ثقـافـة أوروبـا وبـربـريَّتـها
... الطـريـق إلى العـولمـة

 

نبيـل منصـر

 

صَدَرَ لإدغار موران، عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، صاحب نظرية التعقيد la complexité وإستراتيجية الفكر المركَّب la pensée complexe وأحد المنظِّرين للمقاربة العِبْرمناهجية la transdisciplinarité، كتابان مترجَمان: الأول بعنوان الفكر والمستقبل[1]، وهو ترجمة لكتابه مدخل إلى الفكر المركب[2]، والثاني بعنوان ثقافة أروبا وبربريتها[3]، وهو ترجمة لكتابه الصادر عن منشورات بايار[4]. والكتابان معًا يضيئان فكر فيلسوف عنيد، يُعمِلُ مبضعَ النقد والتشريح في جسد الثقافة، ليكشف عما يكمن خلف بداهة مفاهيمها وتصوراتها ونزعتها التبسيطية المريبة من عناصر التعقيد التي تفرض على الفيلسوف التسلح بمعرفة متشعِّبة، تستدعي عناصرَها الاستدلالية من العلوم الفيزيائية والبيولوجية ومن الآداب والتاريخ والعلوم الإنسانية جميعًا[5].

غلاف الطبعة الفرنسية من مدخل إلى الفكر المركب

غلاف طبعة توبقال من مدخل إلى الفكر المركب

وهذه الإستراتيجية التركيبية في النقد والتحليل هي التي انتهجها موران في جلِّ أعماله. غير أنه في كتابه هذا يوغل أكثر في قراءة مغايرة لتاريخ الثقافة الأوروبية، في محاولة منه للكشف عن «بربريتها» التي اتخذت أبعادًا أكثر خطورة في القرن العشرين. ولا بدَّ من التذكير، في البداية، أن المقالات الثلاث المكوِّنة لمتن الكتاب هي، في الأصل، محاضرات أُلقِيَتْ في «مكتبة فرانسوا ميتران» الوطنية بباريس إبان العام 2005.

غلاف الطبعة الفرنسية من ثقافة أوروبا وبربريتها

غلاف طبعة طوبقال من ثقافة أوروبا وبربريتها

يبدأ إدغار موران محاضرته الأولى، «بربرية أروبية»، بتقديم لمحة مختصرة عن «أنثروپولوجية البربرية الإنسانية»، انطلاقًا من فرضية تركيبية تعتبر «الإنسان العاقل» Homo sapiens قادرًا، في الآن نفسه، على «الهذيان والحمق»، و«الإنسان الصانع» Homo faber قادرًا على «إنتاج أساطير لا تُحصى»، مثلما أن «الإنسان الاقتصادي» Homo economicus يمكن له أن يكون «إنسان اللعب والإنفاق والتبذير». وهذا التعقيد الدَّامِج لخصائص إنسانية «متناقضة» يضيء لإدغار موران الطابعَ المُركَّب لـ«البربرية الإنسانية»، حيث يوجد «الحمق المنتج للهذيان والحقد والازدراء» والإفراط والمغالاة. وإذا كان هذا «الحمق» يجد ترياقه في «العقل»، فإن هذا الأخير لا يخلو مفهومُه من التباس؛ لذلك يذهب موران إلى أننا عندما نعتقد أنفسنا «داخل العقلانية» لا نكون، في واقع الأمر، إلاَّ «داخل العقلنة»، بما هي «نسق منطقي... يفتقد للأساس التجريبي الذي يسمح بتبريره».

يميِّز إدغار موران، ضمن تصوُّره الأنثروپولوجي للبربرية، بين ثلاثة مجتمعات تفصح عن النموِّ المتصاعد للفكرة والسلوك البربريين:

1.    هناك «المجتمعات الأولى»، التي تتكون من بضع مئات من الأفراد «تعاطوا للصيد وجني الثمار»؛ وهي مجتمعات «أنتجت تنوعًا هائلاً في اللغات والثقافات والموسيقى والطقوس»، وعبَّرت عن اكتفائها الذاتي، ولم تكن في حاجة إلى غزو أراضي غيرها، على الرغم من كونها خبرت حروبًا محلِّية، وربما اغتيالات.

2.    وهناك «المجتمعات السحيقة في القدم»، الخاضعة لـ«رابطة الأخوة» و«أسطورة الجدِّ المشترك»، التي جعلتْها أقل عدوانية وبربرية؛ وعن هذه المجتمعات انبثقت الحضارات الكبرى «التي تضم آلاف، بل ملايين الأفراد الذين يتعاطون للفلاحة ويبنون مدنًا ودولاً وجيوشًا ويطوِّرون التقنيات بوفرة».

3.    ثم هناك «المجتمعات التاريخية» التي ارتبطت بسلطة الدولة وبالغلوِّ الجنوني الذي دفعها إلى القيام لغزوات لضمان «الحصول على المواد الأولية أو احتياطات المئونة»، كما دفعها إلى ممارسة عمليات الإبادة والتخريب والسلب والاغتصاب والاسترقاق. ويربط إدغار موران تاريخ هذه المجتمعات بتاريخ الحروب التي «لم يهدأ لها ساكن»؛ لكن هذا التلازم لم يمنعه من ملاحظة أنها مجتمعات «أنتجت، إلى جانب البربرية، ازدهار الفنون والثقافة وتطور المعرفة وظهور نخبة مثقفة».

ويورد إدغار موران أمثلة متنوعة عن تطور النزعة البربرية الأوروبية، بدءًا من «العصر القديم» لدى الإغريق والرومان، وصولاً إلى «العصر الحديث» مع تشكُّل «الأمم الأروبية الحديثة: إسبانيا، فرنسا، البرتغال، إنكلترا». وفي ذلك كلِّه، يؤكد موران على تلازم مستعصٍ بين الحضارة والبربرية، جعل أوروبا تختبر كلَّ «أشكال البربرية الخاصة بالمجتمعات التاريخية»، كالتعصب الديني، والتطهير العرقي، وتصفية المجتمعات الصغيرة العريقة، والاسترقاق، والاستعمار، ونشر الأمراض.

هناك خمسة قرون من «البربرية الأروبية» لم تخلُ، برأي موران، على ضراوتها، من «مفعولات حضارية»، نَتَجت منها «اتصالات خلاقة» و«امتزاجات بين الثقافات». وإذا كان من الصعوبة الحسمُ في جوهرية الخصائص الإيجابية أو عَرَضيَّتها، فإن هذا الواقع ينبغي أن يدفع، برأي موران، نحو «التأكيد على التعارض والتعقيد الملازمَين لتحديد ما ينتمي للبربرية وما ينتمي للحضارة».

غلاف طبعة توبقال من كتاب جاك دريدا وإدغار موران وآخرين المصالحة والتسامح وسياسة الذاكرة

في المحاضرة الثانية، «الترياقات الأروبية»، يكشف إدغار موران عن الكنوز المطمورة في الثقافة الأوروبية التي تشكِّل «مضادات واقية» في إمكانها أن تكشف ليس فقط عن الوجه الآخر للحضارة الأوروبية، وإنما أيضًا عن أحد عناصر الترياق الكفيلة ببعث الروح في فكرة الأخوة الإنسانية. وهذا النقد المتفائل يرتبط، في الواقع، بأطروحة الفكر المركَّب التي يصدر عنها موران والتي تجعله يقول بوجود متزامن لـ«فكر عقلاني تقني وعملي، وفكر سحري وأسطوري ورمزي» في المجتمعات كلِّها، حتى البدائية منها.

وعناصر «الترياق» يجدها إدغار موران في «النزعة الإنسية الأروبية» التي بدأت تتكون إبان النهضة، لكن جذورها الأولى تعود، برأيه، إلى اليهودية والمسيحية، حيث «الإنسان هو صورة عن الله، وحيث يتجسد الله في الإنسان». وهو التصور الذي أدى، برأيه، إلى «احترام الحياة الإنسانية»، لكنه قاد أيضًا إلى «النزعة الساذجة المتمركزة حول الإنسان»، التي غدت «مصدرًا لجنون العظمة». إن «روح الأخوة» ستنبثق من المنبع الديني المسيحي، لتنضم إلى المنبع الثاني المتمثل في العقلانية اليونانية، وبذلك «سيرتبط العاطفي بالطابع الجليدي للعقلانية لتشكيل النزعة الإنسية الأروبية».

عولمتان... إسبانية ثم أمريكية

يميِّز إدغار موران، في هذه النزعة، بين وجهين:

1.    الوجه الأول الوهمي، أو «الهاذي»، الذي يجعل الإنسان «الذات الوحيدة في الكون ويخصُّه بمهمة غزو العالم. إنها المهمة التي يسندها ديكارت للعلم: جَعْلُ الإنسان سيدًا ومالكًا للطبيعة». وهي المهمة التي سيستأنفها فلاسفةٌ آخرون، إلى أن تصل لحظة الانفجار ابتداءً من العام 1970، عندما أدرك الجميع أن السيطرة على الطبيعة تقود إلى «تدهور المحيط الحيوي»، وبالتالي إلى «تدهور الحياة والمجتمع الإنسانيين».

2.    ثم هناك الوجه الثاني، الذي ينبغي أن نتجه إليه في النزعة الإنسانية والذي يفرض «احترام جميع الكائنات الإنسانية، أيًّا كان جنسها، عرقها وثقافتها وأمتها». لكن المؤسف أن الغرب الأوروبي جعل هذه النزعة الإنسية تقتصر على المنتسبين إليه، وأقصى منها الشعوب الأخرى المختلفة التي اعتبرها بدائية وبربرية ولم يجد فيها أبدًا «فرصة للاغتناء والمعرفة».

إن التأمل المركَّب لتاريخ أوروبا يقود إدغار موران إلى إقرار فكرتين مركَّبتين:

1.    تتمثل الأولى في اعتبار أوروبا مقرَّ السيطرة والغزو، فيما هي أيضًا فضاء تشكُّل الترياق، أي «الأفكار التحررية» المستلهَمة من النزعة الإنسية.

2.    وتتمثل الفكرة الثانية في السيرورة التي يسمِّيها بـ«العهد الكوني» [العالمي]، التي بدأت، برأيه، بغزو الأمريكتين والطواف البحري للملاحين البرتغاليين والإسبان حول الكرة الأرضية. وبقدر ما كانت هذه السيرورة مرتبطة ببربرية الغزو والاستعباد كانت تحمل، برأيه، «بذور القضاء على الاستعمار والتخلص من الاستبعاد» أيضًا.

إن العولمة الثانية (الأمريكية)، مهما بدت مختلفةً عن العولمة الأولى (الإسبانية)، فهي تحمل، برأي المحاضر، «الآمال التحررية للبشرية». وهذه النزعة التفاؤلية لا تخفي، مع ذلك، قلق موران العميق حيال الأرض–السفينة الفضائية التي «تسير اليوم بأربعة محركات: العلوم، التقنية، الاقتصاد، والربح». وهذه «المحركات» تجعلها منقادة نحو «كوارث من دون أن يتمكن أحد من التحكم فيها».

يخصِّص إدغار موران محاضرته الثالثة لـ«التفكير في بربرية القرن العشرين»، فيشير، في البداية، إلى بربرية ارتبطت بفكرة «الأمَّة»، ظهرتْ في نهاية القرن الخامس عشر، ويعود إليها هذا الهوسُ بالتطهير والنقاء والصفاء الديني والإثني الذي سيتحكم في كثير من نزاعات القرن العشرين وحروبه، ولاسيما مع ظهور الأنظمة التوتاليتارية، الفاشية والنازية: إذ لم يخلُ النظام الستاليني، بدوره، من بربرية التطهير التي مسَّت العقول المختلفة وجعلت الدولة مجرد أداة في يد الحزب الحاكم.

هيروشيما

إن الوعي ببربرية أوروبا يقتضي، برأي إدغار موران، «المطالَبة بإنسية جديدة»، تتم عبر الاعتراف بجميع الضحايا، بحيث لا يُقرأ تاريخ المأساة الإنسانية فقط انطلاقًا من معاداة السامية، وإنما يشمل كذلك السود والغجر والأرمن وسائر جغرافيات الاستعمار الغربي، من دون نسيان الفظاعة النووية الأمريكية في هيروشيما. فحتى لا تبقى أوروبا أسيرة وعي شقي، لا بدَّ من أن «يُدمَج في وعي البربرية الوعيُ بأن أروبا تنتج، عبر الإنسية، الكونيةَ [العالمية] والتطورَ التدريجيَّ لوعي عالمي، كما تُنتج ترياقَ بربريتها الخاصة».

كتاب نفيس، يجمع بين الفكر العِبْرمناهجي transdisciplinaire النافذ وبين الهم الإنساني الكبير.

الدار البيضاء

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] إدغار موران، الفكر والمستقبل: مدخل إلى الفكر المركب، بترجمة أحمد القصوار ومنير الحجوجي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2004.

[2] Edgar Morin, Introduction à la pensée complexe, ESF éditeur, Paris, 1991.

[3] إدغار موران، ثقافة أروبا وبربريتها، بترجمة محمد الهلالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2007.

[4] Edgar Morin, Culture et barbarie européennes, Éditions Bayard, Paris, 2005.

[5] جدير بالذكر إنه سبق أن صدر لإدغار موران كتابُ روح الزمان، الجزء الأول: "العُصاب"، بترجمة أنطون الحمصي، منشورات وزارة الثقافة في الجهورية العربية السورية، سلسلة

"دراسات فلسفية وفكرية" 20، 1995؛ وكذلك كتابٌ مشترك يضم دراسات لجاك دريدا وإدغار موران وحنَّة أرندت بعنوان المصالحة والتسامح وسياسة الذاكرة، بترجمة حسن العمراني، دار

توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2005. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود