ما يشبه "جدار الفضيلة" الذي يفصل منطقتهم "الصالحة" عما يحيط بها من مجتمع حديث "ضال" ودولة عَلمانية "فاسدة" ويضمن ولاء أتباعهم والتحكم بهم. وما تبرهن عليه مقالةُ سيڤان هذه هو أن الاستعانة بمقولات تحليلية لا يعني التقليل من شأن الفوارق ما بين الحركات الأصولية المختلفة أو إهمال دينامية تاريخ كلٍّ منها. ولعل من أوضح طموحات هذا الكتاب الإحاطة بكلٍّ من العوامل البنيوية والسياقات التاريخية، المحلِّية والعامة، بحيث تظهر أوجُه الاختلاف ظهورَ أوجُه الشبه، في سياق يكفل الكشف عما يلمُّ بالحركات المعنيَّة من تحول وتغير. ينبِّهنا المؤلِّفون إلى أن ثقافة "المنطقة الأجنبية" لهي من خصائص الحركات الإبراهيمية، بما هي حركات تُجابِه الحداثة والعَلمانية من منطلق الاستناد إلى نصٍّ وسنَّة، وليس الحركات "التوفيقية"، أي الحركات التي تستند إلى أطروحات ومزاعم قومية وإثنية تلعب دورًا مهمًّا في تعيين وتيرة توجُّهها وسياساتها حيال العالم الحديث. غير أن مثل هذا التنبيه لا يتوقف عند حدود التمييز ما بين حركات أصولية يهودية ومسيحية وإسلامية، من جهة، والحركات البوذية والهندوسية والسيخية من جهة أخرى، وإنما يتضمن التمييز ما بين الحركات الإبراهيمية نفسها: فحركة "أولستر" الپروتستانتية في شمال أيرلندة، وحركتا "كاخ" و"غوش إمونيم" في إسرائيل، و"حماس" في فلسطين، وحركة مسيحيي جنوب الهند، هي حركات إبراهيمية وتوفيقية في آنٍ معًا، نظرًا إلى انخراطها في نزاعات ذات طبيعة قومية وإثنية. وهذه الحركات لم تكن دائمًا توفيقية، وإنما كانت حركات "المنطقة الأجنبية"، وقد وجدت في العامل الإثني أو القومي وسيلة لازدهارها، بل لتبرير وجودها، في سياق نزاع بلادها وطوائفها مع طوائف وبلدان أخرى. وإنها لمن الممكن أن تعود إلى سيرتها الأولى إذا ما انفضَّ مثل هذا النزاع. فلكلِّ حركة أصولية تاريخها الخاص في مواجهة خصومها، سواء كانوا المجتمع الحديث أم الدولة العَلمانية أم الطوائف الأخرى أم العدو القومي؛ وهو تاريخ أبعد ما يكون عن الامتداد الخطِّي. بيد أن هذا الأمر يصدر، أول ما يصدر، عن خصائصها العامة والمشتركة. فعلى الرغم من أن الحركات الأصولية تصر على التمييز ما بين مدارها، المفترَض أو الفعلي، وما بين بقية العالم، إلا أنها بطبيعتها انتقائية، مما قد يودي بهذا التمييز. فهي انتقائية على المستوى الإيديولوجي، تختار ما يروقها من التراث أو التقليد الديني الذي تنبثق منه أو تنشق عنه؛ وكذلك تنتقي ما تحتاج إليه من السبل والمناهج الحديثة. وهذا ما يدل على أنها مستعدة للانضواء في مؤسَّسات العالم الذي تزعم ازدرائه والتنديد به إذا سنحت لها الفرصة؛ وهو ما برهنت عليه مسيرةُ العديد من الحركات الأصولية التي انقلبت من سبيل المواجهة التحريضية والعنفية إلى الحوار والتفاوض، بل المشاركة في السلطة في بعض الأحيان. إلى ذلك، فإن الدور المهم لعامل القيادة في مثل هذه الحركات يجعل تاريخها أشد اعتباطًا. فمن خلال الدور الذي يلعبه القائد يتعين نشوءُ الحركة المعنيَّة ومصيرها، صعودها أو انحدارها. وإذا ما كانت خصالُه الشخصية، علومُه ومهاراتُه البلاغية، فضلاً عن قدرته على التواصل مع مريدين من مختلف الهويات الاجتماعية، تساهم في إنشاء "المنطقة الأجنبية" الأصولية، فإنه من خلال الموقف أو السياسة التي يختار يتحدَّد مصيرُ المنطقة المعنيَّة. وليس من الغرابة أن بعض الحركات الأصولية شهدت كسوفًا بعد موت قائدها. لكن هذا لا يعني أن العوامل الذاتية، سواء كانت خصائص إيديولوجية أم تنظيمية، هي وحدها ما يحدِّد وتيرة توجهات الحركة الأصولية وإستراتيجياتها. فهناك أيضًا، على ما يبيِّن المؤلِّفون، عوامل وحوادث بنيوية، شأن التقليد الديني السائد والتعليم والإعلام وسُبُل الاتصال الحديثة وحجم المجتمع المدني وطبيعة الحركة الاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها المجتمع، فضلاً عما يشهده الوضع الدولي من تحولات. كما لا يمكن إغفال أهمية الحوادث الطارئة: فهزيمة عسكرية وسياسية من نحو هزيمة 1967، أو أزمة اقتصادية كتلك التي ألمَّت بالجزائر في منتصف الثمانينيات، أو حتى تدهور صحة زعيم سياسي كما حدث لشاه إيران عشية وقوع الثورة الإسلامية، أو غيرها من حوادث تأتي وليدة الحظ والمصادفة، قد تحدِّد وتيرة توجهات الحركة الأصولية ومسار تقاطُعها مع العالم المحيط. ويميز مؤلِّفو الكتاب أربع وتائر لتوجهات الحركات المذكورة: وتيرة الحركة الغازية للعالم، وتيرة الحركة الخالقة للعالم، وتيرة الحركة المغيِّرة للعالم، ووتيرة الحركة الناكرة له. لكن هذا، على أية حال، لا يعني أن لكلِّ حركة وتيرةً واحدةً تحكم مسارها من البداية حتى النهاية: فالحركة التي قد تنطلق في سبيل غزو العالم قد تجنح، في مرحلة لاحقة، إلى وتيرة تغيير العالم أو تحويله بوسائل سياسية شرعية، كما يتضح من مسيرة حركة مثل "غوش إمونيم"، أو العكس، كما حدث في تاريخ حركة "الإخوان المسلمين" أو "حماس". وغالبًا ما تنهج الحركات الأصولية سبيل خلق عالمها البديل؛ لكنها تبعًا لما تظفر به من نجاح، قد تسلك سبيل الهداية إلى منهجها وملَّتها، كما حدث للجماعات الأصولية الپروتستانتية في الولايات المتحدة. وهناك من الحركات الأصولية ما يجمع في توجهاته وتقاطُعه مع العالم بين وتيرتين مختلفتين، كما هو الأمر في خصوص "جماعة التكفير والهجرة" التي اتَّبعت وتيرة إنكار المجتمع باعتباره "جاهليًّا"، غير أنها، في الوقت نفسه، لم تكف عن الإغارة عليه. والوتيرة التي قد تحكم مسيرة حركة أصولية ما، في وقت من الأوقات، تحدِّد إستراتيجيتها السياسية على وجه قد يؤدي إلى صعودها في سياق سياسي ما وانحدارها في سياق آخر. فبعض الحركات التي اتبعت وتيرة غزو العالم، في إطار سياسة غير ديموقراطية، ظفرت بالنصر مرة، كما حدث في إيران، وبالهزيمة مرات، على ما يتضح من تاريخ "الإخوان المسلمين" في سورية و"حزب الدعوة" في العراق و"التكفير والهجرة" في مصر. ولئن ظفرت بعض الحركات ذات الوتيرة التعليميةِ والتبشيريةِ المسار بالنجاح في البلدان الديموقراطية، فإن هذا النجاح بالذات هو ما أوهى حدودها وشتَّتها وأفضى ببعضها إلى الانكفاء على مسار تحكمُه وتيرةُ إنكار العالم وشجبه، كما حدث لبعض الحركات الأصولية في الولايات المتحدة. ولقد ازدهرت "حماس" في اتِّباعها وتيرة غزو العالم في إطار الصراع القومي ما بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل، في حين أدى اتِّباع حركة معادية، من نحو "غوش إمونيم"، للوتيرة نفسها، وفي السياق السياسي ذاته، إلى انحدارها. ونظرًا إلى الدينامية التي تَسِمُ مسارَ بعض الحركات الأصولية، فإن الوصف الدقيق للوتائر التي حكمت توجهاتها وأمْلت إستراتيجياتها السياسية يتطلب جهدًا أبعد في تتبُّع مسار كلِّ حركة على حدة. وهذا لا يعني أن مؤلِّفي الكتاب أخفقوا في تقديم دراسة دقيقة لبعض أهم جوانب الحركات الأصولية. فثمة هنا جهد تحليلي دؤوب ومنهجية صارمة، بما يجعل الدراسة أعمق من محاولة إلمام فضفاضة بطبيعة الحركات الأصولية وتاريخها، بما يجيز جمعها في إطار ظاهرة عالمية واحدة. وهي لئن أفلحت في التشديد على أوجه الشبه العائلية ما بين مختلف الحركات الأصولية، بيَّنت أيضًا أوجُه الاختلاف العديدة. وهذا ما يجيز لنا الخلوص إلى أن الظاهرة المعنيَّة معقَّدة، متغيِّرة، عصيَّة على الوصف أو التصنيف، على الرغم من الاستعانة بعدد كبير من المفاهيم والمقولات التحليلية. والأبعد من ذلك أنه يجيز الخلوص إلى أن من المحال ابتكار سياسة واحدة تصلح لمواجهة هذه الحركات مجتمعة في أيِّ وقت. لكن إذا ما صحَّت مثل هذه الخلاصة، فما جدوى الإصرار على وجود ظاهرة أصولية متصلة على وجه عالمي؟ بل ما معنى محاولة العقلنة، العالمية الافتراض، لظاهرة تتمنَّع على العقلنة إلاَّ على وجه طارئ ومحلِّي؟! *** *** ** تنضيد: نسرين أحمد [*] Gabriel A. Almond, R. Scott Appleby & Emmanuel Sivan, Strong Religion: The Rise of Fundamentalisms Around the World, The University of Chicago Press, Chicago, 2003, 281 pp.
|
|
|