|
حتى نتذكَّر ريتشل كوري!
(1979-2003)
إعداد: المحرِّر[*]
تبدأ نهاية حياتنا يوم نسكت عن الكبائر. مارتن لوثر كنغ الابن
سيكون هناك مَن يريد تسييس موتها. سيكون هناك مَن يقول إنها كانت ضحيةً بريئة. وسيكون هناك مَن يقول إنها ماتت لأنها كانت في المكان الخاطئ في الوقت الخاطئ. لكنْ، على غير ضحايا مركز التجارة العالمي الأبرياء يوم الحادي عشر من أيلول المأساوي، لم تمت ريتشل كوري لأنها كانت في المكان الخاطئ في الوقت الخاطئ. وريتشل كوري لم تكن بريئة. ريتشل كوري ماتت لأنها كانت في المكان الصحيح في الوقت الصحيح. المكان والوقت لا يهمان. ولا يهم كذلك في نظري مِن أجل مَن وفي سبيل ماذا ماتت في ذلك اليوم. حسبي أن أعرف أنها ماتت لأنها كانت مبالية. لم تكن مضطرة أن تكون هناك، لكنها كانت. كانت هناك لأنها آمنت بأن إيجاد عالم أفضل أمر ممكن، وآمنت بدورها في إيجاد مثل هذا العالم. لم تكن بريئة. كانت على علم بما تجازف به، كانت على وعي بالخطر. ومع ذلك، جازفت بكلِّ شيء لأنها كانت تعلم أيضًا أن ثمة أشكالاً من الموت أسوأ وأكبر مقتًا عند الروح بكثير من الموت نفسه. Quidnovi
عجز الشاب الإيطالي فابيو تشييه عن التعبير عن شعوره بالصدمة والحزن لاستشهاد ريتشل كوري، زميلته في حملة الحماية الشعبية الدولية للشعب الفلسطيني. قال: "لا أستطيع أن أعبِّر بكلمات عن رسالتي لإسرائيل... فاللسان عاجز عن الكلام." لقد شارك ذلك الشاب المدافع عن حقوق الإنسان والشعب الفلسطيني في جنازة رمزية للمناضلة الأمريكية التي دفعتْ حياتَها ثمنًا لمبادرتها الإنسانية والسياسية. انطلقت الجنازة من أمام مكتب المنسق الخاص لنشاطات الأمم المتحدة "أونسكو" غرب مدينة غزة، وصولاً إلى نصب الجندي المجهول وسط المدينة، حيث وُضِعَ تابوتٌ ملفوف بالعلم الفلسطيني أسفل النصب، قبل أن ينهال قياديون وممثلون عن المنظمات الأهلية والمجتمع الفلسطيني بأكاليل الزهور على النعش. وبكى بعض النساء الفلسطينيات كوري في أثناء الاعتصام عند مدخل "أونسكو"، في حين بدا التأثر واضحًا على وجوه العدد القليل من الأجانب الذين شاركوا في الجنازة الرمزية. في كلمتها، استهجنتْ غودون بِرتِنوسن، المفوضة المقيمة لـ"جمعية مساعدات الشعب النرويجي"، المقيمة في مدينة غزة، زعمَ الحكومة الإسرائيلية بأن الجندي سائق الجرَّافة لم يرَ ريتشل وهي مرتدية الزيَّ المميز الخاص بأعضاء الحملة الشعبية. وقد قرر الرئيس الراحل ياسر عرفات اعتبار كوري شهيدة، ومنحها قلادة "بيت لحم 2000"، وهو أرفع وسام فلسطيني، ويُمنَح عادة لرؤساء الدول ورؤساء الوزراء ورجال السياسة والقادة. مقتطفات من رسالة
والدا ريتشل في مؤتمر صحافي (29/09/2003). وقد علَّق والدا ريتشل، كريغ وسِندي كوري، على الجريمة بأنهما فخوران بموت ابنتهما وهي تؤدي رسالتها الإنسانية: إننا في فترة حداد، ومازلنا نتقصى التفاصيل من وراء موت ريتشل في قطاع غزة. لقد أنشأنا أولادنا على تقدير جمال المجتمع والأسرة العالميين، ونحن فخوران بأن ريتشل استطاعت أن تحيا قناعاتها وبأنها كانت حاضرة دومًا لمساعدة الإنسان حيثما وُجِد. لقد وهبتْ حياتَها لحماية الناس العاجزين عن حماية أنفسهم. فيما يلي مقتطفات من رسالة أرسلتْها ريتشل إلى والديها بتاريخ 7 شباط 2003: إنني في فلسطين منذ أسبوعين وساعة الآن، ومازالت الكلمات التي بحوزتي لوصف ما أشاهد قليلة جدًّا. فمن الصعب أن أفكر في ما يجري هنا عند كتابتي لهذه الرسالة إلى الولايات المتحدة. لا أعلم ما إذا كان أطفال كثيرون هنا عاشوا يومًا من دون ثغرات قذائف دبابات في جدران بيوتهم ومن دون أبراج جيش احتلال يرصدهم باستمرار من الآفاق القريبة. أعتقد، مع أنني لست متأكدة تمامًا، أن أصغر أولئك الأطفال حتى يدرك أن الحياة ليس على هذه الشاكلة في كلِّ مكان. [...] الأطفال يحبون أن يجعلوني أجرب لغتي العربية المحدودة، ويسألونني: "كيف شارون؟" و"كيف بوش؟"؛ وهم يضحكون عندما أرد بلغتي العربية المحدودة: "بوش مجنون!" و"شارون مجنون!" بالطبع ليس هذا بالدقة ما أعتقده، وبعض اليافعين الذين يجيدون الإنكليزية يصوِّبونني: "بوش موش مجنون... بوش رجل أعمال." اليوم تعلَّمت أن أقول إن "بوش أداة"، لكني لا أعتقد أن المعنى تُرجِم ترجمةً صحيحة. ثم تابعت ريتشل، كأنما هي تستشرف موتها: [...] أفكر في أن أيَّ مقدار من القراءة وحضور المؤتمرات ومشاهدة الأفلام الوثائقية وسماع كلام الناس ما كان ليجعلني مستعدةً لمواجهة واقع الوضع هنا. ليس في إمكان أحد تصوره إلا إذا شاهده عيانًا؛ وحتى عندئذٍ فإنه يدرك دومًا إدراكًا جيدًا أن تجربته لا تمثل الواقع بأيِّ حال من الأحوال: ماذا عن الصعوبات التي سيواجهها الجيش الإسرائيلي لو أنه قتل مواطنًا أمريكيًّا أعزل؟ وماذا عن حقيقة أن لدي نقودًا لشراء ماء بينما الجيش يدمر الآبار، وحقيقة أن لدي خيار المغادرة؟ وأضافت: أنا في رفح الآن، وهي مدينة تضم 140 ألف نسمة. ورفح كانت موجودة قبل 1948، لكن 60% من الناس هنا لاجئون وُطِّنوا هنا بعد تهجيرهم من ديارهم في فلسطين التاريخية التي هي الآن إسرائيل، أو هم من ذرية أولئك اللاجئين. وقد قُسمت رفح إلى نصفين عندما أعيدت سيناء إلى مصر. والآن يقيم الجيش الإسرائيلي جدارًا ارتفاعه أربعة عشر مترًا بين رفح في فلسطين والحدود، يقتطع "منطقةً حرامًا" من البيوت المتاخمة للحدود. وقد هدمت الجرافات كليًّا 602 بيتًا، وفقًا للَّجنة الشعبية في مخيم رفح. أما عدد البيوت المدمرة جزئيًّا فيفوق ذلك. [...] اليوم، فيما كنت أمشي على أنقاض منازل دمَّرها الإسرائيليون، سمعت صياح جنود مصريين من الجانب الآخر للحدود ينادون: "ارحلي، ارحلي!"، فيما كانت دبابة إسرائيلية تقترب من المكان. [...] أواجه صعوبة في الحصول على الأخبار حول ما يحصل في العالم. وقد سمعت أن الحرب الأمريكية المحتملة على العراق باتت محتمة. كما يوجد هنا الكثير من الحذر حول احتمال إعادة احتلال غزة. نعمل هنا من غير توقف. في بعض الأحيان، علينا التواجد ليلاً تواجدًا مستمرًّا لحماية آبار المياه من القوات الإسرائيلية التي دمرت الآبار الرئيسية. [...] إنني أومن بأن بلدتي، أولمپيا، تستطيع تقديم الكثير لرفح عبر إقامة علاقة اجتماعية مباشرة مع الناس هنا. يوجد في رفح الكثير من الأساتذة ومجموعات لرعاية الأطفال في حاجة إلى المعونة. إنني أتابع ما يحصل في الولايات المتحدة من تحركات وتظاهرات ضد الحرب. وهذه التحركات تجعلني أشعر بالاطمئنان حول ما أقوم به في فلسطين. إذ إنني أقول دائمًا للناس الذين ألتقي بهم هنا إن شعبي في الولايات المتحدة لا يدعم سياساتِ حكومتنا، وإننا نتعلم من التجارب الدولية كيفية مقاومة هذه السياسات ومواجهتها. وفي مقابلة مع مراسل قناة الجزيرة، قبل استشهادها بساعات، قالت كوري: دعاني الأطفال إلى مشاركتهم نشاطَهم في هذا الاحتفال. فهؤلاء يعيشون حقًّا حياةً صعبة: معظمهم خَبِرَ تجربة فقدان أحد أقاربهم أو هدم منزل العائلة. معظمهم يشرب مياهًا غير صالحة للشرب. إنهم يعيشون مع أصوات المدافع والرشاشات بشكل مستمر. فالمروحيات فوق رؤوسهم، والمنازل تُهدَم من حولهم. إذًا، سأفعل أيَّ شيء لمساعدة هؤلاء الأطفال على التصدي لما يكابدونه. أنا مستعدة لتقديم العون لهم، وإنني مندهشة من قدرتهم على العمل وعلى القيام بأعمال إيجابية، على الرغم من الكم الهائل من المعوقات من حولهم. أعتنق بكلِّ حماسة الرسالة التي عبَّر عنها الأطفال بأن بوش مجرم حرب. فإذا كانت أمريكا تقوم فعلاً بإرساء العدل والأمن الدوليين، لماذا لا تساند المحكمةَ الجنائيةَ الدولية في التصدي لمجرمي الحرب، وعلى رأسهم أركان الإدارة الأمريكية التي يتزعمها بوش؟! تفاعلات الجريمة فيما اكتفت واشنطن وقتذاك بالمطالبة بفتح تحقيق حول مقتل كوري، دون إدانة الجريمة، اعتبر الجيشُ الإسرائيلي أن "الجرافة صدمت الفتاة عَرَضًا بعد أن اقتربت منها كثيرًا، على الرغم من أنها تلقَّت أوامر بالابتعاد". وقال ناطق باسم الجيش الإسرائيلي إن "زاوية الرؤية لسائق الجرافة المدرعة كانت محدودة" وإنه "في الغالب لم يرَها". وأوضح الناطق العسكري أن سائق الجرافة لم يتم توقيفه وأن "التحقيق لم ينتهِ بعد".
وقد أكد مسئول طبِّي فلسطيني وشهود عيان أن الناشطة كوري، من فرق التضامن مع الشعب الفلسطيني، قُتِلَتْ عندما دهستْها جرافةٌ إسرائيلية حاولت الناشطةُ صدَّها مع ناشطين آخرين في أثناء تجريف أراضٍ فلسطينية في حيِّ السلام برفح، جنوب قطاع غزة.
وقال الطبيب علي موسى، مدير مستشفى أبو يوسف النجار في رفح، أن كوري استشهدت عندما حاولت صدَّ جرافة عسكرية جاءت لتجريف أراضٍ بحي السلام، لكن الجرافة دهستْها، مما أدى إلى مقتلها بعد تحطم جمجمتها وأضلاعها.
جثمان الشهيدة كوري في مستشفى النجار برفح. نقلت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية أن الدكتور علي موسى قرَّر أن سبب الوفاة كان "كسورًا في الجمجمة والصدر". (محمد المغير) وكانت الناشطة الأمريكية في رفقة سبعة أمريكيين وأوربيين آخرين ناشطين بهدف منع أعمال التجريف والهدم التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في رفح. وقال شهود فلسطينيون وأجانب أن الجرافة العسكرية الإسرائيلية "قامت بدفن هذه الناشطة عندما جلست على الأرض في محاولة منها لمنع التجريف، لكن الجرافة لم تعبأ بها ودفعتْها ثم دهستْها". ***
عامٌ على الجريمة ريتشل كوري: ثمن بحجم الوفاء
مرَّ عام على رحيل ريتشل. ومثل كلِّ النهايات التي تبدأ باللاإرادة، ثم تنزاح صوب شيء آخر، تمضي مناضلةٌ أخرى نحو قناعة دافعُها الضمير، مخلِّفة وراءها إرثًا من المواقف الفاضحة لِلاأخلاقيةٍ مفزعة تسيَّدت عقودًا وجرَّبتْ كلَّ الوسائل لثني شجرة زيتون أو برتقال أو كسر سنديانة أو إسقاط راية. لكن التضاريس لا تتغير إلا بفعل عوامل موضوعية، لا عوامل طارئة، عوامل لا يصنعها أو يخطِّط لها أولئك الذين لا يرون العالم إلا من ثقب إبرة. لقد قُتلتْ ريتشل. لكنها، بعكس آخرين كُثُر، فهمت كمَّ وكيفَ الحقائق المتسيِّدة التي يروَّج لها في بلادها، فأعادت صياغتَها صياغةً واضحة، لتبدو كم هي مرعبة النتائج التي أدت إليها المعايير المزدوجة مع أكثر القضايا حساسية – معايير أول ضحاياها أناسٌ لا يملكون من القوة إلا إرادتها، مستجيرين بمفاهيم الحرية والكرامة وحق الإنسان في الحياة. صورة موت ريتشل ليست أبشع من صورة ذلك الشهيد الفلسطيني الذي حمله الجنود الإسرائيليون بعد قتله كحيوان مذبوح، وليست أبشع من صورة المرأة الحامل التي قضت مع وليدها في سيارة الإسعاف عند حاجز إسرائيلي في الضفة؛ كما أنها ليست أبشع وَقْعًا من هدم البيوت بقصفها بطائرات F16 على رؤوس ساكنيها، أو من صور الجثث المتفحمة والممزقة من جراء الاحتلال الأمريكي للعراق، ولا حتى أكثر هولاً من مخاوف الطبيب الفلسطيني الذي أرادت الجرافات الإسرائيلية أن تهدم بيته، فتصدَّت لها ريتشل بجسدها... صور الموت المجاني واحدةٌ مع تعدد الأمكنة. لكن صورة ريتشل ستبقى عالقةً في الذاكرة لما لها من دلالات المحبة الإنسانية الراقية لكلِّ ما هو حي – محبة دفعتْ ثمنَها ريتشل غاليًا، فجاء الثمن بحجم الوفاء. عبد الكريم العبيدي ***
عام من الصمت على وفاة ريتشل كوري
قبل عام فقط، كان شهر آذار سيحمل لي الأشياء الإيجابية نفسها كما يحملها للكثيرين في مستهل نهاية الشتاء، والوعد بقدوم الربيع، وحتى الصيف. أما في هذا العام، وفي كلِّ عام سيمر في حياتي، سيعني حلول آذار شيئًا آخر قطعًا – ذكرى الموت القاسي لقريبتي ريتشل كوري. ففي السادس عشر من آذار من العام 2003، دهس جندي إسرائيلي ريتشل بجرافة تزن تسعة أطنان عندما كانت تقف بوضوح كافٍ، عزلاء، بسترتها الفسفورية البرتقالية، لتحمي منزلاً فلسطينيًّا اختاره الجيش الإسرائيلي للتدمير. وفي الحقيقة، يُظهِر موتُ ريتشل والرد الذي حصل، والذي لم يحصل، حقائق إجرامية ولاأخلاقية مفزعة: أولاً: ماتت ريتشل عندما كانت تحاول الحيلولة دون تدمير منزل؛ وهو سلوك شائع للجيش الإسرائيلي في سياق عقابه الجماعي الذي ترك أكثر من 12000 فلسطيني دون مأوى منذ بداية الانتفاضة الثانية في أيلول 2000. وهذا السلوك ينتهك القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية جنيف الرابعة. ثانيًا: تم دهس ريتشل بجرافة مصنوعة في الولايات المتحدة، أُرسِلَتْ إلى إسرائيل كجزء من المساعدة الدورية للدولة العبرية التي تقدَّر بثلاثة إلى أربعة مليارات دولار سنويًّا، يدفعها كلها دافع الضرائب الأمريكي. واستخدام الجرافة لهدم منازل المدنيين، ناهيك عن دهس ناشطين عزَّلاً في حقوق الإنسان، ينتهك القانون الأمريكي، بما في ذلك قانون التصدير العسكري الذي يمنع المساعدة العسكرية ضد المدنيين. ثالثًا: تبرئة الجيش الإسرائيلي نفسه من قتل ريتشل ومعارضة إسرائيل إجراء تحقيق مستقل في هذه القضية يُظهِر عدم رغبة إدارة شارون تحمُّل المسؤولية في موت مواطنة أمريكية وجُبن إدارة بوش التي سمحت لدولة أخرى بمهاجمة مواطنين أمريكيين ذوي حصانة. رابعًا: كان موت ريتشل هو الأول في عدة اعتداءات إسرائيلية على مواطنين أجانب في الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد أطلقت النار على برايان أفيري من نيويورك في وجهه في الخامس من نيسان؛ وأطلقت النار على رأس المواطن البريطاني توم هَرندول في الحادي عشر من نيسان، الذي ما لبث أن توفي في 13 كانون الثاني؛ وكذلك المواطن البريطاني جيمس ميللر الذي أصيب وتوفي في نيسان. وحتى اليوم، لم تتم سوى محاكمة الجندي الإسرائيلي المتهم في قضية هَرندول، وذلك بعد أن استجابت الحكومةُ البريطانية – بعد عدة أشهر – للدليل القاطع الذي قدَّمتْه أسرةُ هَرندول. وبما أننا ما نزال قريبين من السادس عشر من آذار، فعلى الأمريكيين، مواطنين ووافدين، أن يتساءلوا: كيف يُقتَل مواطنٌ أمريكي ذو حصانة على يد جندي من دولة حليفة تتلقى مساعداتٍ أمريكية كبيرة وباستخدام منتَج أمريكي الصنع ومدفوع ثمنُه من الضرائب الأمريكية؟ عندما قُتِلَ ثلاثة أمريكيين في انفجار في 15 تشرين الثاني 2003 وهم مسافرون عبر غزة، وصل الـFBI في غضون 24 ساعة ليحقق في الوفيات. وبعد عام، لم يحقق الـFBI، ولا أي فريق آخر بإشراف أمريكي، في مقتل أمريكية قتلَها إسرائيلي. فلماذا المعايير المزدوجة؟ ربما يُظهِر ذلك الحقيقةَ المرعبةَ أكثر من الحقائق الأخرى كلِّها. إليزابيث كوري ترجمة: بديع عفيف ***
رسائل الشهيدة الأمريكية ريتشل كوري إلى عائلتها "لا أصدِّق أنَّ شيئًا كهذا يحدث دون أن يستثير احتجاج العالم!"
20 شباط 2003 ماما، لقد حفر الجيش الإسرائيلي الآن الطريق إلى غزة، وأُزيلَ الحاجزان الرئيسيان. وهذا يعني أن الفلسطينيين الذين يريدون أن يذهبوا ليتسجَّلوا لفصلهم الدراسي القادم لن يستطيعوا ذلك. والناس لا يستطيعون الذهاب إلى عملهم، والعالقون في الجهة المقابلة لا يستطيعون العودة إلى منازلهم، [والناشطون] العالميون الذين اتفقوا على موعد غدًا في الضفة الغربية لن يستطيعوا الذهاب. قد ننجح في الذهاب إذا ما استخدمنا جديًّا ميِّزتنا العالمية، ألا وهي كوننا بيضًا؛ لكن ذلك قد يعني أن نتعرض لخطر الاعتقال والترحيل، مع أن أيًّا منَّا لم يقم بأيِّ تصرف غير شرعي. قطاع غزة مقسم الآن إلى أثلاث؛ وهناك كلام على "إعادة احتلال غزة". غير أني أشك جديًّا في ذلك، لأنني أرى أنه سيكون خطوة إسرائيلية حمقاء من الناحية الجيوسياسية في اللحظة الراهنة. اعتقد أن الأرجح هو حصول المزيد من الاجتياحات الصغرى التي لا تثير حساسية العالم؛ ومن المحتمل أن يحصل الـtransfer الذي غالبًا ما أشير إليه. سأبقى في رفح الآن. لا خطط [عندي] للتوجه شمالاً. مازلت أشعر أني في أمان نسبيًّا. وأعتقد أن الخطر الأرجح، في حال اجتياح ضخم، هو أن أتعرض للتوقيف. إن خطوة إعادة احتلال غزة ستولِّد احتجاجًا أعظم بكثير مما أحدثتْه استراتيجيةُ شارون، القائمة على اغتيال [الفلسطينيين] في أثناء مفاوضات السلام وعلى اغتصاب الأراضي، والتي تعمل الآن بكلِّ قوة على بناء المستوطنات في كلِّ مكان، في بطء لكن في ثقة، لاغيةً بذلك أيَّ احتمال جديٍّ لتقرير الفلسطينيين مصيرهم بأنفسهم. اعلمي أن هناك كثيرًا من الفلسطينيين من ذوي اللطف الجم يعتنون بي. عندي أنفلونزا بسيطة، وقد جئت بمشروبات ليمونية جيدة جدًّا للعلاج. المرأة التي تحتفظ بمفتاح البئر، حيث ننام إلى الآن، تسألني دائمًا عنك. هي لا تتكلم الإنكليزية البتة، لكنها تسأل عن "أمي" مرارًا كثيرة، وتريد أن تتيقن من أنني أتصل بك. حبي لك وللبابا ولسارة وكريس والجميع. ريتشل
27 شباط 2003 (إلى أمها) أحبك. مشتاقة إليك حقًّا. تنتابني كوابيس فظيعة عن دبابات وجرافات خارج منزلنا، فيما أنا داخله. أحيانًا يخدِّرني الأدرينالين أسابيع، ثم يعود الواقع فيضربني من جديد في المساء أو في أثناء الليل. أنا فعلاً هلعة على الناس هنا. بالأمس، راقبت أبًا يقود طفليه الصغيرين، رافعًا يديه على مرأى من الدبابات وبرج القناص والجرافات وسيارات الجيپ العسكرية، لأنه ظنَّ أن منزله سيتعرض للتفجير. أما أنا وجِنِّي فمكثنا في البيت مع عدة نساء وطفلين صغيرين. لقد كان خطؤنا في الترجمة هو ما دفع الأب إلى الظن أن منزله سيتعرض للتفجير، في حين أن الجيش الإسرائيلي كان يفجر لغمًا يبدو أن المقاومة الفلسطينية زرعتْه في الأرض القريبة منا. جرى ذلك في مكان كان حوالى 150 رجلاً قد حُشِدوا فيه يوم الأحد وطُوِّقوا خارج المستوطنة، فيما كان الرصاص يُطلَق فوق رؤوسهم ومن حولهم والدبابات والجرافات تدمِّر 25 بيتًا للمزروعات، هي مصدر رزق 300 إنسان. لقد وقع التفجير أمام تلك البيوت تمامًا، بالدقة عند نقطة دخول الدبابات في ما لو عادت من جديد. وقد روَّعني أن أفكر أن ذلك الرجل شعر أن خروجه مع طفليه على مرأى من الدبابات أقل خطرًا من البقاء في منزله. وكنت مذعورة فعلاً من أن تُطلَق النارُ عليهم جميعًا، وحاولت أن أحول بينهم وبين الدبابة. إن مثل هذا الأمر يحدث كلَّ يوم، ولكن ذلك الأب الخارج مع طفليه اللذين بدا عليهما الحزن الشديد هو ما استرعى انتباهي حصرًا في تلك اللحظة، ربما لأنني شعرت بأن خطأ ترجمتنا هو الذي دفعَه إلى المغادرة! [...] لو تعرضتْ حياةُ ورفاهيةُ أيٍّ منا للاختناق التام، ولو عشنا مع أطفال في مكان يزداد ضيقًا، مكان نعلم – من تجارب سابقة – أن في استطاعة الجنود والدبابات والجرافات أن تأتي من وراءنا في أية لحظة وأن تدمر فيه كلَّ بيوت مزروعاتنا التي زرعناها سنوات طوالاً، وأن تفعل ذلك كلَّه، فيما بعضنا يتعرض للضرب والأسْر مع 149 شخصًا آخرين ساعات عدة – لو حدث ذلك كله، أتظنين أننا قد نحاول أن نستخدم وسائل عنيفة بعض الشيء من أجل حماية ما تبقى من فتات لنا؟ أفكر في هذا، لاسيما حين أشهد البساتين وبيوت الزرع وأشجار الفاكهة مدمرةً – وهي التي استغرقت أعوامًا من العناية والرعاية. أفكر فيكِ، وأفكر في الوقت الطويل المبذول لتنمية الأشياء، وفي أن هذه الأشياء ثمرة عظيمة للحب. أؤمن حقًّا أن أكثر الناس، لو كانوا في وضع مماثل، سيدافعون عن أنفسهم بأقصى قدراتهم. أعتقد أن عمي كريغ سيفعل ذلك. وأعتقد أن جدتي قد تفعله. وأعتقد أني أنا أيضًا قد أفعله. لقد سألتِني، يا ماما، عن المقاومة اللاعنفية. حين فُجِّر ذلك اللغم أمس كسَّر النوافذ كلَّها في منزل العائلة [حيث أقيم]. كانوا آنذاك يقدمون لي الشاي، وكنت ألعب مع الطفلين الصغيرين. أمرُّ الآن بوقت عسير. فأنا أشعر بالألم لأن أناسًا يواجهون الموت يعاملونني طوال الوقت بحبٍّ كبير وبعذوبة كبيرة! أعرف أن ذلك كله سيبدو، [لكم] في الولايات المتحدة، مغالاةً شديدة. ولكن، للأمانة، فإن حنان الناس الكبير هنا، مقترنًا بالدليل الساطع على تعرُّض حياتهم للتدمير العَمْد، يجعل الأمر يبدو غير حقيقي في نظري أنا الأخرى. لا أصدق أن شيئًا كهذا يمكن له أن يحدث في العالم من دون أن يستثير احتجاجًا أعظم! ويؤلمني من جديد، كما آلمني في السابق، أن أشهد مدى البشاعة التي يمكن لنا أن نسمح للعالَم بأن يبلغها. ولقد شعرت، بعد أن تحدثت إليك، أنكِ ربما لم تصدقيني تمامًا. أظن أنه سيكون أمرًا جيدًا، في الواقع، ألا تصدقيني، لأنني أؤمن إيمانًا شديدًا، فوق أيِّ شيء آخر، بأهمية التفكير النقدي المستقل. وأدرك أيضًا علمي أنك تُجرين أبحاثك الخاصة. غير أني قلقة بخصوص العمل الذي أؤديه. ذلك أن الوضع الذي حاولتُ أن أفصِّله أعلاه، ناهيكِ عن أمور كثيرة أخرى، يمثل إلى حدٍّ ما إلغاءً وتقويضًا تدريجيًّا – غالبًا ما يكون خفيًّا، ولكنه هائل على أية حال – لقدرة مجموعة معينة من الناس على الحياة. ذلك هو ما أشهده هنا. [...] على كلِّ حال، أنا أقفز بين المواضيع على غير هدى. فقط أريد أن أكتب إلى الماما وأن أخبرها بأنني أشهد هذه الإبادة المزمنة الخفية، وبأنني مذعورة حقًّا، وبأنني أرتاب في إيماني الأساسي بخير الطبيعة البشرية. على ذلك كلِّه أن يتوقف! أعتقد أنها ستكون فكرة جيدة لنا جميعًا أن نرمي كلَّ شيء خلفنا، وأن نكرِّس حياتَنا لوقف تلك الإبادة! لا أعتقد أن ذلك سيكون بعد اليوم أمرًا متطرفًا. مازلت أريد حقًّا أن أرقص على موسيقى Pat Benatar، وأن أصاحب الفتيان، وأن أرسم رسومًا هزلية لزملائي في العمل. لكنني أريد لتلك الإبادة أن تتوقف. العجز عن التصديق، والرعب: ذلك ما أشعر به. والخيبة! أشعر بالخيبة لأن ذلك هو الواقع الحقير لعالمنا، ولأننا – في الواقع – نشارك في هذا الواقع.
ريتشل كوري في الولايات المتحدة في صورة تعود إلى أيلول 2002. (AP) ليس ذلك أبدًا ما أردته حين جئت إلى هذا العالم. ليس ذلك أبدًا ما أراده الناس هنا حين جاؤوا إلى هذا العالم. ليس ذلك هو العالم الذي أردتِ، أنتِ والبابا، أن آتي إليه حين قررتما أن أكون ابنتكما. ليس ذلك هو ما قصدتُ حين نظرت إلى بحيرة كاپيتال وقلت: "هذا هو العالم الواسع، وإني قادمة إليه." لم أكن أعني أنني قادمة إلى عالم أستطيع أن أعيش فيه حياةً مريحة وأن أوجد – ربما من دون أيِّ جهد – في غفلة مطلقة عن مشاركتي في الإبادة. هناك انفجارات كبيرة أخرى في مكان ما في الخارج. حين أعود من فلسطين ستنتابني الكوابيس على الأرجح، وسأشعر دائمًا بالذنب لعدم وجودي هنا؛ لكنني قادرة على أن أوجه ذلك نحو المزيد من العمل. إن مجيئي إلى هنا هو من أفضل الأمور التي فعلتُ في حياتي. لذا، حين يخيل لِمَن يسمعني أنني مجنونة، أو لو كفَّ الجيش الإسرائيلي عن عنصريته في عدم إيذاء البيض، فالرجاء أن تعزوا سبب ذلك إلى كوني في قلب إبادة جماعية، أدعمها دعمًا غير مباشر، وتتحمل حكومتي مسؤوليةً كبيرة عنها. أحبك، وأحب البابا. آسفة للخطبة اللاذعة. طيب، هناك رجال غرباء بقربي أعطوني الآن بازلاء. لذا عليَّ أن آكل، وأن أشكرهم. ريتشل
28 شباط 2003 (إلى أمها) شكرًا، ماما، لرِّدك على رسالتي الإلكترونية. يساعدني كثيرًا أن أتلقَّى كلمةً منك، ومِن آخرين يهتمون لشأني. بعد أن كتبت إليكِ توقَّف اتصالي بزملائي [من "حركة التضامن العالمية"] حوالى عشر ساعات قضيتها مع عائلة على خطِّ المواجهة في حي السلام، فأعدَّتْ لي العشاء، وكان عندها تلفزيون مزوَّد بكابل. الغرفتان الأماميتان من بيت تلك العائلة غير صالحتين للسكن لأن الطلقات اخترقت الجدران؛ ولذلك تنام العائلة بأكملها (3 أولاد فضلاً عن الوالدين) في غرفة نوم الوالدين. أما أنا فأنام على الأرض، قرب الابنة الصغرى، إيمان، ونتشاطر اللحف. ساعدت الصبي قليلاً في فرض اللغة الإنكليزية، وشاهدنا جميعًا Pet Cemetery – وهو فيلم مروِّع.
كوري في مخيم رفح للاجئين. (AFP) أعتقد أن رؤيتهم لمدى انزعاجي من مشاهدته قد أضحكهم كثيرًا. الجمعة كان يوم عطلة، وحين أفقت كانوا يشاهدون Gummy Bears مدبلَجًا إلى العربية. تناولت الفطور معهم وجلست بعض الوقت مستمتعةً بوجودي في تلك "البركة" الكبيرة من اللحف مع هذه العائلة وهي تشاهد ما بدا لي أشبه بالصور المتحركة صباح السبت [في أمريكا]. ثم مشيت قليلا إلى حي البرازيل، حيث يعيش نضال ومنصور والتيتا ورفعت وأعضاء العائلة الآخرون الذين تبنوني بكلِّ صدق وإخلاص. (للمناسبة، أعطتني التيتا ذات يوم محاضرة عربية إيماءً، تضمنت الكثير من النفخ والإشارات إلى شالها الأسود. قلت لنضال أن يخبرها بأن أمي ستقدِّر عاليًا أن هناك مَن يعطيني محاضرة عن أن التدخين يسوِّد رئتي!) وقد التقيت بزوجة أخي نضال ومنصور التي جاءت تزورنا من مخيم النصيرات، ولعبتُ مع طفلها الصغير. لغة نضال الإنكليزية تتحسن يومًا بعد يوم. إنه هو مَن يدعوني بـ"أختي"، ولقد بدأ بتعليم التيتا كيف تقول بالإنكليزية Hello, how are you?. يستطيع المرء دائمًا أن يسمع الدبابات والجرافات وهي تعبُر؛ لكن هؤلاء الناس فرحون بعضهم ببعض، وفرحون بي. حين أكون مع أصدقاء فلسطينيين أميل إلى أن أكون أقل رعبًا مما أنا عليه حين أحاول أن أؤدي دور مراقِبة لحقوق الإنسان، أو دور الموثِّقة، أو دور المقاوِمة في مجموعات العمل المباشر. إنهم مثال جيد على الصمود المديد. أعرف أن الوضع يؤثر فيهم تأثيرًا عميقًا على جميع الأصعدة – وقد يقتلهم في النهاية –، لكنني مذهولة بقدرتهم على الدفاع عن تلك الدرجة الكبيرة من إنسانيتهم – من ضحك وسخاء وقضاء الأوقات مع عائلتهم – في مواجهة الرعب الهائل في حياتهم، وفي مواجهة الحضور الثابت للموت. لقد شعرت بعد ذلك الصباح بتحسن كبير، وقضيت وقتًا طويلاً وأنا أكتب عن خيبة أن نكتشف (اكتشافًا مباشرًا إلى حدٍّ ما) درجةَ الشر الذي لا نزال قادرين على ممارسته.
كوري تحرق العلم الأمريكي في أثناء مظاهرة في رفح في 15 شباط 2003. (AP) لكن عليَّ أن أذكر، على الأقل، أنني أكتشف أيضًا درجة من القوة ومن القدرة الأساسية للبشر على أن يبقوا بشرًا في أقسى الأحوال – وهو ما لم أعِه من قبل كذلك. أعتقد أن الكلمة الملائمة هنا هي "الكرامة". ليتك تستطيعين أن تتعرفي إليهم. ذات يوم، كما أتمنى، ستتعرفين إليهم! ريتشل ترجمة: سماح إدريس ***
ريتشل كوري
في يوم المرأة العالمي بالهناجر
عقد "ملتقى تنمية المرأة" احتفالاً بالشهيدة الأمريكية ريتشل كوري بمناسبة مرور ثلاثة أعوام على رحيلها، حيث تزامنت ذكراها الثالثة (16 مارس) مع "يوم المرأة العالمي". عُقِدَ الحفل في السادسة من مساء الاثنين 20 مارس بمسرح الهناجر بدار الأوپرا المصرية برعاية الناشطة السياسية فريدة النقاش، وتضمَّن الفقرات التالية: - أمسية موسيقية لعازف العود العراقي نصير شمة. - قراءة مسرحية لرسائل ريتشل أدَّتْها الفنانة سوسن بدر بإخراج حسن الجريتلي. - أمسية شعرية شارك فيها العديد من الشعراء بقصائد مستلهَمة من بطولة ريتشل كوري، منهم: سيد حجاب، حسن طلب، حلمي سالم، محمود الشاذلي، غادة نبيل، فاطمة ناعوت، عيد عبد الحليم، سهير متولي، رشا الصباغ. تضمَّن الحفل كذلك تلاوة رسالة إلى أسرة ريتشل كوري، ووُزِّعت خلاله كراسةٌ مطبوعة تتضمن رسائلها إلى أسرتها. كما تضمَّن البرنامج معرضًا للصور التي رسمها فنانون تحية لها، وشاركت كذلك فرقة الكورال مع عدد من المغنين والموسيقيين. وقد أخرج الاحتفال نصر عبد المنعم. *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة [*] تم إعداد هذا الملف بالرجوع إلى صحف الكفاح العربي (18/03/2003)، الحياة (19/03/2003)، البعث (18/03/2004)، النهار (26/03/2006)، Herald Tribune (17/03/2004). يمكن للقارئ الراغب في الاستزادة أن يراجع موقع الإنترنت المخصص لريتشل كوري على الوصلة: www.rachelcorrie.org. شكر خاص إلى صديقتنا الشاعرة فاطمة ناعوت التي ألهمت، من حيث لا تدري، هذا الإعداد. (المحرِّر) |
|
|