|
حـيـاة...
مــوت... الحياة طاقة تتجلى في ما لا يُحصى من
الصور والأشكال، مختصةً بالقدرة على
تَعْضِيَة organizing المادة (= منحها
الخاصية العضوية). وحين تنسحب هذه الطاقةُ فإن
التعضِّي organization يتوقف، وتأخذ البنية التي كانت
طاقةُ الحياة تسري من خلالها بالتحلل. هذا ما
يسمِّيه الناس الموت. حين
تسري طاقةُ الحياة من خلال الأشكال يصير
النمو ممكنًا: الغرسة تصير شجرة، الطفل يصير
بالغًا، إلخ. ثم إن النمو يتم بحسب نموذج محدد.
حين يصاب جسمٌ حي بجرح، فتتمزق قطعة لحم،
سرعان ما تبدأ عمليةُ الالتئام. وهذه العملية
تستدعي تكاثر خلايا مختلفة ذات قياس معيَّن
خصيصًا للجزء المصاب من الجسم، حتى يعود إلى
سابق شكله. مثال: إذا فقد ضب ذيله ينمو مكانه
ذيلٌ جديد شكله شكل الذيل المفقود تمامًا. بذا
فإن النمو والتجدد يجريان بحسب نموذج غير
مرئيٍّ موجود سلفًا. لماذا تتفتح كل بذرة عن
نوع مخصوص من الشجر؟ لماذا لا تفقس بيوضُ
العندليب إلا عن عنادل؟ نماذج هذه البُنى
الحية كلها موجودة لا محالة في مكان ما. فأين
هي؟ هل هي موجودة ضمن فطنة الحياة نفسها؟
ربما، لأن هذه الطاقة المُعَضِّية organizing تبدو متميزةً بفطنة خارقة! *
* * إلى
ذلك، حيثما توجد الحياة يوجد
الوعي، لكنْ على مراتب مختلفة، وعلى درجات قد
تزيد أو تنقص تعيُّنًا. الإحساس، أولاً،
شكل من أشكال الوعي. إذ إن حدوث الوعي يفترض
تماسًا مع ما هو "خارج". فعبر هذا التماس
يتم في الداخل استقبالُ نوع من "رسالة"
عن العالم الخارجي. على سبيل المثال، قد يدل
إحساسٌ لمسي على وجود شيء طريٍّ أو خشن في
الخارج. والأحاسيس المختلفة محمَّلة برسائل
مختلفة، من خلالها يتم تلقي انطباع معين عن
العالم الخارجي. وكلما ازداد تعقيدُ الشكل
تعاظمتْ إمكانيةُ الإدراك. الحياة في
متعضِّية organism بدائية واعيةٌ بضعةَ أشياء وحسب؛ أما في
الأشكال المتطورة فثمة اتساع للوعي
وللاستجابة. وحين تكف طاقةُ الحياة عن
السريان ينعدم التماس، فينكفئ الوعي هو الآخر. كما
قلنا، تزداد إمكانية الوعي بتطور الشكل. ومن
المعلوم أن النباتات حتى تتمتع بوعي أكبر مما
كان يُظن ذات يوم. إنها لا تستجيب فقط
للمنبهات الفيزيائية، كضوء الشمس مثلاً، بل
تتجاوب كذلك مع الخواطر والمشاعر. وتبين
اختبارات العالم باكستر أنه حين تخطر فكرةُ
الحرق في بال أحدهم فإن النبتة تلتقطها
وتستجيب؛ وقد تم تسجيل ردة فعلها على مقياس
گلفاني[1].
والنبات أشد حساسيةً من أشكال أخرى أكثر
بدائيةً من أشكال الحياة؛ وبالتالي فإن ردات
الفعل لديه تتنوع أكثر. أما في شكل أعقد وأكثر
تطورًا، من نحو جسم الإنسان، فإن إمكانات
الوعي أعظم بما لا يقاس لأن التماس يتم عِبْرَ
عدة حواس في وقت واحد؛ ومن هذا التماس يتم
تلقي مزيد من الانطباعات عن العالم الخارجي. الوعي
يتخذ أيضًا شكل العاطفة. فالشعور
بالتعاطف حيال شيء ما يمكِّن المرء من
التواصل مع ذلك الشيء. الإدراك الذهني هو
الآخر شكل من أشكال التواصل؛ إنه القدرة على
تمييز غرض من آخر عِبْرَ تعيين خواصه. الوعي
في الكائن البشري يغطي حقلاً شاسعًا جدًّا،
يضم تلاوين الإحساس والشعور والإدراك الذهني. في
مستطاع الوعي الإنساني، كذلك، إدراك "المجردات".
الوعي المحدود لا يستطيع إدراك غير الجزئيات،
وليس الكلِّيات. مثال على قدرة التجريد: الناس
يرون زهورًا مختلفة من حيث الحجم والشكل
واللون، لكنهم يطلقون عليها جميعًا تسمية "زهرة"
لأنها، على الرغم من اختلافاتها بعضها عن
بعض، تشترك في صفة يصح أن نسميها "الزهرية".
لقد تفكَّر الفلاسفة والعلماء، على مرِّ
الأزمنة، في قضية الوحدة التي تنتظم
الموجودات وفتشوا عنها. وقد توصلوا منطقيًّا
إلى وجود الكلِّي المطلق، الأصل غير
المتجلِّي الذي تتأصل فيه المتجليات جميعًا
– "واجب الوجود بذاته" الذي تتأسس عليه
الموجودات كافة والذي يكون الوعي لدى إدراكه
متسنِّمًا ذروته. لكن
وعي وحدة الكلِّي أو المطلق ليس مسألة تفكير،
بل اختبار. إذ إن ثمة أشياء لا يعرفها
العقل إلا باختبارها. من الممكن للمرء أن يعي
كرسيًّا بالنظر إليه وتحديد خصائصه. لكن
معرفة السعادة لا تتم على هذا النحو؛ إذ إن
سعادة أحدهم لا يمكن لها أن تصير سعادة سواه.
فكلٌّ يعرف السعادة باختبارها الشخصي وحسب.
وهو لا يعرفها حقًّا إلا متى كانت الخبرة عميقة
وصرفًا؛ فالسعادة الممزوجة بالإحباط أو
السعادة السطحية ذات الطبيعة المؤقتة لا يجوز
أن تُسمَّى سعادة حقيقية. اختبار
شيء اختبارًا تامًّا يعني اختباره بلا انقطاع.
وإن وعي القيم الأزلية هو معرفة كنه الجمال
والمحبة والسعادة من غير حدود. والخبرة تتوقف
على مدى قدرة طاقة الحياة على السريان الحر من
غير عوائق. فكما أشرنا أعلاه، كلما ازدادت
حريةُ سريان الطاقة تكشَّف الوعيُ عن قدراته
– وضوحًا وحساسيةً وعمقًا وما إلى ذلك. *
* * ربما لم تعد للشكل البشري الحالي،
الذي هو ثمرة تطور ملايين السنين، من حاجة إلى
تطور بيولوجيٍّ ملموس – لقرون قادمة على
الأقل؛ إذ إن الشكل الراهن مازال قيد التطور:
هناك، مثلاً، مساحات واسعة من قشرة المخ
البشري ليست مستعمَلة بعدُ. لقد تنبأ تِلار
دُه شاردان منذ أكثر من ستين عامًا بأن التطور
المقبل للإنسان سيتم على الصعيد النفسي–الاجتماعي،
لا على الصعيد الدماغي–البيولوجي البحت، مما
يعني أن إمكانات الإنسان المقبلة تكمن في
مجال تفتح الوعي[2].
فكما سبقت لنا الإشارة، الوعي هو التماس،
هو تلقِّي انطباعات وعقد صلات. حين يكون الوعي
محدودًا تكون الصلات محدودة هي الأخرى. ولأن
التماس قد يحصل على مستويات مختلفة، بما فيها
مستويا الإحساس والفكر، أو على مستوى الكلِّي
المطلق حتى، فإن الصلات هي الأخرى تختلف من
حيث النوعية والدرجة. فمن يرَ زهرة بوصفها
شكلاً ماديًّا فقط قد يتلفها أو يستعملها
كغرض تجاري. لكن إذا قُيِّض له أن يبصر صفة
الجمال في الزهرة فهو حتمًا لن يؤذيها.
الإنسان الواعي تمامًا بجمال الزهرة لا بدَّ
أن يحبها ويعتني بها. فالإنسان هو "راعي
الوجود"، كما كان يقول هيدغِّر. وعي
الجمال لا يمت بصلة إلى مجرد إدراك المعلومات.
قد نكون على علم بكلِّ معلومة تتعلق بالزهرة،
لكننا لكي ندرك جمالها يجب أن نتعلم الوعي على
مستوى مختلف. غالبية الناس يعتقدون أنهم
واعون الوعي كلَّه؛ لكنهم، إذا اتفق لهم أن
يرصدوا أنفسهم بلا مواربة، لاكتشفوا أنهم "ربع
واعين" وأن جزءًا كبيرًا من حياتهم – إن لم
يكن كلها – ينقضي كأنهم في حلم. فلنوضح بمثال
بسيط: من الممكن لنا أن نصادف صديقًا في
الشارع، فنراه بالعين المادية من غير أن نبصر
مَن رأينا لأن الذهن منشغل بأمر آخر؛ من
الممكن أيضًا أن ننظر إلى حديقة ولا نبصر
شيئًا من جمالها على الإطلاق لأن الذهن شارد
في اجترار تفاصيل خلاف شخصي أو استثمار تجاري.
حين يعبُر خليطٌ من الخواطر والصور من خلال
المخ فإن الإدراك الواعي ينخفض إلى حدٍّ كبير.
والواقع أن جزءًا كبيرًا من حياة الناس مصروف
في حالة مؤسفة من عطالة الوعي أو شروده. وحتى
الذين "يعون" نسبيًّا لا يدركون إلا
جانبًا من الأشياء الخارجية: إن وعي وجود
الحديقة دون الشعور بجمالها، أو الانتباه إلى
جمالها انتباهًا سطحيًّا وحسب، يعني عدم
النفاذ إلى النواة الداخلية بعد. *
* * الصور والخواطر التي تنتأ في الذهن
هي وليدة الماضي. غير أن الوعي ليس في الماضي
لأن الماضي انتهى. الذاكرة ليست إلا نوعًا من
الظل. وحده الموجود حقًّا هو الحاضر، الآن.
لكن الظلال والصور المستعادة من الماضي تحول
دون الحضور الحي في الآن. الحياة – وليس مجرد
العيش – تعني الوعي والتواصل. الحياة
حياةً تامةً هي التمتع بإدراك غير مقيد، ليس
لما يطفو على السطح وحسب، بل ولما يكمن في
الأعماق الداخلية؛ الوعي يجب أن يكون إدراكًا
للكل، لا للجزء وحسب، للدقيق، لا للغليظ
وحسب، لغير المرئي، لا للمرئي وحسب. حين
يتخاذل فينا الإدراكُ الواعي فنحن لسنا أحياء
حقًّا – نحن ربع أحياء فقط! وما يحول دوننا
والحياةَ حياةً تامةً هي أعباء الماضي التي
يجرجرها الذهنُ وراءه – أعباء ماضٍ قد توارى،
إلا ظلال ذكرياته. ليس
للمستقبل هو الآخر من وجود: إنه ليس إلا نوعًا
من الخيال. هناك، بالطبع، الزمن الفيزيائي
المرتبط بدوران الأرض حول محورها؛ لكننا حين
نبلغ ما نظنه المستقبل، فإننا نجده حاضرًا.
ليس للماضي ولا للحاضر، إذن، من وجود حقيقي:
إنهما موجودان فقط على هيئة صور في الذهن.
الإحساس بالقلق أو بالأمل جزء من مستقبل
متخيَّل؛ الألم والكره هما من الماضي، بل هما
الماضي. وبسبب هذه كلِّها فإننا نضيِّع
الحاضر، مع كل ما ينطوي عليه الحاضرُ من
ممكنات لتعليمنا أسرار الحياة. *
* * لقد ولَّى زمنٌ كان القوم فيه
يظنون أن كل شيء يحدث في العالم عَرَضًا
ومصادفة. إذ إن علماء وفلاسفة كبار باتوا يرون
غير ذلك. يقال إن من المتعذر إحصائيًّا أن
تكون متعضِّية وحيدة الخلية قد تطورت مصادفةً
وصولاً إلى الشكل البشري بسبب وجود عدد هائل
من العوامل والمتغيرات كان لا بدَّ من تدخلها
– عَرَضًا (كذا!) – في "الاتجاه الصحيح"
لو أن هذه الفرضية (فرضية "المصادفة
والضرورة"[3])
كانت صحيحة. منطقيًّا إن عضو إبصار كالعين هو
أعقد من أن يكون قد تطور من جراء محض المصادفة.
ووجود أدلة كهذه قادت عددًا من المفكرين –
ومنهم الفيزيائي القدير پول ديفيس[4]
– إلى افتراض وجود "عقل إلهي" فاعل في
الكون، فطنة هائلة مبطِّنة لظواهره وحوادثه.
وقد كان السير ألستر هاردي قد سلَّم من قبلُ
لا بوجود فطنة فاعلة في سيرورة التطور وحسب،
بل بـالمحبة بوصفها القوة المحركة لها –
إذ وحدها المحبة تستطيع أن تتمخض عن هذا
الجمال كلِّه، عن هذه القدرة الخلاقة كلِّها
في الكون المتجلِّي. لكننا
لا نفقه سرَّ الحياة، فنفوِّت علينا جمالها.
لماذا؟ لأننا نعرقل سريان طاقة الحياة
سريانًا حرًّا. وعيُنا لا يدرك كلَّ ما يسعه
أن يدرك لأن الماضي والمستقبل يُثقِلان على
المخ. الصور الخيالية تدور فيه مشكِّلةً
نماذج مختلفة، كما في الكاليدوسكوپ[5].
ولكن، ماذا يحدث حين يقع تحلل الجسم الذي
نسميه الموت؟ صور الماضي كلها تزول بزوال
المخ، ويتاح للحياة أن تتجسم في شكل جديد
وتتعلم أداءً لا يعرقله الماضي. *
* * ما
يفعله هذا الموت المزعوم في آخر
العمر، على كلٍّ أن يفعله بنفسه من الآن –
واعيًا؛ وإذ يفعله، يحيا حياةً أكثر غنًى
وامتلاءً، بمعنى أن يتعلم كيف يشحذ إدراكه
إلى أقصى حدٍّ ممكن. لقد قال سقراط ما مُفاده
إن الفيلسوف يتدرب على موته كلَّ يوم: إنه
ينقِّي وعيه من جميع صوره وذكرياته ويبقيه
مفتوحًا لإدراك ما هو عميق، لا ما هو سطحي
فقط، ما هو باطن، لا ما هو ظاهر فقط، ما هو
حاذق، لا ما هو كثيف فقط. فكما قلنا أعلاه،
الإدراك الواعي يقتضي التواصل. وكلما تعمق
إدراكُ أحدهم – ليس للأشكال المحيطة به وحسب،
بل لجمال الحياة وسرِّها الساري في هذه
الأشكال – كان اختبارُه للمحبة أعمق وقُربُه
من حقيقة الأشياء أدنى. تشير
الأبحاث التي أُجريت في السبعينيات
والثمانينيات على "الخبرات على تخوم الموت"
near-death experiences (NDE) إلى أن بعضهم يختبر عند ساعة مماته "المؤقت"
أن المحبة هي غاية الحياة[6]؛
يستوعي القوم أن الفلاح الحق ليس عبارة عن
ذيوع الصيت أو تكديس المال، بل هو القدرة
المتعاظمة على التجاوب المحب مع وقائع
الحياة. المحبة، في جوهرها، إدراك لوحدة
الحياة، من حيث إنها تتجسد في صور وأشكال
لانهائية، ووضع حدٍّ لوهم الكثرة. هذا الوهم
أشبه برؤية انعكاس صورة القمر في الكثير من
البِرَك والسباخ والبحيرات، وتوهُّم أن هناك
أقمارًا عديدة! بالمثل، قد نظن بأن الفضاء
المحتوى في غرفة هو غيره الفضاء في علبة – لكن
الفراغ في الواقع واحد. الغرفة سوف تتهدم ذات
يوم، والعلبة سوف تزول، لكن الفضاء سيبقى هو
هو، واحدًا لا يتجزأ. على النحو نفسه، ثمة
فطنة واحدة، محبة واحدة، طاقة كونية واحدة لا
تنقسم. معرفة هذا –
بالخبرة المباشرة – هو تعلم أبلغ دروس الحياة.
وهذا يمكن له أن يحدث إذا تعلَّمنا كيفية فتح
عيننا الباطنة – بصيرتنا – وتركنا الوعي
يفصح عن ذاته، متخففًا من أعباء الماضي
وأماني المستقبل الوهمية. ففي نمو الإدراك
الواعي يكمن مستقبل الإنسان الحقيقي، لأنه من
خلاله سوف يكتشف علاقةً مختلفة، جديدةً
بالكلية، مع الأشياء طرا. ***
*** *** [1] راجع: ندره اليازجي، هندسة
الروح: أشكال صوفيا، فصل "أسرار عالم
النبات"، في الأعمال الكاملة، مج 7،
دار أمواج، طب 1: بيروت 2005؛ ص 297-313. [2] راجع: پيار تلار ده شاردان، موضع
الإنسان في الطبيعة، بترجمة ندره
اليازجي، دار الغربال، دمشق (بلا تاريخ)، ص
131-134. [3] من أصحابها والمروجين لها عالم
البيولوجيا الفرنسي القدير جاك مونود الذي
نشر في العام 1970 كتابًا بهذا العنوان. [4] راجع: پول ديفيس، العوالم
الأخرى: صورة الكون والوجود والعقل والمادة
والزمن في الفيزياء الحديثة، بترجمة
حاتم النجدي، دار طلاس، طب 1: دمشق 1990. [5] جهاز مؤلف من أنبوب كتيم يحوي
عدة مرايا موضوعة بحيث إن قطعًا زجاجية
صغيرة ملونة في الأنبوب تُنتِجُ لدى تحريكه
أشكالاً متناظرة ومتنوعة. [6] راجع: ديمتري أفييرينوس، "خبرات
على تخوم الموت"، مجلة المعرفة،
العدد 401 (شباط 1997)، ص 55-61.
|
|
|