لبنان: قصائد في الحب والحرب

الإنسانُ نافذةٌ مفتوحةٌ على السماء

سفارةٌ للشعر من الأرض الخَراب

 

أمال نوَّار[1]

 

ناديا تويني، الشاعرة اللبنانية الفرنكوفونية المولودة في العام 1935، لا تدَّعي المعرفة، لكنها مضمَّخة بحبِّها لها وتوقها إليها. جاذبيتها تكمن في هذا السعي المثقل ظهره بصليب السؤال، المشحون حنينًا إلى كلِّ ما هو جوهري وأصيل في الوجود، المشتعل رغبةً في تقبيل عظام الحقيقة ووضع شفتين من طين على شفتين من أثير. مفردات أشعارها تنشغل بالكوني، لا باليومي، حتى نَخالها ناسكةً فعلاً، تعيش في صومعة في ذروة الريح، لباسها أحلام غيم، وخاتمها حزن قمر، وشرودها عصافير، وشرابها شموس صغيرة، تسيل، وطعامها ذهب سنابل في كتب أقدم من التاريخ. أشعارها تنبئنا بسعيها الفادح، وأيضًا لغتها المائية العارية التي من طبعها أن تفضح. لذا لم تشأ للبِّ قشورًا، ولا للحبِّ زينةً من بخور، ولا للمعنى شكلاً غير النور. سعت هذه الشاعرة إلى السرِّ بموهبة زجاج يمعن في الفضيحة. لقد عرفتْ كيف تعرف!

اختيارها لغةً أخرى للتعبير بها غير لغتها الأم هو اختراق للهوية وللموروث الحضاري في سعي لإخراج المعنى من حدود الشكل ومنحه طعمًا كونيًّا كطعم الحجر. ومع أننا لا نشكُّ في أن "الشرق" كان هو منبت جذور ألمها الفادح وحبِّها الشاهق، إلا أننا نشك، مثلما هي كانت تشك، في أن صرخة ضوئه كانت لتترك نصف الأرض الآخر نائمًا، وفي أن تأويل الشجرة فيه كان ليظلَّ مغروسًا في عرق الانتماء ولا يتشرَّع على أفق الحرية. كأنها أرادت لحبِّها ولألمها أن تلبسهما أرواحٌ كثيرة، فجعلت حبرها ماء كينونة خالص، فيه من الأصالة والفطرة والعذوبة ما تتشرَّبه مسام الزمن والخرائط، في سلاسة، مثلما يتشرَّب الغدُ البارحة، واليقظةُ الحلم.

موزاييك الروح

لبنان، قصائد في الحب والحرب[2] هو عنوان كتاب صدر بالإنكليزية عن دار جامعة سيراكيوز بالاشتراك مع "دار النهار"، يضم أنثولوجيا شعرية باللغتين الإنكليزية والفرنسية للشاعرة الراحلة، علاوةً على مقالتين نقديتين في أعمالها لكلٍّ من سيرين الحوت وجاد حاتم، ومقدمة بقلم محرِّر الكتاب، كريستوف إپُّوليتو. تحوي الأنثولوجيا، إلى الترجمة الإنكليزية الكاملة التي قام بها صموئيل هازو لمجموعة لبنان، عشرون قصيدة من أجل حب وسبق أن صدرت في العام 1990 عن دار بيبلوس في نيويورك، عشرين قصيدة أخرى مختارة من مجموعة محفوظات عاطفية لحرب في لبنان ترجمها عن الفرنسية للمرة الأولى پول ب. كيلي، الكاتب المتخصص في الآداب الفرنسية والفرنكوفونية المعاصرة.

ومع أن الحرب اللبنانية هي الثيمة الرئيسية للمجموعتين وأن الفارق الزمني بينهما لا يتعدى ثلاث سنوات (إذ إن الأولى صدرت في العام 1979 والثانية في العام 1982)، إلا أنهما، بحسب إپُّوليتو، تختلفان اختلافًا جذريًّا في طريقة التناول الشعري لموضوع الحرب والبحث عن أجوبة: في المجموعة الأولى، تكتب الشاعرة عن رمزية المكان في ما يجسِّده من ماهية خالدة للأرض، بمعنى أنها تحصِّن الحاضر بالمستقبل؛ في حين أنها في المجموعة الثانية تستعين بالماضي لتحصين الحاضر، وتستمد من ذكرياته ما يشحذ الحواس ويمنحها قابليةَ المواجهة اليومية الطازجة لواقع الحرب الأليم.

يستعرض إپُّوليتو في مقدمته القيِّمة لهذا الكتاب المحطاتِ الرئيسيةَ في حياة تويني وفي تجربتها الشعرية، مشيرًا إلى أن قدومها إلى الشعر كان حافزه الأساسي فقدانها المبكر لابنتها، ورغبتها في إنشاد وطنها حبَّها العميق له. حبها هذا لم ينحصر في منطقة معينة أو فئة من الناس أو حقبة زمنية، بل توسَّع ليشمل جغرافيا وطن وتاريخه بأكمله، موزاييكه من موزاييك روح الشاعرة التي تطعَّمت بشاهق الجبال مثلما بعميق البحار، وبأديان ولغات وحضارات وثقافات من الأطياف كلِّها. وهو يلفت إلى نشاطها في المجال السياسي، وخصوصًا في أعقاب حرب حزيران 1967، وإلى أنها كانت ابنة دپلوماسي وزوجة رجل سياسي، مما سمح بتعدد أسفارها وأماكن إقامتها؛ إذ إنها عاشت في كلٍّ من لبنان واليونان وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. في باريس، حازت في العام 1973 على جائزة قيِّمة من الأكاديمية الفرنسية عن مجموعتها قصائد من أجل قصة؛ وفي هذه العاصمة أيضًا، وبعد مضي ستة عشر عامًا على رحيلها، تم عرضُ عمل مسرحي مستوحى من مجموعتها حزيران والكافرات. أشعارها تُرجِمَتْ إلى اللغتين الألمانية والإيطالية، عدا العربية طبعًا، في حين يسعى هذا الكتاب إلى اللحاق بركب ما فات اللغة الإنكليزية منها.

وعي اللغة

في رأي إپُّوليتو أن مجلة شعر اللبنانية كان لها تأثيرها على الشاعرة في ما يبيِّنه نهجُها الحداثوي في الكتابة. غير أننا لا نميل إلى مجاراته في ما يقول، ولا نجد منطقيًّا ربطَ مسار شاعرة فرنكوفونية تأثرتْ حكمًا بشعراء فرنسيين طليعيين، مثل رامبو ولوتريامون وبودلير، وبحركات شعرية حداثية، مثل الحركة السوريالية، وبكلِّ من شبَّ من قريحة الشعر أو مسَّها لغةً أو مفهومًا في الثقافة الفرنسية، بمسار شعراء انشغلوا في مختبر الكتابة بلغة أخرى. لا يمكن فصلُ وعي الشاعر عن وعي اللغة التي يكتب بها؛ وللغة الفرنسية مختبراتها التي استفادت الشاعرةُ من تجاربها قبل مجلة شعر وبعدها. وبما أن الشعر أمنع أبواب اللغة، فهي ما كانت لتُسكِنَ خيالَها ووجدانَها خيالَ هذه اللغة ووجدانَها، مقتحمةً هذا الباب تحديدًا، لولا أنها كانت تألفها ألفةَ الجنين للرحم، مرتويةً من ماضيها، ومسلَّحةً بإمكاناتها، وممتلكةً بريق تطلعاتها. صحيح أن الرصيد الثقافي للشاعرة لا يمكن حصرُه في لغة أو حضارة واحدة، ولا في مرجعية جغرافية أو زمنية واحدة، لكن الصحيح أيضًا أن الكاتب هو اللغة التي يكتب ويُكتَب بها، يؤثِّثها وتؤثِّثه بالتجارب والإمكانات والتطلعات، وأنه يتعدد بتعدد لغاته. في هذا المعنى، فإن ناديا تويني ما كانت لتكتب بأية لغة أخرى ما كتبتْه بالفرنسية، ولو أن الفصل بين بريق عينيها وبريق كلماتها كان سيظل صعبًا. في هذا المعنى أيضًا، فإن القول بتأثرها بحركة مجلة شعر تصعب معاينتُه في تجربة أفصحت عن شاعريتها بأدوات مغايرة فرضتْها اللغة التي كُتِبَتْ بها.

موت لا يبتلعه الموت

يقف إپُّوليتو في مقدمته عند بعض ركائز المعتقد الدرزي، لكونه نبعًا رئيسيًّا من بين ينابيع روحانية وفلسفية وميتافيزيقية عدة روَّتْ روح الشاعرة، في محاولة منه لمعاينة مدى انعكاس ما تأثرتْ به من مفاهيمه على أشعارها. وفي رأيه أن دورة الحياة والموت المتعاقبة التي تمثل مسار النفس البشرية في مفهوم التقمص في العقيدة الدرزية ينسحب على الأرض أيضًا في أشعار تويني – هذه الأرض التي وإن احترقت وتلاشت فثمة للفينيق رماد تُحفَظُ ذاكرتُه تحت اللسان، فلا يبتلع الموتُ موتَه. إيمان الشاعرة بالتقمص يعزِّزه، بحسب إپُّوليتو، قولُها: "أنا أنجو من رفاتي/ وأعلم من الذاكرة مستقبل زمني". وها هي قد نجت فعلاً، بعد أن تقمَّصتْ روحُها جسدًا آخر، من كلمات – وهل غيرها في الأرض مَنْ يستحقُ روحها؟! يبدو المنحى التنسكي في أشعار تويني، الذي مبعثه السعي إلى المعرفة المطلقة، دليلاً آخر على تأثرها بالمعتقد الدرزي. لكأنها في هذا السلوك تلبِّي شروط المعرفة المقدسة لدى هذا المعتقد، التي هي امتياز لا يناله إلا أولئك الذين خلت نفوسُهم للخالق وحده. مبدأ التوحيد في هذه الديانة، وقيم مثل المساواة والعدل واحترام الحقيقة ومقت التعصب وغيرها، كلها أيضًا تجد نظيرها في مبادئ الشاعرة وقيمها. وفي هذا الشأن، يُحيلنا إپُّوليتو إلى بعض مقالات الشاعرة من ضمن أعمالها النثرية الكاملة التي صدرت عن دار النهار في العام 1986، ويرى أن ما كتبتْه الشاعرةُ عن كون قصائد الحب في التراث الشعري الدرزي تستثني كلَّ ما لا يصب في حبِّ الخالق والوطن، إنما ينطبق على أشعارها نفسها، أو على الأقل على مجموعتيها الأخيرتين، مما يُوحي أكثر فأكثر بنوع من الالتزام الوجداني من الشاعرة، ليس فقط بمفاهيم هذه الديانة، بل وبأدبياتها أيضًا.

تاريخ مؤنث

يقول إپُّوليتو ما معناه إن الكتابة، التي كانت بدايةً وسيلةَ الشاعرة في رثاء ابنتها، أضحت لاحقًا وسيلتَها في رثاء وطنها. الكتابة عن الموتى تبقيهم أحياء! الكتابة عن التاريخ تُدخِله المستقبل. ثم لا ننسى ما للكتابة من دور تطهيري cathartic وعلاجي في مساعدة الأحياء للتعاطي مع فكرة الموت بموضوعية أكبر. زمن الحرب، كان الشعر هو المخلِّص الوحيد للشاعرة. كلمة واحدة منه، تهطل من السماء، فتمحو عن القبر كلمة "قبر". ثم إن للشعر مكانه وزمانه المتخيَّلين اللذين كانا يشكلان ملاذًا للشاعرة من جحيم الواقع. بالشعر أعادت الشاعرةُ صياغةَ وطن من رماده. فثمة في المخيلة والذاكرة ما يمنح الدمعةَ عينًا، والرمَّة ذمَّة، وسواد الدخان حدَّة الخضرة في حشيشة القلب. وثمة ما يسبق الحياة ويلي الموت، الذي ما كان إيمانُ الشاعرة العميق ليستبدل بكلمة سرِّه كلمة "عدم".

تكتب الشاعرة: "قريبًا، الأرض الموقوفة في عزِّ طيرانها/ تنفتح كرمانة/ لشموس الفضاء". في هذا القول ما يوحي بأن انعدام حركة الواقع، وتوقف الوجود عن التنفس لم يدفعا الشاعرة إلى إغلاق كتاب الكون والاستسلام للنوم. هي ظلت تقرأ، حتى بعد موت الكلمات كلِّها. تقرأ ليس فقط ما امَّحى، بل ما لم يُكتَب أصلاً، وتستلهم، كما الأنبياء، العطش الذي سيرويه ماءٌ لم يحبل به الزمانُ بعد. الحرب جعلتْها تسير إلى الأمام، لا إلى الخلف. وهي، وإن كانت تحفر القبور والجروح برؤيتها المنقِّبة، فثمة ملائكة على رموشها كانت تمنح الألم أجنحة، والحزن نورًا، كيما تحلِّق المدنُ والكائنات فوق جثثها ناظرةً إلى نفسها من عَلٍ كما تنظر الحكمةُ إلى كلفة الدرس.

كتابة التاريخ التي هي حكر على الرجال (!) شأنٌ شغل الشاعرة في صميم أشعارها، ربما لتجعلنا ندرك أن التاريخ لا يشبه نفسه في دفاتر امرأة، وخصوصًا امرأة مثلها. كانت تويني امرأةً فاتنةَ الروح، غنيةَ الثقافة، عميقةَ الوجدان؛ وبقدر ما كانت معاصرة وعَلمانية في سلوكها ظاهرًا وباطنًا، كان تفكيرها مأخوذًا بعوالم ميتافيزيقية تتجاوز في مكنونها حدود الأديان. التاريخ الذي كتبتْه الشاعرة، وخصوصًا في مجموعتها لبنان، عشرون قصيدة من أجل حب، اتسع زمنه ليشمل زمنًا متخيلاً إلى جانب الزمن الواقعي. هو تاريخ فيه الأصل والفروع، الخالد والزائل، ما وقع وما كان يُتوقَّع وقوعُه، وإذًا، ففيه الماء وما امَّحى فيه. وهو تاريخ يرى إلى الحجر، بحسب ما جاء في مقالة جاد حاتم، في كونه رمزًا لما يبقى؛ وإذًا فهو تاريخ ليس بآثار مدن وأطلال حيوات بحسب كتب التاريخ. الشاعرة، إذ تكتب ماضي الحجر، لا تغفل عن عين ذاكرته المفتوحة على الخلود. فهي لا ترى إلى الأشياء بعين يقظة، بل حالمة. وعليه، فهي لا ترى من الحجر نومه، بل حلمه. نساء وطنها هذا، الذي كانت تكتب تاريخه، هن في نظرها قادرات، حتى والكون في هيولى، على اكتشاف ذاك الذي يدوم. وما تفترضه فيهن إنما ينسحب عليها ويمنحها مبررًا كافيًا كي تكتب في دفاترها تاريخًا آخر لم يقرأه التاريخ، لأنه تاريخ مؤنث لا يُقاس فيه الشيءُ بحجمه، إنما بحجم المعرفة به؛ وهي، في حال الشاعرة، معرفة كوَّنها الحب والإيمان أكثر مما كوَّنها تعلُّم التاريخ نفسه.

مجاز مضاد

في نبذة عن الحرب الأهلية اللبنانية، يوجز لنا إپُّوليتو بعض أهم أسبابها ومجرياتها وآثارها المدمِّرة على شتى الأصعدة. غايته في ذلك الإحاطة بالظروف الموضوعية التي كُتِبَتْ خلالها القصائدُ المترجمة في هذا الكتاب، مما يتيح للقارئ إمكانًا أكبر لفهمها. ومع أن نيويورك كانت مكان إقامة الشاعرة بدءًا من العام 1977، حيث شغل فيها زوجُها، غسان تويني، منصب ممثل لبنان في الأمم المتحدة، إلا أنها بالطبع لم تكن بعيدةً عن الظروف المأسوية التي كان يعيش فيها وطنُها، لاسيما أنها كانت تزوره باستمرار وتتحسس أهوال حربه ومعاناته عن قرب. ويؤكد إپُّوليتو أن الحرب في لبنان لم تكن حرب المرأة ولا خيارها؛ فهي لم تكن في موقع الفعل، بل ردُّ الفعل. ويشير إلى بعض الكتابات النسائية، ومنها كتابات الشاعرة، التي عمدت إلى انتقاد لغة الحرب الذكورية وكليشيهاتها، وشددت على ضرورة التخلص من مصطلحاتها الإيديولوجية الطنانة. وليس أدل على موقف الشاعرة من الكلمات الكبيرة الفارغة، ومن تلك الشعارات التي كانت تدل على الشيء وضده فيما تحمله من معاني التضليل والخداع، من قولها إنه كان سهلاً أن يُؤخذ الجبل على أنه البحر! أو قولها:

فكرة تُطلَق ورجل يخرُّ ميتًا/ دومًا أحمر داعر نفوذ الكلمات/ أشد فتكًا من إيماءة/ أولئك الذين يعيشون في ضوء الكلمة/ فوق حصان الشعارات الهارب/ أولئك/ يحطِّمون نوافذ الكون.

وتعدَّى موقف الشاعرة رفض مصطلحات الحرب إلى رفض بيئتها المحكومة بالعنف الذكوري ونواميسه العاتية. لذا كان عليها أن تجد طريقةً تساعدها في التغلب على هذا الواقع. وهي لهذا، بحسب إپُّوليتو، لجأت إلى المجاز، وراحت تقرأ وتكتب الأشياء بالاستعارات. فها هو الوطن يضحي أمًّا تحبل بها، وها هي الذكريات تأخذ شكل حبل سُرِّي موصول إلى كلِّ وجه. هي ابنة هذه الأرض؛ فلا عجب، إذن، أن تحبل بها الأرض، وأن تلدها، وأن ترضعها حليبها. ولا عجب أيضًا في أن يكون لهذه الأرض حيضٌ يُسفَك فيه دمُ الحقد الحار.

هذا الوصف هو صورة شعرية شديدة التهذيب مقارنةً مع الواقع السافر على الأرض. ويبقى السؤال: هل يستطيع الشعر أن يحلَّ مكان الحقيقة؟ هل استطاعت الشاعرة أن تتغلب على الحرب بأن رأت إليها بوصفها وضعًا بيولوجيًّا شرسًا، هو، على فداحة آلامه، قد يدل، في ما يدل، على الخصوبة والتجدد؟ وفي معنى آخر، هل الموت للشاعرة لم يكن "مميتًا" إلى الدرجة التي لا يعود معها يُنبئ بولادة جديدة؟!

الجواب على هذا السؤال يكمن في قصائدها نفسها، التي بانت فيها تتحدَّى الموت، وتأخذ على عاتقها مهمة الدفاع عن أرضها ونفسها، هي التي كانت تتخبط وداء السرطان الذي أودى بحياتها في العام 1983. قصائدها تُظهِرُ قدرتَها على تجنيد كلمة "حرب" ضد الحرب وكلمة "قتل" ضدَّ القتل. فهي استعارت الكثير من لغة الحرب المدمِّرة لتبني بها قلعة حبِّها، ولتكشف عن موهبتها الخارقة في تسخير أدوات الموت لإحياء الحياة. لقد صنعت من الرصاص عقدًا، ومنحت رعونة الشكل معنى الياسمين. قصائدها لم تغرف من قاموس الحُبِّ لتجمِّل الواقع، بل غرفت من بشاعة الواقع ما جعلت منه كلمات حب. وها هي ذي تأخذ كلام الموت بين يديها، فتنبت له أجنحة ويطير: "الأرض ماتت من الجمال/ مقتولةً بانفجار ضحكة/ قنبلة في الأرض جوَّفت ابتسامة".

سماء الكتابة

بين الأرض والشعر علاقة كانت توليها الشاعرةُ بالغ اهتمامها، متأثرةً في ذلك بكتابات أندريه شديد وصديقها الشاعر فؤاد غبريال نفَّاع. لا بدَّ أن تكون للشاعر أرض متخيلة تحميه من أرض الواقع. وقد كانت للشاعرة، كما تقول، "أرضها الشعرية" التي كانت مأهولةً بالكامل بذكريات الماضي، واستعارات الحاضر، وتوقعات المستقبل. وهي لم تضع لها أرشيفًا إلا رغبةً منها في مزيد من الفهم لرموزها والاستيعاب لخفاياها. لم تكن الشاعرة لترضى بأن تحدِّد لها الحربُ هويتها ومستقبلها؛ فالحرب كانت واقعًا يقتل على الهوية ويقتل الهوية، والطريق فيه إلى المستقبل مسدود. لذا كان لا بدَّ لها من خلق واقع تخييلي آخر، يتحقق وجودُها من خلاله بأسمى تجلِّياته، ويشرف على مستقبل تتقمص فيه الروحُ حياةً جديدة.

الكتابة كانت وسيلتها في خلق أرض شعرية على أنقاض حرب أهلية، ووسيلتها في طرح أسئلة لانهائية حول حقيقة الوجود والهوية: "هل ولدتُ من كذبة/ في وطن لا وجود له؟/ هل أنا قبيلة على ملتقى دماء متعاكسة؟/ .../ مَنْ يجعلني حاضرًا؟" إذًا، العالم "الآخر" الذي كانت تطمح إليه الشاعرة لم يكن عالمًا وهميًّا، كرتونيًّا، خرافيًّا، زهريًّا، تسعى من خلاله إلى الهروب من الواقع عبر التقوقع في كذبة والتحصن بأسوار التجاهل، بل عالم لحمه ودمه من الحقيقة، تلك الحقيقة المتخيَّلة في خيالها عن كذب التاريخ، وضلالة الحاضر، وغموض المستقبل. أسئلتها القلقة تشير إلى أنها ما كانت لتستعيض عن الواقع الحقيقي بآخر وهمي، بل بآخر يوازيه في الوجود، لكنه أكثر "حقيقية" منه، لأن حقيقته تقوم لا على الإقرار بواقع الحال، بل على السؤال وعلى إعمال الذاكرة والخيال. هذه الشاعرة لم تطرق باب المخيلة جبنًا وهروبًا، إنما كان ذهابها إلى الـ"هناك" مغامرة حقيقية، جازفت لأجلها بالحقيقة نفسها، وجنَّدت لها جيوش روحها، مسلحةً بحواس من بلور. هي لم تمنِّ النفس بالوعود: فقد كانت تعلم مسبقًا أن مغامرتها قد لا تقودها إلى أرض الميعاد ولا إلى أية أرض أو حقيقة مطلقة؛ لذا فقد جعلت من وسيلتها، أيضًا، هدفًا لها، جاعلةً من الكتابة نفسها أرضها المنشودة. هكذا لم يعد ثمة فرق بين السؤال وجوابه، وباتت الحقيقة للشاعرة هي نفسها هذا الذهاب الفاتن إليها، مثلما إيثاكى، بحسب كفافيس، هي الرحلة إلى إيثاكى.

مسك البداية

يخلص إپوليتو إلى القول بأنه لا شكَّ في أن ناديا تويني قد أضحت بعد الحرب من رموز وطنها الهامة، ومن الأصوات النسائية التعبوية التي خلَّفتْ صدًى كبيرًا بين نساء مجتمعها. وهو يحيل هذين الأمرين إلى أسباب ثلاثة: انهماكها في إعادة كتابة التاريخ والواقع اللبناني من وجهة نظر الفئة المستضعَفة، وتوقها إلى الوحدة والتلاحم بين أبناء مجتمعها، وأخيرًا، سعيها المتواصل في جعل اللغة نوعًا من الشهادة والفعل الروحاني. وهو قد أبى إلا أن يختم مقدمته بمسك الشاعرة، نافثًا أريجها الروحاني عبر شهادة كتبتها في العام 1982، وقام زوجُها بترجمتها إلى الإنكليزية. فيها تقول: "أنا أنتمي إلى بلاد تنتحر كلَّ يوم/ بينما يغتالونها" – ولكم كانت محقةً في تشخيصها لمرض هذا الوطن، المزمن – وهل حاله الآن أفضل مما كان؟!

يصعب فضح جمال روح هذه الشاعرة حتى أقصى مداه. فهو جمال تكاد اللغة ألا تقوى عليه، حتى تلك التي كتبت هي نفسها بها! وإن كنتُ سأفعل الشيء نفسه بمسكها فليس لأني في صدد إنهاء أفكاري عنها، بل لأني في صدد إخفاء قلبي عن القارئ، وأنا أبدأ بها من جديد.

فتعالوا نقرأ هذه التي رحلت إلى شمال الكون البعيد، والجنوب فيها أقرب إلينا من حبل الوريد!

*** *** ***

نُشِرَ ملخص عن هذه المقالة في النهار، 25 آب 2006


[1] شاعرة لبنانية مقيمة في الولايات المتحدة، إيميلها: amalnawwar@yahoo.com.

[2] Nadia Tuéni, Lebanon/Liban: Poems of Love and War/Poèmes d’amour et de guerre, Bilingual Edition, Edited by Christophe Ippolito, Translated by Paul B. Kelly and Samuel Hazo, Syracuse University Press, 2005.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود