آنَ الأوانُ لإصلاح خطابنا حول "المحرقة"

 

محمد نعمة[*]

 

إن الكثيرين منَّا، على اختلاف تلاوينهم، – إسلاميين أو لبراليين أو قوميين، – تجمعهم بضعةُ آراء أو أحكام موحَّدة حول موضوع محرقة النازية لليهود Holocauste. هذه الآراء اختصرَها المرشدُ الروحي لجماعة الإخوان المسلمين، السيد مهدي عاكف، بقوله (11/12/2005): "الديموقراطيات الغربية تهاجم كلَّ مَن لا يوافق بني صهيون على خرافة المحرقة [...]." كذلك فإن الرئيس الإيراني، السيد محمد أحمدي نجاد، أكد من جهته، قبل هذا وبعده أيضًا، أن المحرقة "خرافة"، مشككًا في "صحة أرقام الستة ملايين يهودي ضحايا أفران النازية"، متسائلاً عن "سبب اعتبار البحث في عدد مَن قُتلوا في المحارق أو مناقشته من المحرَّمات [...]"، ومضيفًا: "إذا كان صحيحًا أن ألمانيا قتلت ملايين اليهود، لماذا لا تدفع أوروبا الثمن باعتبارها المرتكب الرئيسي للجريمة؟ [...] ثمة دول أوروبية تشدد على القول بأن هتلر قتل ستة ملايين يهودي في الأفران [...]، وإن كنا لا نقبل نحن هذا التأكيد [...]." وهو يذهب حتى الإعلان عن نيَّته "تنظيم مؤتمر مهمته البحث في مسألة وجود دلائل علمية على حرب إبادة اليهود التي شنَّتْها ألمانيا النازية [...]."

قطعًا إن إسرائيل، حين يلجأ إلى لغة أرقام ضحايا اليهود، فإن هذا يدخل في باب الپروپاغندا "التذنيبية" المستجدة عنده – وإلا فلماذا صَمَتَ عنها طوال مدة تأسيسه، وإلى ما بعد حرب حزيران 1967؟ أما نحن، فلماذا ننساق وراء هذه اللعبة؟ وما هي مصلحتنا في ذلك، أكان الرقم الفعلي يوازي ما هو متداوَل أو هو أكثر منه أو أقل بكثير؟ – ولاسيما أن طرفَي الحدث (المحرقة Shoah) هما الغرب، من جهة، واليهود وإسرائيل، من جهة أخرى.

على صراعنا مع إسرائيل ألا يُعمي أبصارَنا عن فداحة جرائم الغرب في حقِّ الإنسانية جمعاء إبان حربيه الأولى والثانية. وبما أننا لسنا الضحايا المباشرين للمحرقة، ولم نكن إطلاقًا الجلادين والقتلة، لماذا إذن نترك لهؤلاء المجرمين ولإيديولوجيي هذه الحقبة السوداء المعاصرين، من فاشيين ونازيين، أن ينهلوا من مياهنا غير الملوثة ليسقوا زرعهم اليابس؟! إننا لا نحتمل رقم الستة ملايين ضحية، لكن... هل تقليص الرقم إلى المليون، أو حتى الألف، يكفي؟! هل يمكن لنا أن نطيق حتى قتل شخص واحد فقط بسبب اختلافه العرقي أو الديني أو الاجتماعي؟ ألم نكن ملتقى ومأوى للأعراق والأجناس والأديان، بِمَن فيهم اليهود الهاربون من اضطهاد الآخرين؟ ألم يقِنا موروثُنا الديني من كلِّ نزوة للُّجوء إلى قتل الآخر، المختلف أو الشبيه، وذلك لمجرد تمايزه عن الذات؟ ألم نتعلم أن "مَن قتلَ نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتلَ الناسَ جميعًا ومَن أحياها فكأنما أحيا الناسَ جميعًا" (القرآن الكريم، سورة المائدة 32)، وذلك بالضبط لأنا "جعلناكم شعوبًا وقبائلَ لتَعَارفوا" (سورة الحجرات 13)؟

متقيدين بهذا الإطار الأخلاقي، يمكن لنا الخروج نهائيًّا من منطق أرقام الموتى العبثي والمغلق، لكي نتعرض لمسألة المحرقة، في تروٍّ وتمحيص، ولكي نستبين أثرَها على واقعنا والعملَ العقلاني الدعائي المضاد من أجل نصرة قضايانا.

قبل التطرق لمسألة المحرقة ووَقْعها على قضايا العرب، لا بدَّ من تبيان بعض المظاهر السلوكية والإيديولوجية لدى الغرب التي تعود إلى ما قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، والتي ترمز إلى إرث ديني، ثم حَداثي، يقوم على نبذ الآخر، ثم على "عقلَنَة" تراتبية hiérarchique للعلاقة معه. النازية والفاشية لم تأتيا من عدم؛ لقد خرجتا من أعماق التاريخ الأوروبي، وترجمتا، أولاً، النفورَ الجماعي المستديم تجاه "الآخر" المختلف، وثانيًا، المكوثَ في دوامة "برمجة" التمايز.

يُمِدنا المؤرخ الفرنسي إنزو ترافِرسو Enzo Traverso بتأريخ حَدَثي لهذه الإيديولوجيات، إذ يعتبر أن براعمها تفتحتْ مع الاختبارات الأولى للمقصلة التي تقدر على الحزِّ والقطع السريع المتوالي – آلية القتل "المتحضِّر" تلك! – حيث يتنصل الجلاد من أية مسؤولية أخلاقية مباشرة ويحيِّد في داخله أيَّ تجاذب عاطفي أو انفعالي. ثم إن هذه الإيديولوجيات العنصرية كأشكال متأخرة، ليس في عنفها وحسب، وإنما في أصولها المعرفية والمعتقدية الغارقة في الداروِنية الاجتماعية أيضًا، قد غطَّت سماء الفكر الغربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بمفاهيم تقوم على التغني بالأقوى باسم "الاصطفاء الطبيعي" وعلى تمجيد الغلبة باسم "الصراع من أجل البقاء"، أدت، بتعبيراتها "التطبيقية"، إلى اجتياح الشعوب المختلفة من القارات قاطبة، وخاصة في أثناء الحرب العالمية الأولى.

آنذاك، وجد الغربُ "معموديته التدميرية" على صعيد عالمي؛ فإذا بنا نرى كيف تمرَّستْ الدولُ الاستعمارية في إبادة الإثنيات، القريبة أو البعيدة، وخاصة السود. وقد تم هذا بسبب احتقارها الحاد لكلِّ "عِرق دوني" والغياب الكامل لمعنى حقوق الإنسان إبان الحروب. وإذا بنا نرى كيف أن الجيوش المتقابلة في خنادقها كانت تتقاذف حمم الموت الجماعي، وذلك عبر مكْنَنَةٍ وبرمجة معقدة لآلة الموت الحديثة: دبابات، رشاشات ثقيلة وسريعة، قنابل ذات قوة تدميرية مضاعفة، قنابل الغاز وأوبئة القتل الجماعي، قيادات–أركان محمية تحت الأرض مقابل "قطعان" بشرية تتنقل في الميدان ككتل من لحم مسوقة نحو مسالخ "الدولة الحديثة". وبالتوازي مع هذه القوة والعقلنة التدميريتين، كانت أوروبا منهمكة في ترتيب اجتماعي واقتصادي لمجتمعاتها يقوم على "فوردية" صناعية وإدارية – تيمنًا بمؤسِّسها الميكانيكي هنري فورد – تستند إلى هاجس الإنتاجية البحتة المرتكزة على تقسيم عمودي وأفقي للمهمات التصنيعية تقسيمًا عقلانيًّا دقيقًا ومتشعبًا.

مع هذا الإرث من العنف الهائل والمعتقدات الاستعلائية والمعرفية الباردة، تم الولوج إلى مرحلة الحرب العالمية الثانية. فإذا بالضحايا تتساقط – وأولهم المعوَّقون ذهنيًّا وبدنيًّا، الذين تمت تصفيتُهم بعملية T4 وما سُمِّيَ آنذاك بـ"القتل الرحيم" euthanasie؛ وأيضًا ذوو النزوع الجنسي المثلي الذين قال عنهم هِمْلر، أحد قادة النازيين، في العام 1937: "يجب القضاء على هذا الطاعون بالقتل"، فتم تجميعهم منذ العام 1935 في معسكرات الاعتقال، إلى أن تمت إبادة عشرات الآلاف منهم إبان الحرب العالمية الثانية. هؤلاء الضحايا لم تعترف بهم إلى الآن ديموقراطياتُ أوروبا "المعادية" للنازية وللفاشية!

ثم جاء دور الغجر، هذا الشعب المعروف بتعرُّضه المزمن لاضطهاد الدول الأوروبية كافة وسوء معاملتها. ففي سنوات الحرب الأولى في فرنسا، جرى قتل 28 ألفًا من هذا الشعب الـ"دون جنسية"؛ وفي العام 1940، تم اقتلاعه من بولونيا؛ وفي 1943، تم نقل بقية الغجر إلى معسكر الإبادة في آوشفِتس. ولقد اعترف النازيون بأنهم أبادوا نصف هذا الشعب! والأسوأ من ذلك أنه في محاكمة نورمبرغ للنازيين لم تتطرق الدولُ الغربية المنتصرة مطلقًا إلى مسألة فواجع ومآسي هذا الشعب الطريد الذي ينتظر إلى الآن الاعتراف بما حلَّ به.

هذا ولن نتوقف عند المجازر التي أوقِعَتْ بالشعوب السلافية، ولا عند تصفية الشيوعيين والوطنيين المقاومين للنازية وللفاشية، ولا إلى تصفية البولونيين الذين كانوا في المعتقلات أو الألمان المعارضين؛ وسنتحاشى كليًّا تناوُل لغة الأرقام في ما يتعلق باليهود ضحايا معسكرات الإبادة في أوروبا، بل حسبنا أن نشير إلى أنهم قد تعرَّضوا هم أيضًا لهذه الإبادة تعرُّضًا مكثفًا ومنظمًا. ولكن لا بدَّ لنا من وقفة أمام عدد قتلى الحرب العالمية الثانية وحدها لكي نكتشف أهوال الغرب وفظائعه التي أصاب بها الإنسانية جمعاء.

لقد قاربت خسائر البشرية 55 مليون إنسان على الأقل، من بينهم أكثر من 22 مليون مدني غير مسلَّح. فلو دلت أرقام الضحايا على شيء فإنما تدل في وضوح على المستوى "المتقدم" الذي بلغتْه ابتكاراتُ القتل التي تفننت فيها حداثةُ الغرب، من المعتقلات–المسالخ، إلى هيروشيما المُبادة بشرًا وحجرًا، إلى القنبلة النوترونية التي لا تمس الممتلكات والثروات المنقولة أو غير المنقولة، بل تبيد الإنسان فحسب! هذه الهمجية الفعلية والمتخيَّلة كلها تمَّتْ بفعل حداثة غربية محكومة بالعقْلَنَة الباردة للمقابر وبالبرمجة النفعية للدم والعَرَق والدموع. لقد تمت بفعل حداثة مسلوبة بالمكْنَنَة المؤلَّهة، مهووسة بالتصنيف الهرمي للبشر وللأشياء. وفي إطار هذا النسق من الرعب والفظائع يجب وضع "التطبيقات" الميدانية لعمليات "التطهير" العرقي، للإبادات الجماعية ولقتل الشعوب؛ وهي أيضًا الحال التي كانت عليها تقريبًا معسكرات ستالين Goulag للتعذيب والقتل المنهجي للأفراد والجماعات.

في هذا السياق، تفنن المجرمون في القتل، بدم بارد، على يد بيروقراطية مخطِّطة تجهل معنى الانتقام الأعمى والتشفِّي القسري. وفي هذا الإطار، يمكن قراءة المحرقة كـ"تقنية" غير موجَّهة إلى فئة محددة فقط، كـ"وسيلة إنتاج" وليست كغاية في ذاتها، وكجزء أو حلقة من "نظام للإماتة" متكامل الأبعاد، ذي نمط صناعي تكلَّم عليه إنزو ترافِرسو باعتباره نظامًا وظيفيًّا مبرمجًا على شاكلة مصنع له إدارته وتقسيم عمله وأهدافه "الإنتاجية". وفي هذا الإطار أيضًا، يمكن لنا وضع معاناة اليهود وجميع الذين عانوا من "فرن البربرية" الأوروبية هذا.

لكن بالإضافة إلى هذه العوامل، فإن لاضطهاد اليهود في أوروبا خصوصياته التاريخية والاجتماعية–السياسية والعقائدية. ومن جانبنا، لن نقف عند هذه الخصوصيات إلا في إطارها الحَداثي القريب والمؤسِّس لحقبة المحرقة ولدولة إسرائيل، وتحديدًا لدور معاداة السامية antisémitisme المتأصلة في أوروبا المنكفئة على ذاتها والمستبيحة ماهيات الآخرين: هذا الدور لا يمكن فصله عمَّا مرَّتْ به أوروبا منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى عشية تأسيس دولة إسرائيل، وعمَّا له من آثار في فكرة الصهيونية نفسها.

ففي تلك الفترة، كانت أوروبا، المستعلية بـ"تقدُّمها" على سائر المعمورة وببرجوازيتها الظافرة والمسيطرة، تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، وخاصة في أواخر القرن التاسع عشر؛ وكان من نتيجة هذه الأزمة النزوح الكبير للفلاحين والمزارعين نحو المدن الكبرى، مما زاد الأزمة مآزق جمة على مآزق. في هذا الجو، ظهرت الإيديولوجيات العنصرية والمعادية للسامية بقسوتها، مصاحبةً لتلك الأزمة كظلِّها، من ألمانيا إلى روسيا، ومن النمسا إلى فرنسا. وبذلك بدأت الحملات العنصرية ضد الأقليات – وخاصة اليهود – تتفجر في الكتب والصحف، بل وفي السلوك اليومي. وفي تلك الحقبة أيضًا، بدأت النظريات "العلمية" و"المعرفية" للتفوق العنصري والعرقي تتخذ مكانتها الأقوى ومكانها الأوسع انتشارًا. فإذا بالنظريات العرقية–القومية، سواء في ألمانيا أو في فرنسا، تغطي على ما عداها من قضايا؛ وأخذت هذه النظريات تنادي ببناء الأولويات وترتيبها استنادا إلى "هرم" الأعراق والأجناس.

يجب أن نعرف أن الغالبية الساحقة من المؤلفين الجرمان، المولودين بين العامين 1860 و1870، تطرقوا في كتاباتهم إلى "مشكلات" و"اضطرابات" الهوية أو النفسية اليهودية، وبأن الغرب المسيحي، والغرب الحَداثي من بعدُ، فرض على اليهود ذوبانهم الثقافي، إما عبر العزل وإما عبر الضغط. ومع ذلك، فإن هذا "الذوبان" لم يؤدِّ إلى جعل اليهود على قدم المساواة مع الثقافة السائدة، وبالتالي، بقي اليهود "موسومين" كنشاز، بحيث لم يحد الزواج المختلط ولا التخلِّي الطوعي عن الدين اليهودي من شدة العداء لليهود؛ لا بل إنهما بَدوا وكأنهما لا يفيان بالغرض المطلوب، وهو: تصفية صفة "يهودي" وجعلِها أثرًا بعد عين. وهذا كان معتمِلاً في النفس الأوروبية، ومحركًا للسلوك العدواني والعنصري تجاه الأقليات منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية بعقود.

في هذا الإطار من القلق والاضطرابات الاجتماعية، وفي هذا الاكتساح العنصري واللاسامي للنفوس، ظهرت الصهيونية كردِّ فعل، وفي الوقت نفسه، كظاهرة مستنسَخة من حيث فكرتُها الأصلية القائمة على العرقية–القومية أو العرق–الأرض. للوهلة الأولى، قد تبدو الصهيونية متعارضة مع النزعة اللاسامية هذه؛ إلا أنه، في العمق، ثمة مصدر تاريخي واحد للعقيدتين، على الرغم من تناقضهما في الهوية، بحيث يصعب على المؤرخ أو الراصد الأكاديمي تلمُّس ظاهرة نشوء الصهيونية وبنيتها من دون الانعطاف نحو أختها البكر اللاسامية الغربية وعدوانيتها، تحديدًا منذ منتصف القرن التاسع عشر: إذا كانت فلسطين التاريخية قد أنجبت اليهودية، فإن أوروبا العنصرية أو اللاسامية هي التي أنجبت الصهيونية.

وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنه قبل نشوء دولة إسرائيل، لا بل قبل ظهور الإيديولوجيا الصهيونية هذه، كان اليهودي، أينما كان، يعيش المشاعر والعقائد القومية كخطر مُحْدِق به لأن هذه تحشره في أقلوية دفاعية، تَسِمُه كـ"مختلف". وتأكيد هذا ممكن عندما نجد أنه حتى لحظة اندلاع الحرب العالمية الثانية لم تستطع الصهيونية، كدعاية وكتنظيمات ومؤسَّسات وكطاقات مادية ومجتمعية ممنهَجة، أن تقنع الجاليات اليهودية المضطهَدة في أوروبا بالنزوح إلى فلسطين والقيام بـ"واجبهم" alliah في عودة "قومية" إلى "أرض الميعاد". حتى عذابات المحرقة ونيرانها لم تكن هي المسوغ المباشر لحشر اليهود الناجين في البواخر المتجهة نحو فلسطين؛ بل إنه مع تأسيس دولة إسرائيل، كانت الدعاية الصهيونية خالية من أيِّ ذكر للمحرقة أو تلميح إليها: كانت الپروپاغندا الصهيونية تقوم على تجسيم صورة مَن هم "معمِّرو الصحارى" و"مقاتلو الحرية والاستقلال" وتضخيمها، وذلك تفاديًا لصورة "الضحية" التي حملوها معهم كتائهين وناجين من الجلاد الأوروبي. لقد قام الصهاينة بالتعمية على الناجين من اليهود وعلى معاناتهم المكتومة، وذلك منذ إنشاء دولتهم حتى العام 1961، سنة محاكمة الضابط النازي آيخمان؛ إذ إن المطلوب كان تقديم صورة "الإسرائيلي المقاوِم"، لا الضحية الطريد.

إن ما دفع يهود أوروبا إلى فلسطين هو تلك العنصرية البيولوجية، وذاك التوسع في "المجال الحيوي" للأمة "السامية"، تلك الإدارة الروتينية للموت المُمَكْنَن، وذاك التطهير العرقي على مستوى قارة بحجم أوروبا، وأيضًا تلك العقيدة العنصرية المعادية للسامية، وأخيرًا أولئك العقائديون الصهاينة المضطهَدون والمطرودون من كينونة أوروبا وهويتها: ليس من إيديولوجيا حَداثتها، بل من إطارها المكاني – تلك الإيديولوجيا التي لم تحتمل هذا الآخر اليهودي الذي – وللمفارقة – حدَّد معها، على مرِّ التاريخ الغربي، مسألة هويتها وكينونتها وذاتها. لقد تم اضطهادُه، ثم طرْدُه، ولكنه حُمِّل، أو تُرك محمَّلاً، بإيديولوجيا العرق والمكان عينها التي أغرقت أوروبا في المآسي والكوارث. لقد أمدَّتْه هذه الإيديولوجيا بعقدة الامتياز والتمييز، وأغوتْه بعبادة العِرْق، ثم بندب المحرقة كبديل حَداثي من مثاله الكوني؛ ومن ثم نفخت فيه التشبثَ بالمكان كدالٍّ نهائيٍّ على الوجود، وذلك على أنقاض فكرته الأصيلة: أينما كانت الذات فإنها تبقى في وجه اليهودي توأمًا له في المرآة، بحيث لم تكن ثمة حدود سياسية ولا عوائق عرقية أو قومية منعتْه من التواصل مع الآخر، المختلف أو المؤتلف.

لقد رَمَزَتْ اليهودية الـ"ما قبل صهيونية" بالذات إلى وحدة الإنسان ومصيره وعالميَّته. من هنا فإننا لا نجد حرجًا في إيضاح حقيقة أن الهمجية الغربية بدأت بـ"إحراق" المفكرين اليهود العالميين قبل الشروع في "الحلِّ النهائي" لهم كطائفة: ألم يتم إحراق كتب سپينوزا وماركس وألبرت أينشتاين وتسغموند فرويد وحنة أرندت في الساحات العامة قبيل قرع طبول رقصات الدم؟

أمام حال اليهودي الطريد من فضائه ومن تاريخه الغربيِّين، والحامل في الآن نفسه فيروس حداثتهما، يجد الغربُ ذاتَه في مواجهة أزمة مزدوجة، أخلاقيًّا وإيديولوجيًّا: تتمثل أخلاقيًّا عبر ذاتية مفرطة التمركز égocentrisme وقاتلة، وتتمثل إيديولوجيًّا في تشظِّيها إلى انشطارات المكان والثقافة والعِرق، وبالتالي، إلى تثبُّتها fixation النفسعلائقي psychorelationnel في آنٍ واحد، وذلك عبر التضحية به هو بالذات. اليهودي (الإسرائيلي خاصة) هو ذاك الذي ما إن رستْ باخرتُه في فلسطين حتى راح يشرع في اقتلاع سكانها من جذورهم؛ وإذا بضحايا التمييز والتطهير العنصري ينتجون هم أنفسهم الإيديولوجيا ذاتَها والأداءَ الغربيَّ ذاته.

هي عبارة واحدة نقولها للغربيين وللإسرائيليين على حدٍّ سواء: إن الغرق في روتين ذكرى الماضي (المحرقة) وفي تعميمها التكراري يأتي مرادفًا لتغييب فعليٍّ لأيِّ ربط عقلاني بين الذاكرة والحدث، بين الماضي والحاضر. فإذا بالذاكرة تصير هنا انتقائية ومكتفية بذاتها. وبالتالي، فإن أيَّ مشروع عقلَنَة لهذه الذاكرة سيرتطم حتمًا بحائط من الذنب أو التأثيم والريبة الصادة. ومع ذلك، نقولها في قوة: لا شفاء للجروح ما بقي الغربُ مغمضًا عينيه عن جرائمه في القرن الماضي، يلوذ بالتعتيم على أهوال إيديولوجياته الحديثة وشطط حداثته وعلى خطاياه تجاه ضحاياه المباشرين كلِّهم، يهودًا وغير يهود، وعلى ضحاياه غير المباشرين، وأبرزهم الفلسطينيون، ومادام الصهاينةُ على كبْتهم لمشاعر المسؤولية والذنب تجاه ضحيتهم، ألا وهو الشعب الفلسطيني.

*** *** ***

عن النهار، الاثنين27 شباط 2006


 

horizontal rule

[*] مدير مجلة مدارات غربية، باريس.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود