|
الحوار
بين الأديان حوار
يحتاج إلى حوار! حوارات
غالبًا ما تنتهي بـ"بوس الذقون"
وبالعبارات المكررة حول التسامح والاحترام
المتبادل، حوارات تنتهي بالإجماع الوهمي على
القيم المشتركة الإيمانية وعلى ضرورة مواجهة
هجمة تشكيك الملاحدة الماركسيين واللادينيين
في الإيمان – ثم يعود المشاركون كلهم إلى
قواعدهم سالمين غانمين! دائمًا تُحذَف
القضايا الحساسة من جدول الأعمال، فلا يُبحَث
فيها تجنبًا للفتنة، "لعن الله مطلقها"!
يلفون ويدورون، ولا يجرؤون على فتح الملفات
المدشَّنة تاريخيًّا منذ زمن. فهل "الاحترام
المتبادل" يقتضي المجاملة في قضايا فكرية
بهذا الحجم؟! أم أن "الاحترام المتبادل"
و"المشترَك الإنساني" يجب أن ينعكس في
رؤية جديدة وإصرار على فتح الملفات الشائكة،
كبداية لإقامة حوار إبداعي منتج؟ الأديان
التاريخية السماوية ثلاثتها تختصر
الحقيقة من خلال مقولات "الدين الحق" و"الفرقة
الناجية": نحن المؤمنون والبقية كفار، نحن
أهل الجنة والبقية أهل النار! هذا التصور
القروسطي لا يتماشى مع المصالح الحيوية
للعصر، ولا يقدر على مواكبة العولمة الثقافية.
وغالبًا ما يستغل هؤلاء العقائديون صراعات
الإمبراطوريات الكبرى أو تستغلهم لإذكاء نار
الحرب المقدسة، مما يؤدي إلى بقاء الصراعات
المزمنة فاعلة، وبما يعرقل مشروع العيش
المشترك ويعيق إقامة مجتمع مزدهر؛ بل قد
تنتهي "نضالات" هؤلاء العقائديين إلى
تشكيل "كانتونات" وإمارات إسلامية غير
قادرة على التعايش وسط عالم غير مؤمن. إن ممثلي
الأديان التاريخية السماوية الثلاثة
يقرون بأن حرية الضمير والتسامح والمحبة
والرحمة والدعوة "بالتي هي أحسن" هي من
مقومات الدين، ولكنهم: 1.
يتنافسون
في تأكيد أسبقيتهم وأحقية كلِّ واحد منهم في
القيم التوحيدية والأخلاقية: هؤلاء
يقولون إن التسامح لدينا أكثر، وأولئك يقولون
إن التوحيد لدينا أنقى! 2.
يتغاضون
عن النصوص التي لا تتماشى مع قيم التسامح
والمحبة وحرية الضمير أو يلجئون إلى التخفيف
من حدة لهجتها، فلا يعرضون إلا بضاعة المحبة
في هذه الحوارات. أما ثقافة الكراهية والقتل
ورفض الآخر فهي ليست للتصدير الخارجي؛ إنها
بضاعة وطنية نكثِّرها عند اللزوم! وجميعنا يعلم،
أو هو في حاجة إلى التذكير، أن هذه القيم
الأخلاقية الكبرى، في صيغتها المُقَونَنة،
هي من منتجات الحداثة وعصر التنوير الأوروبي،
لم تنتجْها مجتمعاتُ الكتاب، إسلامية
ومسيحية ويهودية، قبل عصر التنوير. وأعتقد أن
مجرد محاولتهم تأصيل هذه القيم وإلباسها
لبوسًا دينيًّا أو ادعاء أسبقيتها هو أمر
إيجابي ودليل شعور ممثلي هذه الأديان بالنقص
والفوات، مما حرضهم عل تبنِّي هذه القيم بنسب
متفاوتة، مع مشكلات أوضح في الإسلام مثلاً.
وأضحى ممثلو الأديان ينقبون في تراثهم عن
جذور للحداثة ليدَّعوا أن دينهم هو دين
الحداثة والعلم: فكل
ما هو إيجابي له جذور في اللاهوت الديني
والكتاب المقدس. *
* * هل
يستطيع المسلمون أن يقرأوا الأناجيل والعهد
القديم خارج إطار النظرة التقليدية
المرسَّخة عبر المماحكات والجدالات
التاريخية التي تنظر إلى الأناجيل والعهد
القديم ككتب مزوَّرة عن نسخ أصلية، وقد أكد
الله عبر قرآنه ذلك وكشف جريمتهم التاريخية
التي لا تُغتفَر! إن هذه النقطة بالذات قنبلة
موقوتة قادرة على تفخيخ جسور الحوار بين
المسلمين والمسيحيين كلها وعلى نسفها. إذ كيف
أحاور الآخر وأنا أتهمه بالتزوير أو بأنه
يتبع كتابًا مزورًا؟! – كيف أحاوره وأنا بذلك
أشكك في ملكاته العقلية ونزاهته وأخلاقياته؟! وعلى الطرف
الآخر من الجسر، كيف يحاوَر أناسٌ يحصرون
الخلاص في الكنيسة، يقولون بالخلاص الحصريِّ
على يد الإله المتجسِّد يسوع المسيح، ولا
يعترفون بأيِّ وحي سماوي بعد المسيح، ناظرين
إلى محمد كمختلقٍ ومُدَّعٍ؟! إن الخطوة
الأولى في إقامة الحوار هو الاعتراف بالآخر.
وهذا يعني، في الحالة المسيحية–الإسلامية،
اعتراف كلِّ طرف بالكتاب المقدس لدى الطرف
الآخر، والنظر إليه على أنه كتاب يحظى بقداسة
لدى مجتمعات وأناس عديدين، وبأن هذه القداسة
تشترك في الجذر التوحيدي مع قداسة الأطراف
جميعًا. *
* * ولكن
هل تنتهي الحوارات الإسلامية–المسيحية عند
التركيز على القيم الإيمانية والأخلاقية
المشتركة للإيمان بالإله نفسه؟ قطعًا هذا لا
يكفي! إن المجتمعات
الإسلامية، باعتبارها المجتمعات الأكثر
تخلفًا، تنتج دراساتٍ دينيةً أكثر انغلاقًا
وتخشبًا، لا تزاول غير منطق التبجيل والتكرار.
ولذلك كانت المجتمعات الغربية هي الأقدر على
صعيد نقد الظاهرة الدينية، بمذاهبها
وفِرَقِها المختلفة، بما فيها المسيحية –
ذلك أن نقد المسيحية لا يشكل لديهم محرَّمًا
وجُرمًا يستحق الاستهجان والعقاب. ينبغي تحرير
الإيمان من الرداء الكهنوتي، بألوانه
وتفصيلاته المختلفة، الإسلامية والمسيحية
واليهودية. فتحرير الإيمان من "المالكين
الحصريين" و"الوكلاء المتطوعين" يعطي
الإيمان قوةً هائلةً بوصفه إيمانًا يليق بنا
كبشر وكأناس متساوين أحرار، لا مجرد روبوتات
وشخصيات كرتونية يتحكم بها الإلهُ الذي يلعب
دائمًا دور المُخرج. فالإيمان الاعتباطي،
المتحرر من القانون والقائم على القهر
والعبودية، هو إيمان الأغبياء؛ والإيمان عبر
دكاكين الكهنة والإيمان الأوتوماتيكي بهذه
الصيغة له آثار جانبية ضارة أكثر من فوائده
المحتمَلة. أن تكون مؤمنًا
وفق الطريقة الإسلامية – هذا جميل؛ أو أن
تكون مؤمنًا وفق الطريقة المسيحية أو
اليهودية – هذا جميل أيضًا. لكنْ فلنغلِّب
الإيمان على "طريقة" الإيمان، ولنترصد
شكل الإيمان وانعكاساته على علاقتنا مع
الآخرين. فالإنسان أولاً، والإيمان الذي
يرتقي بالإنسان ثانيًا. وطريقة الإيمان أو
سبيله أو مذهبه عندئذٍ لن يشكل عائقًا
حقيقيًّا إذا انطلقنا من مقولة بسيطة، هي أن
الله خلق الدين لخدمة الناس، ولم يخلق الناس
لخدمة الدين أو لخدمة الله – فالله غني عن
العالمين! العلاقة بين
المسلمين وغير المسلمين يجب ألا تكون
مرجعيتها النصوص المقدسة وحدها؛ ذلك أن هذه
النصوص لا يمكن تجريدها من السياق التاريخي
لنزولها. فإذا قمنا بسلخ هذه النصوص عن
تاريخيَّتها وقعنا في إشكالية الدلالات
المتناقضة للنصوص التي تتكلم على علاقة
المسلمين بغير المسلمين، على سبيل المثال.
أما إذا أخذنا بنظرية "الناسخ والمنسوخ"
فذلك يؤكد لنا أن تغير الظروف والواقع
الاجتماعي والمصالح يؤدي إلى ولادة نصوص
مقدسة جديدة تأخذ هذه المتغيرات بعين
الاعتبار. فعلاقة المسلمين بمُشركي قريش في
مكة تختلف عن علاقتهم بهم في يثرب، والعلاقة
مع اليهود في بداية المرحلة المدنية تختلف عن
العلاقة معهم في المرحلة المدنية المتأخرة.
فكيف لنا أن نقوم بسحب فعالية هذه النصوص على
ظروف وواقع ومصالح اجتماعية مختلفة؟! هل هناك صيغة
محددة وتصور واحد يحكم علاقة المسلمين
واليهود في عصر النبوة، وعلاقة المسلمين
واليهود في بيت المقدس ("العهدة العمرية")،
وعلاقة المسلمين واليهود في أندلس القرن
العاشر الميلادي، وعلاقة المسلمين واليهود
في فلسطين قبل الاحتلال الصهيوني لفلسطين أو
بعده، أو علاقة الجالية الإسلامية مع الجالية
اليهودية في مدينة برلين مثلاً. وهل نحتكم إلى
قوانين البلد المضيف، أم نطبِّق قوانين
الشريعة الإسلامية في الحقبة المدنية أم
الراشدية أم الأموية أم الفاطمية أم
العثمانية، أو نطور صيغة أو صيغًا أخرى؟ إن
ذلك من التعسف بمكان. فلكلِّ علاقة محدداتُها
وامتداداتُها السياسية والاقتصادية
والاجتماعية المختلفة والمتبدلة. وهل صيغة
قتل/جزية/إسلام مازالت قابلة للتطبيق وعادلة
ومقبولة؟! وكيف نتعامل مع الأديان الأخرى غير
السماوية (غير التاريخية أو "الطبيعية"،
كما تُسمَّى أحيانًا)؟! كلها أسئلة على
المتحاورين المفترَضين الإجابة عنها –
وأنَّّى لهم الإجابة؟! ***
*** *** *
طبيب
وكاتب وشاعر سوري؛ إيميله: hamza005@scs-net.org. |
|
|