الأدب ميدانًا لـ"تهريب" الفلسفة

قصص الصغار أرقى قمة في الأدب

 

لقاء مع ميشيل تورنييه

 

في العام 1970 نال الكاتب الفرنسي ميشيل تورنييه جائزة غونكور على كتابه ملك شجر الماء[1]. وهو منذ روايته الأولى جمعة أو يمبوس الپاسيفيكي[2] يبتكر أساطير جذابة ذات خلفية فلسفية وأخلاقية يدعي أنها للمراهقين، ملوحًا بمغازيها للراشدين.

دانييل دوفو (1660-1731)، الروائي والشاعر البريطاني، كان وحيه الأول في أعقاب الصدمة التي تلقاها مراهقًا من كتابه روبنسون كروزويه. فلقد وجد فيه ميشيل تورنييه معلمًا في البناء السردي ومبدعًا في جمعه بين الأساطير والحقيقة. وقد انتظر صدمة أخرى تشتعل من ذاته ليصبح دورُه كاتب أسطورة مطعَّمة بالإدراك الفلسفي. وهذه لم تأتِه إلا في سنٍّ متأخرة، وكان بلغ الثانية والأربعين، جامعًا بين الثقافتين الفرنسية والألمانية، مصغيًا إلى من سبقوه – كتَّابًا وشعراء – على هذه الدرب التي بدأ يستقي منها إلهامه ويستعير الشخصيات ليعيد بناءها من وجهة نظره التحليلية الفلسفية والأنثروپولوجية في أسلوب الحكواتي الذي يستميل إليه الصغار لعلَّه يكسب الكبار.

زيارته إلى بيروت، حيث منحه رئيس الجمهورية وسام الأرز، أرادتها "منشورات حاتم" والمركز الثقافي الفرنسي إجازة لطلاب المدارس في مركب ميشيل تورنييه وقصصه المثيرة. وكان أول لقاء لهم معه في المركز الثقافي الفرنسي، حيث طرحوا عليه أسئلتهم الجاهزة، متلقفًا كلَّ سؤال ومجيبًا عنه بذكاء لا يخلو من المرح. وتكرر اللقاء مع مدارس أخرى في قاعة كنيسة مار إلياس في أنطلياس وطرابلس وصيدا.

في لقائي الأول معه، جلست بين جيل من المراهقين أستمع إليه وأصغي إلى الأسئلة. وقد لفت نظري سؤالٌ أجاب عنه تورنييه بنادرة لا أدري إن وصل معناها إلى الجميع. سألته فتاة: "كيف نفرِّق بين الحقيقة والإيمان والخرافة؟" أجاب: بعدما هبط غاغارين من القمر إثر رحلته الفضائية الطويلة كان خروشوف أول مَن استقبله، فسأله إن كان رأى الله في رحلته السماوية هذه، فأجابه غاغارين: "بلى رأيته." فانتفض خروشوف، وذكَّره بأن الشيوعية لا تؤمن بوجود الله، وبأن عليه بالتالي ألا يكرر ذلك ثانية. واستقبله البابا أيضًا في الفاتيكان، فطرح عليه السؤال ذاته: "هل رأيت الله؟" فأجاب غاغارين: "كلا! كلا!"

* * *

 

مي منسى: ميشيل تورنييه، نلاحظ في جزء كبير من مؤلفاتك أنكَ استعرتَ شخصياتكَ من روائيين سابقين سبقوكَ إلى هذا الأسلوب الرمزي. لِمَ هذا الاتكاء على الأسلاف لإبراز أبعادكَ الذاتية؟

ميشيل تورنييه: الأسطورة تتناقلها الأزمنة، وتتبدل ملامحُها تحت قلم كل كاتب أو شاعر أو موسيقي، وكلٌّ يجدد فيها أو يُمِدها بأبعاد تتلاءم مع الإنسان الجديد كي لا تبقى مكتسية بلباس الماضي العتيق.

م.م.: هل ما كتبتَه من موضوعات تحض الخيال وتدعو إلى السفر آتٍ، في ناحية ما، من طفولتك؟

م.ت.: لم أتوخَّ يومًا كتابة سيرة ذاتية، بل لعلها طبيعتي الخيالية المرتبطة بالأرض، بالحجر، بالكون، شدتني إلى أدب جمالي. ويعود ذلك إلى طفولتي السعيدة التي عشتها مع والدين مثقفين التقيا في السوربون وتآلفا مع اللغات الأجنبية. ومن هنا كان حرصهما على أن أنهل اللغة الألمانية والأدب الجرماني من منابعهما. فلعلي كنت الطالب الوحيد الذي تجرأ ودرس في بلد شاءتْه الحربُ العالمية الثانية عدوًّا لبلدي الأم!

م.م.: حدِّثنا عن تلك الوصفة السحرية التي تحيط بالطفولة بالسعادة...

م.ت.: لا أغالي إن قلت لكِ إني نشأت في قرية صغيرة في منطقة البورغوني الساحرة. كانت الطبيعة أقرباذين جدي، وكنت أتنزه بين الأعشاب الكثيرة التي كان يركِّب منها عقاقيره الحِرَفية. طبخاته الصحية كانت تثير فضولي. حفظت أسماء الأعشاب في فرح وخوف من أسماء بعضها. تصوري كلمتَي Filipendula ulmaria [إكليلية المروج]، وكيف قرعتا في أذن فتى لم يعلم إلا لاحقًا أنهما اسم لدواء ناجع لعسر الهضم [مع الخِطْمِي]. كنت أراقب جدي يَزِنُ في دقة قصوى الملغرامات وأنا أترنح بعطور تلك الكيميائيات الطبيعية.

م.م.: من أي باب سحريٍّ دخل الأدب في حياتك؟

م.ت.: من باب كتاب الروائية السويدية سِلمى لاغرلوف [1858-1940] رحلة نيلز هولغرسون الرائعة عبر السويد، وهو كتاب جغرافيا وضعتْه للأولاد ونالت عليه في العام 1909 جائزة نوبل والشهرة العالمية. كنت في الرابعة عشرة حين قرأته. بهرني مناخُه السحري. فلطالما أحببت السحر وقصصه. إنما ليس أية قصص، بل السحر الذكي الذي يضيء درب القارئ. لذا لم تستهوني أبدًا قصة سندريللا واليقطينة التي تحوِّلها الجنيةُ الطيبةُ إلى عربة ملكية، بل أحببت رحلة نيلز الرائعة.

م.م.: أية دروب أضاءت لك؟

م.ت.: نيلز كان فتى سيئًا وكسولاً. استيقظ ذات يوم ليرى قزمًا في طول الإصبع على وسادته. التقطه وراح يعذِّبه. لكن هذا الساحر المقزم حوَّل الفتى إلى قزم مثله. حجمه الصغير قرَّبه من عالم الحشرات والأشياء. منحه السحرُ مفتاح المعرفة، محولاً إياه إلى طير يجوب البقاع الإسكندنافية للاطلاع على معالمها. نيلز أضحى نموذجي. أوصلني في ما بعد إلى اقتناع بأن القصص المرصودة للصغار هي في القمة الأرقى من الأدب، مثل الأمير الصغير لسانت إكزوپيري وحكايات لافونتين. كما أن قصص الجن والجنيات في أدب شارل پيرُّو [1628-1703] لا تستطيع، بقسوتها وتجاربها، أن تكون مسلكًا للأطفال، بل أجدها في منزلة تراجيديا راسين[3]. فصرخة فيدر ترثي شقيقتَها أريان: "أريان، أختي، من أي حبٍّ جريح [...]" تشبه صرخة أريان، زوجة Barbe-Bleue ["اللحية الزرقاء"]، مستنجدةً بشقيقتها آن: "آن، يا أختي، هل ترين في البعيد شيئًا آتيًا إلينا؟ [...]". والأمثال عديدة في أدب الصغار التراجيدي، كالـPetit Poucet ["عقلة الإصبع"]، وكلها تحليل للشذوذ الأبوي والفقر والفراق المماثِلة لمعاناة مدام بوفاري المنتظِرة أمام نافذتها، أو في انتظار غودو. وعلى هذا النحو أحدد أدب الصغار.

م.م.: ذكرت في محاضرتك حلمًا راودك ولم تستطع العلوم الفلسفية تحقيقه...

م.ت.: في السابعة عشرة اكتشفت الفلسفة، وكانت صرخة فكرية بنظري. قررت الانصراف إليها في منحاها الكلاسيكي، ولا أزال أستقي من تعاليمها، لا كما تدرَّس اليوم بالإبهام والضلال عن دربها الصحيحة. نهلت الفلسفة من ينبوعها الألماني، وتابعت طوال أربع سنين التوغل فيها في فرنسا، لتأتي نتائج الامتحان فتُعلِمني برسوبي فيها! ذاك ما جعلني أعدل عن حلمي، فأدخل مجال البث السمعي. وكنت مكلفًا أن أحمل مسجلتي وأطوف بين أصحاب العلوم والفلسفة والكتَّاب والشعراء، أسألهم واستوضح آراءهم. ظننت نفسي قادرًا على تعويض فشل ماضٍ بأسئلة ذكية تضاهي أجوبة أولئك المفكرين. بعد سنين، أذكر أني أدرت زرَّ جهازي في ساعة متأخرة من الليل، فسمعت بالمصادفة صوت معلِّمي غاستون باشلار، هذا الفيلسوف الذي راح يشرح شروط المعرفة العلمية ويحللها، ومحاورُه يحاول عبثًا أن يزجَّ في الحديث بـ"ثورتَه" الفكرية. في منتصف الحديث، تذكرت أن هذا المحاور "الأهبل" كان أنا!

م.م.: وهل أغنى الإعلام السمعي طموحاتك؟

م.ت.: في العام 1954، أدخلت إذاعة وتلفزيون Europe 1 مادة الإعلان، وكان على رأسها لويس ميرلان، وكان عليَّ أن أعرِّف بسلع تجارية، كالجوارب والعطور والألبسة الداخلية. وكان ميرلان يبدي لي دومًا عدم رضاه من عملي ويكبِّلني بتوبيخاته، إذ لم أكن قادرًا على تحقيق أحلامه. لكنه لم يعلم أنه يهيِّئني للنجاح. فالتجارب القاسية أمدَّتْني بالخيال، ولاسيما عندما تحولتُ من مروِّج للبضاعة الإعلانية إلى مجيب عن رسائل القراء في سعي إلى حلِّ قضاياهم. تعرَّفتُ يومذاك عن كثب على مآسي البشر وصرخاتهم الليلية طلبًا للنجدة. أدركت أن لا حدود لأمنيات البشر وخيباتهم. ولا أزال، إلى اليوم، أتلقى رسائل عاطفية جميلة من بعضهم.

م.م.: أي أن برامجك على Europe 1 هي التي وجهتك نحو الكتابة؟

م.ت.: صحيح، إذ غدوت ملمًّا بأحلام الإنسان، بضلاله ويأسه. وبقيت أروي حديقتي السرية بالفلسفة، متنقلاً بين فكر نيتشه وسپينوزا، تاركًا للوقت حريته، حتى أفاق قلمي في الثانية والأربعين على شخصية "جمعة"، ولم أندم على السنين الضائعة. فقراءتي المبكِّرة لـروبنسون كروزويه أعطتني درسًا في النضال والمثابرة والشجاعة من أجل البقاء. كتاب دوفو يرمز إلى السلام الذي يحصده الإنسان بالعمل، كما يرمز إلى ضد الوحدة.

م.م.: لكنك ألقيت الضوء على "جمعة" Vendredi في مؤلفين: جمعة أو يمبوس الپاسيفيكي الذي نلت عليه "جائزة الأكاديمية الكبرى"، وجمعة أو الحياة البرية.

م.ت.: حوَّلتُ من خلال "جمعة" رمز السيد والعبد إلى مساواة. فمن يفهم جيدًا كتاب دوفو يعلم أن اللقاء المقدَّر له بين جمعة، رجل الأدغال، وروبنسون، رجل المدنية، ليس سوى طرح للجور في العلاقات البشرية. أجد من وجهة نظري في روبنسون نفسه ازدواجية بين العبد والسيد.

م.م.: سرقتَ من دوفو رمزه، وسعيتَ إلى تصحيحه إذن. وهو ما كان عنوان محاضرتكَ "الفلسفة المهربة" في مدرَّج مونتيني.

م.ت.: كل ما كتبته عن الصيد والبحر والأرض كان غطاءً لنظرياتي الفلسفية. نجا بطل دوفو من الكتاب، ليصبح رمزًا كالرموز الخالدة التي نتعاطى مع نماذجها، مثل دون جوان الذي جسَّد جانبًا من الوضع الإنساني: الإيروسية، وفاوست: المعرفة، وتريستان: الحب الأبدي.

م.م.: وماذا اصطدت من بحيرة روبنسون؟

م.ت.: التقطت في شبكتي رمزين: العنصرية والمنبوذون. في ضوئهما رأيت ناسًا بلا هوية ومجتمعات تعاني العزلة. وليس أقسى من الوحدة سوى الوحدة التي نعيشها بين الناس!

م.م.: هل تعتقد أن دانييل دوفو سيكون لكَ شاكرًا لو عرف كيف تصرفتَ ببطله؟

م.ت.: بل سيصاب بالذهول! استوليت على رمز دوفو، لأعيد تأهيل جمعة وأعيد كتابته بفلسفة التهريب. أضحى جمعة والحياة البرية تميمتي، أجمل ما صنعت في حياتي! تصوري أنه صدر للمكفوفين بالحرف النافر [براي]. هذا الاعتراف الرائع به يساوي عشر جوائز نوبل لو قدمت إليَّ. فلسفة التهريب هي، في رأيي، الجمالية بعينها.

م.م.: أماندين أو الحديقتان كتاب مصور للأطفال صدر عن "دار حاتم" لمناسبة مجيئك إلى لبنان، مع جزء آخر من مؤلفاتك. إلى أية فلسفة تومئ في هذه القصة الساذجة، برسومها السهلة وكتابتها؟

م.ت.: ندخل في هذه القصة عالمًا ميتافيزيقيًّا نصفُه من الواقع ونصفُه الآخر من فلسفة الوجود. أماندين، الطفلة الهانئة العيش مع والديها في منزل جميل ونظيف وحديقة، تكشف جمال الأزهار وتغامر خلف سور حديقتها لترى الجانب الآخر، فتنقلب البراءة إلى معرفة والسكينة إلى حقيقة حزينة. ألم يقل رامبو: "الحياة الحقيقية هي في غير مكان"؟

*** *** ***

عن النهار، السبت 20 نيسان 2002

أجرت اللقاء: مي منسى


[1] Michel Tournier, Le Roi des Aulnes, 1970.

[2] Vendredi ou les Limbes du Pacifique, 1967.

[3] Cf. Perrault d’Armancour, Contes de ma mère l’Oye, 1697.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود