|
مُـنَـاجَـاة[*]
ليلٌ بهيم، وسماءٌ غضبَى، وأرضٌ في وجوم. وفي الرأس سباقُ أفكار لا تنام، وفي القلب حفيفُ أشواق وارفة، نديَّة، وفي العين رسومُ أشباح تتساوم على بني الإنسان وتتصافق، وفي الأذن جلبةٌ من صلوات وعربدات، وزفرات وقهقهات، وأنين شيوخ، وانتحاب أطفال، ودمدمة براكين، وهدير بحور كثيرة. وعلى الشفاه دبيبُ حروف ومقاطع وكلمات تنتظم وتنتثر تسابيحَ خافتةً حَيِيَّة لاسمك القدوس، يا مَن تعالى عن الأسماء والتسبيح. * يا ناشر الليل من كبد النهار، ومُضْرِمَ النهار من محاجر الليل، طال ليلٌ نشرتَه فوق أرض حسيرة عشواء – طال وادلهمَّ وتغضَّن وترهَّل، ولكنه ما شاخ بعدُ ولا ابيضَّ فوداه. وبنو الأرض يدأبون في غضونه ويكدحون كما تدأب المناجذ وتكدح في غياهب التراب. يكدحون ويدأبون، إلاَّ أنَّهم حيث يبدأون ينتهون. يزرعون ويحصدون، وفي الأهراء يخزنون، ولكنهم أبدًا جياع وأبدًا معوزون. من حشاشة الأرض يأكلون، ومن مآقي المُزْن يشربون، ولكنهم في غُصَّة دائمة بما يأكلون وبما يشربون. يتزاوجون ويتناسلون، وأبدًا عن سَنَدٍ وعَوْن يبحثون. يتخاطبون ويتكاتبون، فما يتعارفون ولا يتفاهمون. يتنازعون على أردان الليل وأذياله، فيمزِّقون لحومَهم بأظفارهم، ويسحنون عظامَهم بأضراسهم، وبغير نُتَفٍ من جلابيب ليلهم لا يظفرون. من أين للأرض هذا القرمز في وجنتيها؟ أهو الدم المسفوح من نحر هابيل؟ أم شهوة الدم المشبوبة في قلب قايين؟ أما يزال دم هابيل سائحًا في عروق الأرض وصارخًا: "أنا الدم المهراق لا لذنبٍ إلاَّ لأنَّني أرضيتُ فارتضيت"؟ وشهوة قايين التي لا تُرضي ولا ترتضي – ويؤلمها إذا ما غيرُها أرضى فارتضى – أما تنفكُّ تستعر في أحشاء الأرض؟ أمحتوم على الحَبالى ألاَّ يحبلن بهابيل دون قايين؟ وعلى الوالدات والمرضعات ألاَّ يلدن ويرضعن سوى الذبائح والذبَّاحين؟ فيا ويل الحَبالى والوالدات والمرضعات! يا ويلهنَّ يغسلن أوزار أبنائهنَّ الذابحين بدماء أبنائهنَّ المذبوحين – فلا الأوزار بمغسولة، ولا الدماء بمحقونة. حتى مَ تحترق الأرضُ بشهوة قايين، فلا يطفئها دمٌ يتفجر من أوداجها، ودمع ينهلُّ من أحداقها؟ وإلى مَ هذا الليل يغشِّي على أبصار بني الأرض، فيلتقي في طيَّاته الأخُ أخاه، فينكره ويبغضه ويُرديه، ثمَّ يغسل يديه من دمه ويقول: "ما أنا بحارس لأخي"؟ ومتى تنحسر الظلمةُ عن أبصار بني الأرض، فيعرف الأخُ أخاه، ويعرف أنَّه حارس لأخيه ومطالَب براحته وسلامته وحياته إذا ما شاء هو الآخر أن يتذوَّق الراحةَ والسلامةَ والحياة؟ متى يتهلهل ليلٌ كثيف نشرتَه فوق أرض حسيرة عشواء، فيرفع إليك كلُّ ابن أنثى قلبَه الملفوح ويهتف عاليًا: "أهِّلني، يا مالك النهار والليل، أن أعرف أخي وأكون له حارسًا نشيطًا، يقظًا، أمينًا ومحبًّا، كيما يكفَّ دمُه في أذني عن الصراخ، ودمي عن الغليان والفوران." إلى مَ، إلى مَ هذا الليل، يا ناشر الليل من كبد النهار، ومُضرِمَ النهار من محاجر الليل؟ * يا واحدًا لا يُعَدُّ، ويا ألِفًا لا تُمثَّل، وياءً لا تُصوَّر، ها هم الذين برأتَهم صورةً لك ومثالاً، فنفختَ في صدورهم نَفَسًا من صدرك، وأودعتَهم روحًا من روحك، لا يغريهم من عيشهم شيءٌ مثلما يغريهم اللهوُ بالأعداد، وتمثُّل البدايات، وتصوير النهايات. فهم أبدًا يجمعون أعدادًا إلى أعداد، ويطرحون أعدادًا من أعداد، ويضربون أعدادًا في أعداد، ويقسمون أعدادًا على أعداد. ونتيجة ما يجمعون ويطرحون، وما يضربون ويقسمون، أعداد فوق أعداد فوق أعداد، تُبرى بترديدها ألسنتُهم، وتضيق بها خلايا أدمغتهم، وتتورَّم من الحملقة إليها أجفانُهم، وتتكسر على ركامها أقلامُهم، وتنشقُّ من ضغطها سجلاتُهم. يعدُّون الثواني والساعات، والسنين والقرون، ويحصون مَن وُلد ومَن مات. يعدُّون أجرامَ السماء، ويحصون كلَّ دورة من دوراتها ولفتة من لفتاتها، ويحسبون أوزانَها وأبعادَها. يعدُّون نباتَ الأرض وحيوانَها، وطيرَها وحشراتِها، ومعادنَها وطبقاتِها، وما فيها من جبال وبحار، وجداول وأنهار، وسهول وأغوار، وما على سطحها من مدن ودساكر ومزارع، وما في المدن والدساكر والمزارع من بشر وبهائم، ومن أيدٍ تعمل ولا تنعم، وأيدٍ تنعم ولا تعمل. يعدُّون في الصوت نبراتِه، وفي القلب أنباضَه، وفي الجسم عظامَه وعضلاتِه. يعدُّون أرزاقَهم من ثابت ومنقول، ولهم دفاتر يقيدون فيها ما يملكون من مال وما يدينون ويستدينون، وهم عليها أحرص من نملة على حبَّة، ومن عنكبوت على ذبابة – تلك هي دفاتر الخزائن والجيوب. أما أن تكون لهم دفاتر للأرواح والقلوب، يحاسبون فيها نفوسَهم عن كلِّ كلمة جارحة، ونيَّة غدارة، وفكرة قتَّالة، ومحبة حبسوها، ويد أمسكوها، ونعمة حجبوها عمَّن هم في حاجة إليها، فما فكروا في ذلك ولا يفكرون. يعدُّون، ويعدُّون، ويعدُّون، وإليك، يا واحدًا لا يُعَدُّ، لا يهتدون. ها هم الذين لفظتَهم حروفًا حيَّة في اسمك الحيِّ الذي لا يُلفَظ ما يفتأون يَصِلُون الحروفَ بالحروف، والمقاطعَ بالمقاطع، ويزوِّجون الكلماتِ من الكلمات، ويؤلِّفون منها الأحاديثَ والأساطيرَ والأسفار. فلا تكلُّ لهم شفاه، ولا تحرُنُ لهم أقلام، ولا تتخدَّر منهم أنامل. وكلماتهم أكثر ما تكون دخانًا لأبصارهم، وفخاخًا لأقدامهم، وسمومًا لدمائهم، ومناخزَ تقضُّ عليهم مضاجعَهم وتعبث بأحلامهم – والبريء منها ما كان كاليعسوب، لا عسل في فمه ولا إبرة في دُبُره. أما الكلمة التي تضمِّد جرحًا، وتفكُّ قيدًا، وتمزِّق غشاوة، والكلمة التي تجمع ولا تفرِّق، وتَجبر ولا تكسر، وتفتح ولا تغلق؛ والكلمة التي تشفع ولا تصفع، وتصفح ولا تنبح، وتُعين ولا تدين – فما أندرها! وأندر منها كلمة في يائها ألِف وفي ألِفها ياء – طليقة من أحابيل البدايات والنهايات، حيث بَنوك يتخبطون، وعنك، يا ألفًا هي الياء وياءً هي الألف، يصدفون. أعداد فوق أعداد، وحروف ومقاطع وكلمات بعد حروف ومقاطع وكلمات – وكلُّها سواد في سواد، وظلمات طيَّ ظلمات. فإلى مَ، إلى مَ هذا الليل، يا واحدًا لا يُعَدُّ، ويا ألفًا لا تُمثَّل، وياءً لا تُصوَّر؟ * يا قلبًا يضيف ولا يُضاف، ويا روحًا ينير ولا ينار، ما للضيوف المتألِّبين حول موائدك يتدافعون ويتلاطمون ويتناهشون؟ – وموائدك فسيحةُ الأرجاء، مثقلةٌ بأعجب الخيرات وأثمن البركات من كلِّ ما يؤكل ويُشرَب. أصنافها لا تعرف العدَّ ولا النفاد. وقد ضمَّختْها السماءُ بأطيب العطور، وزيَّنتْها الأرضُ بأبهج الألوان والأشكال. ما للشباع من ضيوفك يتجشأون، وتخمًا في أمعائهم يشكون، ولكنهم لا ينصرفون لحظة عن المائدة ولحظةً لا يقيلون، وللجياع مجالاً لا يفسحون؟ ألعلَّهم يخشون على كنوز خيراتك النفادَ، وعلى فوَّارات نِعَمِك النضوبَ، وعلى يدك المبسوطة الانقباضَ، لذلك يخزنون من يومهم السمين لغدهم الأعجف؟ وإذا ما خيرُك يومًا نَفَد، ونعمتُك نضبت، ويدُك انقبضت، فيمَ ينفعهم كلُّ ما يخزنون؟ وهل من غد ليوم تحبس فيه قِراك عن المقترين؟ وما للجياع من ضيوفك يقدِّمون رِجْلاً ويؤخِّرون أخرى، ويلاوصون، ويتغامزون، وبلُعابهم يتلمَّظون؟ ما لهم كالغرباء، أو كالبُرْص، بين ضيوفك، يدورون من حول موائدك، وبغير الكسارة والسقاطة لا يظفرون؟ ما للبياض في عيونهم يصطبغ بحمرة الشفق، وللدماء في عروقهم تنحمُّ، وللعضلات في سواعدهم تتكمَّش؟ ما للضيوف، شباعهم وجياعهم، لا يعرفون للضيافة حشمةً، ولا للمضيف وقارًا، فيتقاتلون على قصاعه المليئة أبدًا بكلِّ خير، وإياه بالخير لا يذكرون؟ متى يشبع الجياع من جودك، ويمتلئ الشباع من وجودك، فلا يتدافعون ولا يتلاطمون ولا يتناهشون؟ إلى مَ، إلى مَ هذا الليل، يا قلبًا يضيف ولا يضاف، ويا روحًا ينير ولا يُنار؟ * ليلٌ بهيم، وسماء غضبَى، وأرضٌ في وجوم. وفي الرأس بريقُ فكر واحد وهَّاج، وفي القلب بشارةُ فجر يولد، وفي العين خيالاتٌ مُجَلْبَبَة بالنور، وفي الأذن أجواقٌ من عوالم لا تُبصَر ترنِّم صامتةً ترنيمةَ الانعتاق، وعلى الشفاه تسابيحُ عاليةٌ لاسمك القدوس، يا ناشر الليل من كبد النهار، ومُضْرِمَ النهار من محاجر الليل، يا واحدًا لا يُعَدُّ، ويا ألِفًا لا تُمثَّل، وياءً لا تُصوَّر، يا قلبًا يضيف ولا يضاف، ويا روحًا ينير ولا ينار. *** *** *** [*] ميخائيل نعيمه، البيادر (1940-1944)، طب 9، مؤسسة نوفل، بيروت، 1980، ص 121-128.
|
|
|