الإنطاكي

رحلة برفقة الذات المتيقِّظة

مي منسى[1]

 

بين الواقع والوهم، بين القدري والخيالي، ينسج شكيب خوري حكايته في الإنطاكي، آخر رواياته[1] – حكاية تلتقي فيها الأزمنة، ماضيًا وحاضرًا، ولا تتعثر، والأمكنة، بمشرقها ومغربها، ولا تتحير. فالجوهر هو منارة تقود المرء إلى الحكمة الأبدية، إلى المعرفة التي تسيِّره نحو خلاصه وهنائه وتغمره بالفرح الأسمى. كم من المراحل ينبغي للإنسان أن يعبر، وكم من الدروس الحياتية عليه أن يجرِّب، قبل أن يرسم مساره الصحيح للمصالحة مع الحقيقة.

الإنطاكي قصة عائلة متسلسلة من الجدود إلى الحفيد، تسكنهم روحٌ واحدة تبحث عن سرِّ الوجود والموت. رحالة في الصحارى وعلى "طريق الحرير" المؤدية، لا محالة، إلى استنباط ألغاز الكون في الطبيعة البكر. هي الطريق الشاهدة على تناقل الحضارات مع العالم البعيد. فإن أحسن المسافر اجتيازها، أوصلتْه إلى مبتغاه، في الشرق الأقصى، أرض التأملات الإشراقية التي تدعو المنذورَ إليها إلى سبر الذات بعد أن يكون اختبر شموس الصحارى الحارقة والرمال الميرونية، ولَمَسَ عن كثب نجوم السماء واغتمر بصمتها المهيب. يتطلب الاختبارُ جسارةً ودعوةً حقيقيةً من القدر للتيه في نفي الذات، بعيدًا عن حياة البشر الصاخبة والمراهنات المضنية على النجاح والفشل.

من الجد الأول إلى الحفيد، تتشابك الحوادثُ في أزمنة تماهت حدودُها وتواريخُها بين الماضي الوهمي البعيد والحاضر الواقعي الذي يعيشه لبنان منذ الحرب. ولا تزال ذيولها تتفاعل في النفوس الجشعة وفي شباب ارتهن للحرب، فعاث فسادًا، وقتلاً، وترهيبًا، بغية الإثراء والنفوذ تحت شعار كاذب: "القضية". الإنطاكي الحفيد واحد منهم: تاجر مخدرات كان، بيَّض الأموال، جنى ثروة من تهريب الأعتدة الحربية لحساب أمراء الحرب، أنشأ مؤسسة للمقاولات حملت اسمه وانتشرت مكاتبُها في الدول العربية والأفريقية والاتحاد السوفييتي، سوَّق الدعارة، فسق وابتز، عشق وخان. هذا المشهد الرائج والشائع في بلدنا، تناوله شكيب خوري دواءً للنفس السوداء كي تتعظ. وكل نفس لا بدَّ أن تلتقي بمرآة ذاتها لتصطلح.

أما جد الإنطاكي، فقد وعى الكون قبل أن يشغله عبثُ الوجود. خرج إلى المغامرة ولم تكن البطولة قلقه. كان من قديسي الرمال.

بين الزمن المعيش وذاك المرسومة جغرافيته في أعماق بئر شكيب خوري، نستشف طبيعة المؤلف التواقة إلى المثل الإنسانية المترفعة عن آثام الدنيا. لذا يستعرض للقارئ في مستهل الكتاب أبشع ما يستطيع إنسانٌ اقترافه من أجل المال. ثم تبدأ رحلة الاغتسال من الآثام، على الرغم من أن سؤالاً جوهريًّا بقي ينغِّص عيش هذا الباحث على خطى جده عن الغفران والتوبة: هل ثمة "ممحاة" تقضي على ما اقترف من جرائم في حق الإنسانية؟ رفيقه في هذه الرحلة، ساجد الجمل، الذي تآخى معه وتعلَّم منه حكمة الصبر وعدم التيه في الزمن المعاكس الذي امتطاه حتى لا يضل عن الموعد المحتم مع روح الجد. في هذا الاختبار الصعب بدأ يتحسس الصراع بين الذات الحاضرة والذات الساكنة.

يروي الإنطاكي أن هذه الروح الآتية لنجدته من الإنطاكي الجد ارتسمت في شكل نور دخل نافذته وتسللت إلى أعماقه. صورٌ من الماضي صارت تبرز كلقطات سينمائية، وهو يشاهد نيران الحرب تلتهم كل شيء.

في قلب الخليقة المتنوعة يختار الكاتب إنسانًا نموذجيًّا، قادرًا أن يختبر جوهر الوجود ويعي كائنه، تواقًا إلى النفس الخالدة. هذه التجارب الصعبة لا بدَّ أن تفضي، في عرف الكاتب، إلى حقائق حتمية كبيرة. ولا عجب أن نطَّلع من شكيب خوري على هذه الامتحانات الباطنية التي من شأنها أن تخلق إنسانًا جديدًا، لا عاهة فيه ولا زلَّة. فمن قرأ فلسفة الڤيدا الهندية الأبدية لا بدَّ أن يستنير بها: منارة الحكمة تلك تقود الإنسان إلى الخلاص وتوحي إليه أن يحقق الأسمى.

هو ذاته المسار الذي اتَّبعه شكيب خوري، خارج الزمن الملموس. تراءى له أن البشرية ليست معصومة من الخطأ. صاحب الخطأ يجد نفسه منبوذًا من المعرفة ومن المرحلة السامية التي توصله إلى الحقيقة. حياته تفقد أسسها وتبدأ آلامه.

هذه التجارب التي جسَّدها في عقاب الإنطاكي وثوابه، بدأت حين تعاظَم ألمُ الضمير، فكان لا بدَّ لقوى الطبيعة أن تتدخل لتصحيح رؤى الأشياء ولترميم نظام حياة يدفع بالإنسان إلى تحقيق الهدف الأسمى للوجود. فهل يكون يا ترى ذلك الإنطاكي الذي اختبر حياة التأملات واعتنق الفلسفة البوذية في ماضٍ قديم ليس مسجلاً في تقويمة العمر هو ذاته الحفيد العائد في دوامة نظام الحياة ليختبر من جديد الدرب التي لا بدَّ للإنسان أن يعبرها مرات ومرات حتى الاغتسال الكلِّي من أوضار الوجود؟

في الكتاب كلمة تنير هاجس الموت لدى الكاتب: يعبر كل فجر من هذه الضفة إلى الضفة الأخرى ويعود مع الغروب. إنه طفل أبدي، يرى الأزمنة تغيِّر المشهد الذي رآه بالأمس.

كيف يستطيع المرء اختراق المجهول والتكلم عنه بيقين إنْ لم يصغِ إلى صوت الزمن في عبوره؟! شكيب خوري غريب، بلا شك، عن أسرار الوجود، لكنه قائم في فضائه، متأمل في ألغازه، في هذه الذاكرة الكونية التي تستدعي الزمن الأقرب. وفي التنقيب في طياتها لا بدَّ من الرجوع تلقائيًّا إلى حياة سبق أن عشناها. في هذا الباطن يغمس قلمه ويغسل روحه.

فهذا الإنطاكي الجديد هو كل إنسان مرصود لأن يوقظ ذاته ويسألها. فبواسطة لمس الخطيئة، بمفاعيلها، تُجنى ثمارٌ حكيمة، ليست ضمانًا للخلاص، إنما درب سالكة إلى تسكين الجروح.

تتماهى صفة الرواية عن كتاب الإنطاكي بقدر ما يتوسع الكاتب في تطوير قدراته على استنباط الروح المتنورة. هذه الرحلة بين لبنان المشلَّع والشرق الأقصى هي رحلة الروح في ذهابها وإيابها في مطهر الكون، ومع كلِّ اتجاه مدخل إلى الذات حتى بلوغ الأسمى.

الإنطاكي قد يكون رمز الوطن الذي يحلم له الكاتب بالاستقرار والتطهير من الفساد الذي يتأكله: "أجعل الصحراء مطهري"، قال. هنا في هذا المدى الواسع أفترش بساط التأمل، البوصلة البكر إلى دروب اليقظة والاغتسال من الأدران.

كتابه علامات تشع، كالأقمار الصغيرة، لتنير درب المتلقي التائق إلى الطبيعة الخالدة، تلك التي توصل بالروح إلى المطلق. فمتى استقر المرء في ذاته أدرك، لا محالة، حقيقة الوجود وترقَّى متحررًا من تأثيراته عليه.

*** *** ***

عن النهار، 25 نيسان 2007


[1] شكيب خوري، الإنطاكي، دار بيسان، بيروت 2007. وللمؤلف ثلاث روايات أخرى هي، على التوالي: تلة الزعرور (دار النهار، 1992)، تجاعيد الأحلام (دار بيسان، 2000)، فرح الموت (دار الجديد، 2004).


[1]  - بريدها الإلكتروني: may.menassa@annahar.com.lb.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود