تطلُّعات جديدة للحضارة البشرية[*]

 

ف.س. ستيپين

 

تتطوَّر العلومُ الحديثة، وتوظَّف، في مرحلة تاريخية ذات خصوصية. كما تتحدد قيمتُها الثقافية العامة بمدى انشغالها بحلِّ مسألة اختيار الاستراتيجيات الحيوية للبشرية والبحث عن دروب جديدة لتطورها الحضاري. ترتبط الحاجة إلى هذا البحث بمظاهر أزمة نهاية القرن العشرين التي أدت إلى نشوء مشكلات جديدة ذات أبعاد عالمية. ويحتاج فهمها إلى إعادة تقييم تطور الحضارة التقنية التي بدأت منذ أربعة قرون، وهي مستمرة حتى الآن، حيث يتم اليوم وضع الكثير من قيمها المتعلقة بالتعامل مع الطبيعة والإنسان وغير ذلك، التي كانت تبدو من قبلُ شروطًا راسخة للتقدم وتحسين نوعية الحياة، موضع الشك.

لقد وصلت الحضارة التقنية، التي تطورت كنقيض antipode فريد من نوعه لحضارات المجتمعات النقلية، إلى مفترق طرق bifurcation، من الممكن أن يعقبه انتقالُ الحضارة الإنسانية إلى مرحلة نوعية جديدة. ولا يتعلق النظامُ الأساسي للعلم في المجتمع فقط، بل ووجود الإنسانية برمتها كذلك، بالاتجاه الذي سوف تختاره هذه المنظومةُ وبسمات تطورها اللاحق.

نسبت ثقافةُ الحضارة التقنية دائمًا العقلانيةَ العلميةَ إلى قيمها الأساسية. وضمن أُطُرها بالذات، عمدت إلى تشييد صورة علمية للعالم وتوظيفها وتطويرها، باعتبارها صيغة التصور النظري للمعرفة التي جسَّدتْ عقيدةَ العلم الأساسية. وفي الحضارة التقنية، ارتبط استخدامُ العلم، قبل أيِّ شيء آخر، بتكنولوجيا تحويل العالم المادي. الصورة العلمية للعالم لم توجِّه الإنسان نحو فهم العالم فحسب، بل كذلك نحو النشاط المحوِّل الموجَّه نحو تغييره. وقد كمن مبدأ فرز الحدود demarcation، الغريب على الإنسان، بين عالم الإنسان وعالم الطبيعة في الصورة العلمية للعالم بشكل بديهي، وظل الأساس العقائدي لتطورها التاريخي لأمدٍ طويل. ثم أمسى استهدافُ تحويل الطبيعة وتغييرها بالتدريج، وبعد ذلك المجتمع، القيمةَ الأرجح للثقافة التقنية. واعتبر الباحث، العامل ضمن أُطُر هذه التقاليد الثقافية والمتطلِّع إلى هذه الصورة، نفسه مبدعًا لما هو جديد و«مستخبِرًا» من الطبيعة أسرارَها لكي يوسِّع من إمكانات إخضاع الطبيعة لحاجات الإنسان.

الحضارة، المتطلِّعة إلى هذا النمط للعقلانية العلمية، كانت لها منجزات لا شك فيها: تم فيها تأكيد أفكار التقدم والديموقراطية والحرية والمبادرة الفردية. ولكن إلى جانب ذلك، في نهاية القرن العشرين، عندما اصطدمت البشريةُ بمشكلات عالمية، دوَّت بقوة جديدة المسائلُ المتعلقة بمدى صحة اختيار دروب التطور التي تم اعتمادها في الحضارة الغربية (التقنية)، وبالتالي، مدى تطابُق مقاصدها ومثالياتها العقائدية.

يبدو البحث عن دروب جديدة لتطور الحضارة مقرونًا بمسألة بنية الثقافات وبصياغة نموذج جديد للعقلانية.

في المرحلة المعاصرة، تتشكل رؤيةٌ جديدة للوسط الطبيعي الذي يتعامل معه الإنسان في نشاطه. حيث بوشر بالنظر إليه لا كخليط مكوَّن من أغراض منفصلة، وكذلك ليس كمنظومة آلية [ميكانيكية]، وإنما كجسم كلِّي حي، لا يمكن إجراء تغييرات عليه إلا ضمن حدود معينة، بحيث يؤدي خرقُ هذه الحدود إلى تغيير المنظومة كلِّها وانتقالها إلى حالة مختلفة نوعيًّا، قادرة على التسبب في تدمير غير عكوس للنظام برمَّته.

في المراحل السابقة لتطور العلم، بدءًا من تشكُّل المعرفة الفطرية حتى منتصف القرن العشرين، كان الإدراك «العضوي» organic للطبيعة المحيطة بالإنسان يُعَد شكلاً من الاسترجاع النوعي لصفات الأسلاف atavism وعودة إلى وعي شبه أسطوري لا يتوافق مع أفكار الصورة العلمية للعالم ومبادئها. لكنْ بعد أن تشكَّلت، ودخلت في الصورة العلمية للعالم، تصوراتٌ حول الطبيعة الحية كتفاعل معقَّد للمنظومات الإيكولوجية، مع ظهور وتطور فكرة ف.ي. فِرنادسكي حول «البيوسفير» Biosphere [النطاق الحيوي] كمنظومة كلاَّنية للحياة متفاعلة مع القشرة اللاعضوية للأرض، ومع تطور العلوم البيئية الحديثة، أصبح هذا المفهوم الجديد لمجال النشاط الحياتي البشري المباشر كجسم حي، لا كمنظومة آلية، مبدأً علميًّا متأسِّسًا على عدد كبير من الأفكار النظرية والوقائع التجريبية.

تلعب المعرفةُ الإيكولوجية دورًا مميزًا في صياغة تصورات المنظومة العلمية حول مجال السيرورات الطبيعية التي يتفاعل معها الإنسانُ في نشاطه والتي تشكِّل محيطًا مباشرًا لإقامته كنوعٍ حي. وهذه المنظومة تُعَدُّ مكونًا بالغ الأهمية من مكوِّنات الصورة العلمية الحديثة للعالم التي تجمع بين معرفة البيوسفير من جهة، ومعرفة السيرورات الاجتماعية من جهة أخرى. وهي تمثِّل جسرًا نوعيًّا بين التصورات المتعلقة بالطبيعة الحية وتطور المجتمع البشري. وليس مستغربًا كون المعرفة الإيكولوجية تتمتع بقيمة خاصة في حلِّ مشكلة العلاقة بين الإنسان والطبيعة والتخلص من الأزمة البيئية، وكذلك غدت عاملاً مهمًّا في صياغة الأسُس العقائدية الجديدة للعلم.

وإلى ذلك، تكتسب المبادئ التي طورتْها الإيكولوجيا، والتي تدخل في تكوين الصورة العلمية العامة للعالم، قيمةً عقائديةً أوسع؛ فهي تؤثر على الأسُس العالمية للثقافة كلها. وتتشكل في الثقافة الحديثة، بمزيدٍ من الدقة، أُطُر contours منظور جديد إلى العالم، يدخل في تكوينه المخزونُ الهائل للصورة العلمية للعالم. وهذا المنظور يشترط فكرة التعالق المتبادل والتعامل المتناغم بين البشر – وبين الإنسان والطبيعة – الذين يشكِّلون مركَّبًا كليًّا واحدًا. وضمن إطار مقاربة كهذه، تتشكَّل رؤيةٌ جديدة للإنسان كجزء عضوي من الطبيعة، لا كسيِّدها، وتنمو فكرةُ أولوية التعاون على التنافس.

التغيرات الجارية في العلم الحديث، المترسِّخة في الصورة العلمية للعالم، تتلازم مع بحثٍ حثيث عن أفكار عالمية جديدة يتم ابتكارها وصقلها في مختلف مجالات الثقافة. وكذلك البحث عن دين جديد، وإعادة فهم الدين القديم، وبناء منظومة أخلاقية جديدة. اللحظة الحاسمة لتطورها تكمن في تصور الصورة العلمية للعالم للإدماج العضوي للإنسان في كلاَّنية الكون، واعتبار الإنسان، كنتاج للتطور الكوني، معيارًا للعالم الذي أوجده. المبادئ الأخلاقية القائمة على هذا الأساس، المتعلقة بمسؤولية الإنسان حيال الطبيعة، تشحن صورة العالم بما هو فطري. لا ينبغي للإنسان، الفاهم للعالم، أن يجبر الطبيعة على التحدث بلغته هو، وإنما عليه الانخراط في حوار معها. محاورة الطبيعة وفق الأنموذج الجديد للعقلانية سوف تترافق بمثال انفتاح الوعي على تنوع المقاربات، وعلى التعاون الوثيق بين المفاهيم الفردانية وعقلانيات الثقافات المختلفة.

الحديث لا يجري فقط على التوافق المذهل للصورة العلمية الحديثة للعالم مع تلك العقلانيات الجديدة التي تتشكَّل بالتدريج داخل الثقافة التقنية في نهاية القرن العشرين ربطًا بإعادة فهم المشكلات العالمية المعاصرة، بل كذلك على تَوافُقها مع الأفكار الفلسفية النامية في تربة «الكوسمية» Cosmism الأصيلة، حيث تنبغي الإشارة في شكل خاص إلى تطابُق المبادئ الأساسية للفلسفة الكوسمية مع الكثير من المبادئ الأصلية للصورة العلمية الحديثة للعالم واستنتاجاتها الكونية. تعيدنا الكوسمية إلى الرؤية الكلاَّنية wholistic للعالم كوحدة تجمع الإنسان والكون، وهي قادرة على لعب دور إيجابي في تشكيل الأفكار النامية في التقاليد الثقافية لأوروبا الغربية والمنظومات الفلسفية الشرقية، حيث اعتُبِرَ الإنسانُ جزءًا لا يتجزأ من الكون منذ البداية. وبالتالي، فإن مبادئ الكوسمية تندرج عضويًّا في ابتكار ميتافيزيقا جديدة قادرة أن تصبح أساسًا فلسفيًّا للمرحلة «ما بعد اللاكلاسيكية» لتطور العلم، بحيث تضمن التطور اللاحق للصورة العلمية العامة للعالم في مجرى إيديولوجيا التطور العام، وتغدو تصورًا لنُظُم ومثاليات الفلسفة الكونية الإنسانية Anthropocosmism المتطورة عبر التاريخ التي تتخذ من الإنسان معيارًا أساسيًّا.

سمة الانفتاح للصورة العلمية الحديثة للعالم تكمن في المعيارية المدهشة، لا لمبادئ فلسفة الكوسمية فحسب، وإنما لكثير من المبادئ الكونية التي أبدعتْها الثقافاتُ الشرقيةُ النقلية. وهذا يتجلَّى في وضوح أكبر عند تأمل مصطلحات «التطورية الشاملة» Universal Evolutionism لجملة من الأفكار الأصلية للفلسفة الشرقية التي لم يُعثَر على مفاهيم تُقابلُها في التقاليد الثقافية الأوروبية لزمنٍ طويل.

يتعلق الأمر، قبل أيِّ شيء آخر، بتصور العالم كجسم واحد توجد أجزاؤه المختلفة في علاقة إيقاعية نوعية فيما بينها. وقد عُبِّر عن النزوع نحو الوحدانية بعبارة «الواحد في الكل، والكل في الواحد»، التي تشكِّل المبدأ الأساس للتاوية والكونفوشية. وفي البوذية كذلك ينعكس هذا النزوع في التعليم المتعلق بـدهرما: «جميع عناصر دهرما متماثلة النوع ومتعادلة القدرة؛ كلها متعالقة فيما بينها». تتميز الثقافات الشرقية، وخاصةً التعاليم الفلسفية الصينية القديمة، بكونها تتصور العالم كجسم حيٍّ هائل. وقد تم فيها إدراك العالم ككلِّية عضوية غير مقسَّمة إلى طبيعي وبشري، أجزاؤها كلها متعالقة ومتأثرة فيما بينها. لقد ألغت هذه الكوسمولوجيا cosmology موقف التضاد بين الذات والموضوع، فتأسست على الإقرار بوحدانية الثنوية في طبيعة الأشياء وفق نموذج يِن/يَنْغ، حيث عُبِّر عن المثنوية القطبية للوجود من خلال القدرتين البدئيتين: ين مثَّل القطب السالب، خالق البداية الخاملة (الأنثوية)، وينغ مثَّل البداية الموجبة والنشطة والخلاقة (الذكرية). ين وينغ المتعالقان يتعاقبان باستمرار، ويتفاعلان فيما بينهما. وقد كمنت نظريةُ ين وينغ في الأساس من فهم التعالق العام للظواهر وإيقاعها المتواتر: «التاو: دربٌ واحد يخترق الكل؛ الكل متعالق. الحياة وحدة، وتطلُّع أيِّ جزء من أجزائها يجب أن يتوافق مع تطلُّع الكل». فالإنسان، الكائن في العالم، يجب أن يشعر بالإيقاع الكوني، ويوائم عقله معه، وعندئذٍ يمكن له إدراكُ طبيعة الأشياء.

التصور الشرقي للعالم كجسم كليٍّ حيٍّ يحتوي الإنسان، وللـ«رنين» resonance المتواتر بين الأجزاء المختلفة لهذا الجسم، صاغ «مثالاً» ideal للنشاط البشري مختلفًا عما صاغتْه الثقافةُ التقنيةُ الغربية. إن مفهوم الإنسان باعتباره صانعًا حِرفيًّا dêmiourgos تمكَّن من تحقيق تحويل للمواد بالقوة بهدف إخضاعها لسلطته كان غريبًا عن ثقافات الشرق. والبشر الذين ترعرعوا وفق تقاليد هذه الثقافات وضعوا نصب أعينهم الهدف ذاته: القدرة على إدارة قوانين الطبيعة، لكنهم ساروا في طريق مختلفة تمامًا نحو هذا الهدف. في التعاليم الصينية، تطورت مواجهةُ القوة بالفعل اللاقسري ضمن مصطلحَي وِيْ/وُو وِيْ (الفعل واللافعل). كان «اللافعل» لا يعني انعدام أشكال الفعل كافة، وإنما يعني الفعل الذي يسمح للطبيعة بالتطور بطريقتها الخاصة. وقد تم التأكيد، في الفلسفة الصينية القديمة، على أن وحدهم البشر الذين يجهلون القوانين الحقيقية للعيش يفهمون الـوُو وِيْ على أنه انعدام للفعالية واستسلام واستكانة، لكن لدى الحكماء الذين طوروا في أنفسهم فهم الـتاو، فإن اللافعل لا يعني انعدام الفعل، وإنما يعني الفعل البديهي الموافق لطبيعة الأشياء.

من الواضح أن مبدأ «اللافعل»، الرافض لطريقة العمل القائمة على التدخل القسري المستمر في جريان السيرورات الطبيعية، بدأ في وقتنا الراهن، بصورة غير متوقَّعة على الإطلاق، يلازم محاولات تصور التعالقات الكامنة في الصورة العلمية الحديثة للعالم والمتعلقة بالاستراتيجيات الممكنة لتوجيه نُظُم التسيير الذاتي المعقدة. ووفقًا لهذه التصورات، بات تفاعُل الإنسان مع المنظومات المفتوحة المعقدة يجري بحيث صار الإنسانُ ذاته لا يُعَد أمرًا خارجيًّا، بل نشاطٌ متضمَّن في النظام، مكيِّفًا حقل حالاته المحتملة كل مرة. من هنا ظهرت، في استراتيجية العمل، أهميةُ تعيين حدود التدخل في السيرورات الجارية، والأخذ في الحسبان التأثير الأدنى بالضبط لوجهات تطور المنظومة التي تسمح بتجنب نتائج كارثية وتضمن بلوغ الغايات البشرية في الآن ذاته. كان مبدأ «اللافعل» يتطلع إلى استراتيجيات ملائمة جدًّا لسلوك الإنسان ونشاطه، وكان يحتاج إلى الشعور بالإيقاع الفطري للعالَم الطبيعي، والعمل بما يتناسب معه، بحيث يتم السماح للطبيعة ذاتها بنشر كموناتها الداخلية واختيار دروب تطور السيرورات التي تلائم الحاجات البشرية.

فيما يتعلق بمحاكمة مثاليات النشاط البشري، من المهم الإشارة إلى منحى آخر بالغ الأهمية في التعاليم الشرقية، يتجاوب مع محاولات البحث المعاصرة عن قيمٍ واستراتيجيات جديدة للنشاط الحياتي البشري. يتعلق الحديث بالارتباط المتبادل بين الأخلاق والحقيقة، الذي كان دائمًا على رأس أهداف المعرفة العلمية، حيث نوقشت قضية العلاقة بينهما دائمًا في الفلسفة الغربية، لكن حلَّ هذه المسألة تمَّ بطريقة مختلفة حتى صار بلوغ الحقيقة يُعتبَر فعلاً أخلاقيًّا بذاته. لقد فصلت الثورةُ العلمية في أوروبا بين الحقيقة العلمية والأخلاق، الأمر الذي جعل العالم أكثر خطرًا، في حين أن هذا الفصل غير موجود في التعاليم الشرقية على الإطلاق: فقد تمَّتْ فيها تنميةُ محاكمة أدق للعلاقة بين الحقيقة والأخلاق. من منظور حكماء الشرق، لا تكمن المعرفةُ العلميةُ في دراسة الموضوعات بهدف السيطرة عليها، بل في بلوغ الاتحاد بالعالم. معرفة الشيء ممكنة فقط باتِّباع الـتاو الذي يُعَد دربًا طبيعيًّا للأشياء، وهو في الوقت ذاته الدرب الأخلاقي الذي على الإنسان السير فيه. ولا ينكشف الـتاو إلا للبشر المتمتعين بمكارم الأخلاق، وهو فقط قادر على إيصال البشر إلى الكمال [تحقيق الذات].

لكي تتكشف الحقيقة للإنسان لا بدَّ له من تربية أخلاقية ذاتية. ونشاط الإنسان الموجَّه لإدراك العالم الخارجي، ونشاطه الموجَّه لمُكامَلة عالمه الداخلي، يجب أن يكونا متوافقين ومتوائمين.

إن مبدأ المعنى الكوني للسمات الأخلاقية للإنسان يُعَد من أقدم مبادئ الفلسفة الصينية ومن أكثرها أصالة: فقد اعتبر الحكماء الصينيون، وهم يتفكرون في إيقاع أجزاء الكون كافة، أن تناسق الكون، والتغير الصحيح لأوقات السنة، والحر والبرد – ذلك كله يتوقف على سلوك الإنسان وأخلاقه. درب الـتاو، أو «السماء»، يضبط تصرفات البشر، لكن «السماء» قد تلتفت بوجهها نحو الإنسان وقد تعطيه «ظهرها». لذا ليس من قبيل المصادفة ما يَرِدُ في العبارة الصينية التي تقول: «عمل السماء يتناسب مع سلوك البشر». فقد كانت الكوارثُ الطبيعية في الصين القديمة تُعَد مؤشرًا على الإدارة الخاطئة، وكذلك على السلوك غير الأخلاقي للحاكم.

بطبيعة الحال، إن فُهِمَتْ هذه الأفكار فهمًا حَرفيًّا فإنها تبدو صوفية الطابع، لكن يكمن فيها كذلك معنى عميق الغور يتعلق بالحاجة إلى الضبط الأخلاقي للنشاط المعرفي والتقني للبشر (بما فيها تكنولوجيا التوجيه الاجتماعي). وفي هذا المعنى العميق، تبدو تلك المبادئ بحثًا معاصرًا عن آفاق عالمية جديدة لتطور الحضارة البشرية.

وهكذا، في نهاية القرن العشرين، عندما وجدت البشريةُ نفسها أمام معضلة اختيار استراتيجيات جديدة للبقاء، نجد أن الكثير من الأفكار التي أبدعتْها التعاليمُ الشرقية النقلية تلائم القيم الجديدة والمعاني العالمية التي نشأت ضمن أُطُر الثقافة التقنية المعاصرة التي نشأت في مختلف مجالات هذه الثقافة، بما في ذلك المعرفة العلمية.

يقوم تطور الصورة العلمية الحديثة للعالم على طُرُق جديدة لفهم العالم تتوافق والنتائجَ التي بلغتْها الثقافات النقلية؛ ويمكن الإقرار بأن تطور الصورة العلمية الحديثة للعالم يكمن، بصورة عضوية، في عملية صياغة نمط جديد للتفكير الكوكبي يقوم على التسامح وحوار الثقافات ويرتبط بالبحث عن مخرج من الأزمات العالمية المعاصرة.

بتمتعها بميزة الانفتاح، يمكن للصورة العلمية للعالم إدراج مخزونها الهائل للمشاركة في عملية تحول الثقافات: فهي توحِّد بين المقاربات الجديدة المنبثقة من تربة العقلانية العلمية النامية التي تخدم قيم الحضارة التقنية (الغربية)، وبين المبادئ المبتكرة في تقاليد ثقافية مختلفة تمامًا، وهي المبادئ التي نشأت داخل التعاليم الشرقية.

تكمن الصورة العلمية الحديثة للعالم في حوار الثقافات التي تبدو وكأنها تسير على التوازي فيما بينها من حيث مناحي تطورها. وسوف تغدو تلك الصورة العامل الأهم للتفاعل العبرثقافي trans-cultural بين الغرب والشرق.

*** *** ***

الترجمة عن الروسية: هفال يوسف


[*] صدر هذا المقال في مجلة البيئة والحياة الروسية، العدد 4، 2000. توقفت المجلة عن الصدور في العام 2002.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود