لكَ أنْ تقتلَني ولَنْ تجعلَ منِّي قاتلاً!

جودت سعيد

 

ينقل محمد أركون في مقدمة كتابه قضايا في نقد العقل الديني عن عالِم الاجتماع [المرحوم] پيير بورديو أنه قال:

إذا ما حصل لي أن ركَّزتُ على الموضوعات ذاتها وعدتُ إليها مرارًا وتكرارًا، وإذا ما حصل لي، أكثر من مرة، أن درستُ المسائلَ نفسها وأشبعتُها تمحيصًا وتحليلاً، فإن ذلك عائد ليس إلى رغبة في الاجترار المجَّاني أو الهوس المرضي، وإنما أريد عن طريق هذه الحركة اللولبية في الدراسة (الالتفاف على الموضوعات) أن أصل في كلِّ مرة إلى درجة أعلى وأدق من الفهم للمسائل المطروحة. كما أن ذلك يتيح لي، في كلِّ مرة، أن أكتشف علاقاتٍ خفيةً، علاقاتٍ جديدة لم ألمحْها سابقًا. وبالتالي، فإني لا أفعل ذلك من أجل التكرار أو حبًّا بالاجترار، وإنما من أجل شيء آخر.

إن العنف مرضُ الإنسان، وهو الأسلوب الذي لا يليق به. وإن إنسانية الإنسان هو خروجه من العنف. وإني، حين ألح على هذا الموضوع، دينيًّا وتاريخيًّا وإنسانيًّا، أفعل ذلك لأن سلامة فكر الإنسان تكون على قدر ما توصَّل إليه من براءة من العنف وخروج منه.

إن الإنسان صار قابلاً للفهم – وهذا هو الأساس في بحث هذا الموضوع: إن العنف يبدأ أول ما يبدأ في القلب، في الفكر، في التصور؛ ثم ينتقل ذلك إلى اللسان، وسيلةِ نقل الفكر والتصور إلى إنسان آخر؛ ثم ينتقل ذلك إلى اليد، ليفرض المرءُ تصورَه على الآخر بالعنف والإكراه. وإن يد الإنسان وقوة عضلاته تضخمت إلى العصا والحجر والسيف والسلاح الناري، ثم إلى القنبلة النووية التي شهدت على همجية الإنسان. فعلى الإنسان أن يخرج من هذا الأسلوب العنيف ليرجع إلى أسلوب آخر: أسلوب نقل التصور على أساس العواقب للتصورات. فالتصور والفهم الذي يعطي عواقبَ مفيدةً للبشرية لا يحتاج إلا إلى البيان والتبليغ لإيصاله إلى الآخرين. والعنف في القلب، أي في الفكر، ينشأ من التصور الخاطئ للإنسان في أن أفضل استخدام له يكون بإكراهه.

إن هذا التصور هو الذي يؤدي إلى إعطاء الأولوية للعنف وأدواته؛ حتى إن الإيمان بهذا التصور أدى إلى الاستخفاف بالعلم والكتاب والقلم، كما هو مبثوث في الثقافات البشرية طوال التاريخ وإلى يومنا هذا. وإن الأولوية اليوم هي لهذا الإيمان في التعامل مع الإنسان. وهذا الموضوع ليس صعبًا فهمه؛ فهو واقع عملي أمامنا. ولكن ما أسرع ما نتراجع عن الفهم عند اشتداد الأزمات، فنرجع إلى القيم الأولية التي ترسَّختْ إبان التاريخ والبطولات والتبجيل الخيالي لهذه البطولات العنيفة.

إن الناس يحترمون العالِم، ولا يخطر في بالهم حين يفعلون ذلك أنه صاحب عضلات قوية ومصارع يقضي على خصمه بالضربة القاضية! فهذا له مكان آخر لا يتصل بالعلم والإنسان وقدراته، لا من بعيد ولا من قريب. إن عظمة الإنسان ليست على قدر بطشه. فكما جاء في الحديث: "ليس الشديد بالصُّرَعَة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب." القدرة على "كظم الغيظ" (آل عمران 134) درجة ثانية؛ والأولى أن لا يحدث في قلبنا غيظٌ أصلاً، بل سرور. إننا خرجنا من شريعة الغاب إلى شريعة فهم العواقب وحلِّ المشكلات من غير أن يخسر أحد شيئًا ويربح الجميع. والذي عنده مثل هذا الحل لا يتكون الغيظ والكراهية في قلبه وتصوره، فلا يحدثان أصلاً. وأنا أجد أساس هذا كلِّه في قوله تعالى: "وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكَّرون" (الجاثية 13). فحين نفهم قدرة الإنسان على كشف القوانين والسُّنَن ندرك كيف تمكَّن من التسخير: إن الإنسان سخَّر الحيوانات التي خُلِقَتْ قبل الإنسان فاستأنسها، وباستئناسها زادَ من قوة عضلاته.

ولكن قدرة الإنسان على كشف السنن جعلتْه يستنبط من مشاهداته ومن سُنَن هذه المشاهدات طاقةَ البخار والمحرك البخاري والانفجاري والكهربائي. إن الله، حين قال بعد ذكر الخيل والبغال والحمير: "ويخلق ما لا تعلمون" (النحل 8)، أشار إلى أن "خلق الله" هنا ليس أنه خلق المحرك البخاري، بل خلق السننَ كلَّها، وخلق قدرةَ الإنسان على تسخير هذه السنن. فهذه السنن "الآفاقية" المادية تتواكب مع السنن "الأنفسية" (فصلت 53)؛ وكلا النوعين من السنن – الآفاقية والأنفسية – من مِنَح الله المجانية. وقدرة الإنسان على التعامل مع هذه السنن وتسخيرها هو رأس المال الموهوب من الله للإنسان؛ والإنسان يعمل في رأس المال هذا الذي لا نفاد له. الشموس والمجرات كلها طاقات، وكلها مسخَّر للإنسان القادر على كشف السُّنَن وتسخيرها. وهو لما قال: "ويخلق ما لا تعلمون" – ونحن نقول كما قال ذلك الصوفي: "وهو الآن كما كان" – فقد قصد: يخلق ما لا نعلم في المستقبل.

إن مثل هذا التصور في الكون وعن الكون وللكون ينزع الغلَّ والكراهية من القلب، من تصور الإنسان، فيتصور هذا الكونَ كلَّه مسخَّرًا له – كله رحمة، كله مبني على "فضل القيمة" من رأس المال المجاني، لأن "سخَّره" هي بمعنى كلَّفه عملاً من غير أجرة. فتصوُّر الكون والإنسان بهذا الفهم يجعل في القلب صفاءً ونقاءً وتفاؤلاً لا كدر فيه ولا ظلام ولا يأس، بل صبرٌ على الكشف والتسخير. فلا قلبه يحتوي على الغِلِّ والحقد لآيات "الآفاق والأنفس"؛ إذِ التسخير يأتي بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف بغير حساب: "كمثل حبَّة أنبتتْ سبع سنابلَ في كلِّ سنبلة مائةُ حبَّة والله يضاعف لمن يشاء" (البقرة 261).

ونحن في هذا العصر رأينا من مظاهر قدرة الإنسان على التسخير ما لم يتيسَّر للَّذين من قبلنا ولم يكن ليخطر لهم على بال. فلهذا نحن أقدر على فهم "وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا" من الذين كانوا قبلنا؛ وستكون للَّذين يأتون بعدنا قدرةٌ أكبر منا، حتى يتحقق علم الله في الإنسان – وعلم الله لا نهاية له. فحين يخرج من قلبنا الغلُّ والحقد والكراهية نكون حصلنا على "القلب السليم" (الشعراء 89) وعلى "النفس المطمئنة" (الفجر 27) وعلى التصور الصحيح لهذا العالم؛ فتحل عند ذلك في القلب الطمأنينةُ: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" (الرعد 28). إن ذِكْرَ الله ذِكْرٌ لسُنَنِه وذِكْرٌ لنِعَمِه: اذكروا نعمة الله واذكروا أيامه، اذكروا النِّعَمَ واشكروه، يزدْه لكم، واذكروا نِقَمَه والتصورات الخاطئة لخلقه ولسُنَنِ خلقه. كانت الكهرباء صاعقةً تقتل وتدمِّر، فأمسك بها الإنسانُ وحوَّلها إلى نعمة ما وراءها نعمة، حولها إلى نور ودفء وخدمة – ولم ينتهِ بعدُ تسخيرُها. من هنا نستطيع أن نقول إن الإنسان لا يحصل على السعادة التي هي الرضوان و"النفس المطمئنة" إلا إذا سَلِمَ تصورُه للكون ولنفسه.

ومن هنا تبرز أهميةُ العقيدة والتصور الصحيح والتفسير السليم في الحياة الإنسانية. فالتصورات الخاطئة هي التي تصنع "النفس الأمَّارة بالسوء" (يوسف 53)، وتصنع المجتمعات السقيمة والحضارات الحاقدة المغلولة والإنسانية المعذبة: "يا أيها الناس إنما بغيُكم على أنفسكم" (يونس 23). إن التصوراتِ الصحيحةَ تورِث الحياةَ الطيبة، والتصوراتِ السقيمةَ توجِد الحياةَ المعقدة المتشائمة المظلمة.

إن العالم اليوم مريض بالعنف ومليء بالحقد. وليس في العالم إلا مذهبان: مذهب العنف والتدمير، ومذهب اللاعنف وعدم الإكراه. المؤمنون بالإنسان يعرفون أنه يعطي بالرفق ما لا يعطي بالعنف والإكراه. لهذا كان "لا إكراه في الدين"، وبهذا "قد تبيَّن الرشد من الغيِّ" – تبين الدين الصحيح من الخطأ – وتبيَّن "الكفر بالطاغوت" الذي هو الإكراه، المعجون من طينة الكراهية والخوف، وتبيَّن الإيمانُ بالله الذي ليس في دينه إكراه؛ وبهذا تبين أيضًا الذي "استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" (البقرة 256). ومن هنا نعلم أن "الله وليُّ الذين آمنوا يُخرِجُهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يُخرِجونهم من النور إلى الظلمات" (البقرة 257).

وإن ابن آدم الذي تُقُبِّل عملُه ونجح تسخيرُه قال له أخوه الذي لم يُتقبَّل عملُه ولجأ إلى القتل: "لأقتلنَّك!" فقال أخوه له: "إنما يتقبل الله من المتَّقين. لئن بسطتَ إليَّ يدَك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنِّي أخاف الله ربَّ العالمين" (المائدة 27-28): أخاف الله الذي سخَّر لي ما في السماوات وما في الأرض، ووَهَبَ لي قدرةَ التسخير من دون عنف ومن دون تدمير. أنا صرت خلقًا آخر، ولن أرجع إلى شريعة الغاب. كلنا سنموت؛ ولكن ينبغي أن أموت وأنا أشهد أن لا إله إلا الله. كلنا سنموت، سواء مَن شهد لله الذي كرَّم بني آدم ومَن كفر وتراجع. فكأن ابن آدم الثاني يقول: "يمكن لك أن تقتلني، ولكن لا يمكن لك أن تجعل منِّي قاتلاً!"

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود