قصة حبٍّ في أورشليم

أو

غرام النبي سليمان بالإلهة العربية سلمى

يوسف سامي اليوسف

 

منذ ربع قرن، أو زهاء ذلك، طلع على الناس كاتبٌ نشر كتابًا عنوانه التوراة جاءت من جزيرة العرب. وقد حاول أن يبرهن فيه على أن الحوادث التي تسردها التوراة – وهي عندي أخبار لفَّقها أحبارٌ يكابدون السأم بسبب الفراغ والانعزال اللذين يعيشون! – لم تَجْرِ في فلسطين، وإنما في جبال عسير التي هي بين الحجاز وبين اليمن. وحجته في ذلك أنه وجد هنالك قرية اسمها صيدا أو أخرى اسمها صور، كما وجد نهرًا يُسمَّى نهر الأردن؛ بل لقد وجد في جبال عسير أماكن كثيرة تحمل أسماء تشير إلى أماكن في بلاد الشام. ولقد أثار الكتابُ ضجيجًا في الصحف يومئذٍ، ثم خمد الضجيج وعاد الأمر مثلما كان.

لقد فات كمال الصليبي، صاحب الكتاب المذكور، أن تفسير هذه الظاهرة – أعني ظاهرة التشابه بين الأسماء في الموضعَين – هو أمر شديد السهولة. وخلاصة الحقيقة أن الشعوب التي كانت دومًا تتدفق من شبه جزيرة العرب إلى الشام قد اعتادت أن تسمي مَواطن استقرارها بأسماء الأماكن التي جاءت منها أصلاً. وهذا هو ما يفسِّر وجود نهر يسمَّى "الأردن" في الشطر الجنوبي من بلاد الشام، وقرية تُسمَّى "صيدا" في جبال عسير وأخرى اسمها "صور" في تلك الجبال. وكل تشابُه من هذا القبيل مرده إلى السبب نفسه.

ففي العصور الحديثة، أطلق بعض المهاجرين من أوروبا إلى أمريكا أسماء مماثلة لأسماء أخرى تشير إلى أماكن في بلادهم الأصلية على بعض الأماكن التي استوطنوها في بلادهم الجديدة: ففي إنكلترا، مثلاً، ثمة نهر اسمه نهر "واي"، وفي الولايات المتحدة هنالك نهر آخر يحمل الاسم نفسه؛ أما الولايات الست الواقعة في الزاوية الشمالية الشرقية فسموها "إنكلترا الجديدة"، وذلك حفاظًا من المهاجرين على صلتهم بإنكلترا التي جاؤوا منها؛ ومدينة نيويورك، أو "يورك الجديدة"، هي بمثابة تجديد لمدينة يورك التي في إنكلترا. وإذا ما فتشتَ وجدتَ الكثير من الأسماء المشتركة بين العالمين القديم والجديد. وهذا ما يفسر الاكتشاف الذي اكتشفه الصليبي: يبدو أنه اكتشف الموطن الأصلي للكنعانيين الذين هم الفينيقيون بالضبط.

واليوم[1] طلب إليَّ الزميل فاضل الربيعي أن أقرأ مخطوطًا له عنوانه قصة حب في أورشليم[2]، يتناول فيه "نشيد الأنشاد" المنسوب إلى "النبي" سليمان بن داود، بالبحث والتمحيص ابتغاء البرهنة على أن ذلك النشيد قد جاء من شبه جزيرة العرب هو الآخر. وفي الحق أن البحث الذي كتبه هذا الزميل هو مزيج من درس في الجغرافيا وفي فقه اللغة العبرية (والصواب أنها إحدى لهجات اللغة الكنعانية التي انتحلها العبرانيون وسموها بهذا الاسم دون وجه حق)؛ ولكنه درس موغل في التعقيد بحيث لا يقرؤه إلا أهل الاختصاص وحدهم. ومع أنني لست جغرافيًّا ولا من الخبراء باللغة العبرية (التي أتقنتُها جيدًا يوم كنت جنديًا في الجيش سنة 1960، ونسيتها بعد ذلك بسبب الانقطاع وعدم الممارسة)، مع ذلك فقد أعانني الله وقرأت المخطوط من العنوان حتى آخر كلمة فيه، على الرغم مما تنطوي عليه العملية من عسر وإرهاق.

أما المحور الذي يدور حوله البحث كله، أو الهدف الذي يريد الكاتب أن يبلغ إليه، فهو أن "نشيد الأنشاد" هو في الأصل قصيدة كتبها شاعر مجهول، ولكنه من بلاد اليمن، وذلك لأن الأماكن المذكورة في النشيد لها ما يقابلها أو يماثلها في تلك البلاد. فهناك، مثلاً، جبل يُسمَّى "جبل لبنان"، وفي بلاد الشام ثمة جبل آخر معروف يحمل الاسم نفسه. ولهذا، جاء البحث كله بمثابة تنقيب عن مجموعة من الجبال موجود في بلاد اليمن، مما دفع الكاتب إلى توظيف بعض الكتب التراثية، أهمها: صفة جزيرة العرب للهمداني ومعجم ما استعجم للبكري. كما استفاد من التوراة ومن بعض الشعر الجاهلي؛ والأهم من ذلك كله أنه قد وظَّف خبرته باللغة التي تُسمَّى اللغة العبرية دون وجه حق.

* * *

أمَّا أنا فما كتبت هذه المقالة الراهنة إلا لكي أؤكد الحقائق التالية:

-       أولاً: إن "نشيد الأناشيد" هو قصيدة فاتنة جدًّا ونادرة النظير في تاريخ الشعر القديم كلِّه. وإذا ما قرأها المرءُ في ترجمتها الإنكليزية المعروفة بـ"ترجمة الملك جيمس" (وهي التي ترقى إلى مطلع القرن السابع عشر)، فإنه سوف يحصل على تحفة فنية شديدة القدرة على الإمتاع أو على الذائقة. ولو جازت ترجمتُها إلى العربية عن هذا المصدر لترجمتُها؛ إذ ينبغي أن تُترجَم عن النصِّ العبري نفسه. أما إحالة هذا الفتون إلى جغرافيا جافة أو حتى إلى فقه لغوي لا يبرهن على شيء، فهي جهد لا طائل تحته بتاتًا. ولهذا، فإن التخلي عن إغراق النشيد الجميل والسلس والبسيط في التعقيد خير من هذا التنقيب الوعر الذي لا يتحمله النص.

-       ثانيًا: لا صلة للنشيد الآنف الذكر ببلاد اليمن، لا من قريب ولا من بعيد بتاتًا، وذلك لأن بيئة بلاد الشام شديدة الوضوح في فضائه الرحيب: فلبنان المذكور في النص هو جبل لبنان، ودمشق هي العاصمة السورية نفسها، وأورشليم هي مدينة القدس الراهنة المعروفة. وكل تخيل لأية علاقة بين النص وبين اليمن هو مجرد دعوى تتعذر البرهنةُ عليها برهانًا مقنعًا.

-       ثالثًا: إن هذا النص له كاتبان، وليس من تأليف كاتب أو شاعر واحد. أما الكاتب الأول فهو رجل متمثل لروح الطبيعة، أو لروح الريف، ولاسيما للزنبق والسوسن والحقل والظبي والأيِّل وريح الشمال وريح الجنوب وما إلى ذلك من تفاصيل طبيعية؛ وهو شبيه بالشاعر الإنكليزي وليم وردزورث الذي كان يتمثل تلك الروح نفسها. وفي ميسور أية قراءة للنشيد، إذا كانت مستأنية، أن تدرك تلك الصلة التي تربط الشاعر الأول بالطبيعة أو بروح الريف. ولا ريب عندي في أن انبثاق النشيد من جوهر الطبيعة هو العامل الأول بين جميع العوامل التي جعلت منه نصًّا عظيمًا، بل خالد أو صالح للقراءة بعد مضيِّ آلاف السنين على تأليفه. أما الشاعر الثاني فهو ملك أو رجل من رجال البلاط. وهذا ما يملك المرء أن يستخلص من ذكر الجواهر والتوابل التي لا يعرفها إلا أهل الطبقة العالية في ذلك الزمان. والجدير بالتنويه أن تلك التوابل وتلك الجواهر هي من البضائع التي اعتاد التجار (ولاسيما تجار مدينة صور) أن يستوردوها من الهند. وبما أن النشيد يذكر اسم لبنان عددًا من المرات لافتًا للانتباه، فإن في الميسور الزعم بأنه من أصل لبناني؛ وقد خضع للتحريف، أو لشيء من التبديل، كي يتبدى وكأنه قد أُنتِجَ في مدينة القدس بدلاً من مدينة صور أو صيدا، مثلاً.

وثمة حقيقة هامة لا بدَّ من أخذها بالحسبان لدى البحث في أصل هذه القصيدة العظيمة الخلابة، وهي أنها نتاج لطور متقدم في كتابة الشعر. أعني أن الحضارة التي أنتجت هذه الأغنية العشقية قد سبق لها أن أنتجت الكثير جدًّا من القصائد؛ بل هي قد مرت بأطوار متباينة من الإنتاج الشعري قبل أن تنتج هذا النص العظيم نفسه – إذ يتعذر أن يجيء الشباب قبل الطفولة والمراهقة!

وبما أن أهل التوراة لا شعر لهم البتة في الأزمنة القديمة كلِّها، فإن في الميسور القول بأن "نشيد الأناشيد" ليس منهم وليسوا منه. ومما هو معلوم أن الفينيقيين، ولاسيما أهل صيدا وصور، قد كان لهم شعر يرقى إلى أواسط الألفية الثانية قبل الميلاد. ولهذا فلا عجب أن ينتجوا قصيدة فاتنة أو متطورة مثل هذه القصيدة. ولكن ما هو عجيب فعلاً أن ينتج أولئك نشيدًا عظيمًا كهذا النشيد دون أن يسبقه أي شعر يمهِّد لظهوره، وكذلك دون أن يتبعه أي شعر آخر يكون بمثابة امتداد طبيعي له. أليس من الغرائب المثيرة للاستهجان أن لا يملك شعب من الشعوب سوى قصيدة واحدة لا ثانية لها بتاتًا؟

-       رابعًا: لا بدَّ لقارئ التوراة، إن كان متأنيًا، من أن يلاحظ ما فحواه أن النشيد فريد من نوعه بين أسفار العهد القديم. فهو غنائي ومبهج في وسط كتاب متجهم وكئيب وفقير، إلى أيِّ صنف من أصناف الفرح. ومما هو محال أن تتمكن كائنات ليست غنائية من إنتاج هذا النشيد الغنائي الجذلان. ولهذا فإنه استثناء بين أسفار العهد القديم، بل خروج على القاعدة وعلى المألوف. ومما هو واضح أنه لطيف، مأنوس، شفاف؛ أما بقية الأسفار فموحشة، غليظة، وأحيانًا ممجوجة، بل مثيرة للاشمئزاز. فلا ريب في أن روحًا رقيقة، بل مطهَّمة، هي التي كتبت تلك القصيدة المبهجة، أعني نسختها الأولى السابقة على التحوير والتزوير. ولهذا فإن في الميسور الجزم بأن تلك الروح الزكية ليست من أولئك بأيِّ حال من الأحوال.

إذن، لا بدَّ للشاعر الذي أنتج "نشيد الأناشيد" من أن يكون عاشقًا كنعانيًّا ذا نفس مدمثة هيفاء. ولقد انتحله أولئك مع أشياء كثيرة انتحلوها دون وجه حق. أما أن يكون النشيد يمنيًّا كتبه شاعرٌ يهودي، كما يقول الزميل الربيعي، فهذه دعوى لا برهان عليها بتاتًا، ولا تسندها أية أسانيد ذات بال. ولئن قيل بأن هذه القصيدة من إنتاج شاعر يهودي مقدسي، فإن هذا الزعم أقل بعدًا عن الحقيقة من الظن بأنها قصيدة يمنية الأصل والمنشأ، لأن مثل هذا الظن لا يأخذ حقيقة المسار التاريخي في الحسبان. فعلم الجغرافيا، على شدة أهميته، لا يملك أن يفسر الظواهر الثقافية تفسيرًا حاسمًا كما يفعل علم التاريخ. والأهم من ذلك كلِّه أنه ما من شيء خارج سياق التاريخ سوى الطبيعة وحدها. وهذا يعني أن الثقافة تاريخ وأن التاريخ ثقافة – بكلِّ جزم وتأكيد.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


[1] تعود كتابة هذا المقال إلى العام 2004، أي إلى ما قبل نشر الربيعي للكتاب الذي نحن بصدده. (المحرِّر)

[2] فاضل الربيعي، قصة حب في أورشليم: غرام النبي سليمان بالإلهة العربية سلمى (ترجمة جديدة لنشيد الأنشاد عن النص العبري)، دار الفرقد، طب 1: 2005.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود