|
قراءة في كتاب المسيحيَّة والإسلام: رسَالة محبَّة وحِوَارٍ وتَلاقٍ في الآخر صورةُ النور: فلا استكبار ولا تمييز
أتريدون إحياء التراث؟ إذن، قوُّوا روح الألفة والاحترام المتبادَل بين الطوائف في لبنان، بالشعور الذاتي، وبالفكر والقول والفعل، وفي كلِّ مناسبة. عندئذٍ نترك لأولادنا وأحفادنا مؤسَّسة تراث اجتماعي مستقرٍّ ثابت.[1]
كتب الدكتور شارل مالك هذا الكلام في مؤلَّفه لبنان في ذاته الصادر قبل الحرب اللبنانية بسنتين. وجاءت الحرب، واستغلَّ مدبِّروها الطائفية والمذهبية لتحقيق مآربهم، فكان تناحُر وتقاتُل شَمَلا أحيانًا البيتَ الواحد والعائلةَ الواحدة. وبعد انتهاء الحرب وعودة التآلف، أضحى كلام الدكتور مالك ملحًّا وضروريًّا للَّذين في قلوبهم بصيرة. أجل، على كلِّ لبنانيٍّ، لو أراد أن يكون أمينًا على تراثه الحق، على حياة التعايش بين الطوائف، على احترام الآخر المختلف ومحبته، أن يقوم، بالفكر والقول والفعل، على تقوية هذا الاحترام المتبادَل بين الطوائف. *** في هذا السياق يُقرَأ كتاب المسيحية والإسلام: رسالة محبة وحوار وتلاق[2] الذي أعدَّه الوزير السابق فاروق البربير، رئيس تحرير مجلة تاريخ العرب والعالم، الذي جمع في ما يزيد على مائتي صفحة من القطع الكبير مقالاتٍ لمفكرين وعلماء دين، لبنانيين وعرب، تناولوا جانبًا من جوانب اللقاء المسيحي–الإسلامي. وقد أشار في مقدمته إلى أن التلاقي الإسلامي–المسيحي كان ضرورة من أجل تدعيم العيش المشترك؛ أما الآن فهو "ضرورة وجودية للتلاقي مع العالم". في مقالته "في سبيل الحوار البنَّاء بين المسلمين والمسيحيين"، يشير هشام نشابه إلى أننا جميعًا، مسيحيين ومسلمين، معنيون "بعمق والتزام" بهذا الحوار وتقدُّمه. أما علي جمعة محمد، مفتي الديار المصرية الذي ساهم بمقالة عنوانها "حول الإسلام والمسيحية"، فيرى ضرورة التقارب بين المسلمين والنصارى وضرورة تعاوُنهم على "مشكلات الحاضر ومعضلات المستقبل" و"التعاون للقضاء على الإلحاد والمادية ومواجهة الغطرسة الصهيونية". ويعمد السيد محمد حسين فضل الله في مقالته "الإسلام والمسيحية بين ذهنية الصراع وحركيَّة اللقاء" إلى القول إن ثمة "حملة عَلمانية مادية على الدين كلِّه والإيمان بالله" وإن "على المسيحية والإسلام الوقوف معًا في مواجهتها". وهو لا يعتبر أن المواجهة بين الإسلام والمسيحية قضاء وقدر وحتمية تاريخية؛ لذا يدعو إلى الانطلاق من الروحانيات، لأنها "ترفعنا وتعطينا صفاء الروح والعقل والوجدان وطهارة الحب واستقامة الطريق ووحدة الهدف". ويتناول المطران جورج خضر قضية "الحضور المسيحي في صلب الثقافة العربية"، فيتحدث عن مساهمة المسيحيين في جوانب الفكر العربي كلِّها عبر التاريخ وعن أثر المسيح في الشعر المعاصر، ويتوقف طويلاً عند شعر السياب ومحمود درويش. ويتصدى المطران بولس مطر في "آفاق ومستقبل حوار الحضارات" لمقولة هنتنغتون حول "صِدام الحضارات"، ويلفت نظر الغرب إلى ضرورة "إعادة ما انقطع من وَصْل في الحضارة الغربية بينها وبين القيم المسيحية". وينطلق المطران سليم الغزال في مقالته "العيش المشترك" من تجربته الشخصية حين كان كاهنًا يعمل في المدارس والحركات الاجتماعية في صيدا والجنوب ومنطقة الشوف، فيحدد مبادئ ثلاثة اعتمدها، وهي: 1. البساطة في المعاملة من دون الإحساس بعقدة التفوق أو الأقلية؛ 2. محبة الإنسان بغضِّ النظر عن معتقده الديني أو السياسي؛ و 3. قبول الآخر والحوار معه وفهمه كما يُعبِّر هو عن ذاته، لا كما أتصوره أنا. وفي مقالته "الإبراهيمية والحوار الإسلامي–المسيحي"، يتحدث عمر مسقاوي عن مواجهة القرآن الكريم لأهل الكتاب تأسيسًا للوحدة الإبراهيمية. وقد بسط حديثه على مراتب ثلاث: 1. تحديد مفهوم الألوهة؛ 2. التعامل مع أهل الكتاب؛ و 3. مرتبة الاستقرار الاجتماعي. أما المطران غريغوار حداد فينطلق في مقالته "الله على مسافة واحدة من جميع الأديان" من مبدأين: الكل، مسيحيين ومسلمين، مؤمنون "لاأدريون"، والله على مسافة واحدة من جميع الأديان. وهو يصل إلى ما خلاصته "إن جميع المؤمنين إخوة، وإن الجميع، مؤمنين وغير مؤمنين، عيال الله". ولهذا يقول إن المطلوب من المؤمنين الاقتراب من الله أولاً، ومن بعدُ الاهتمام بالإنسان من غير تمييز عرقي أو ديني أو ثقافي. وهو يرى أن في هذين الهدفين يلتقي الإيمان المسيحي والمسلم. ويتناول الأرشمندريت عطا الله حنا النضال الفلسطيني، بمسلميه ومسيحييه، من أجل استعادة القدس، ويقول إن التصدي لسياسات الاحتلال كان عنوان التعاون والتفاهم واللقاء الإسلامي–المسيحي. ويتناول طارق متري "الحوار المسيحي–الإسلامي في الواقع والرؤيا"، معددًا أنواع الحوار القائم: 1. لقاء الشخصيات الدينية الكبيرة؛ 2. الحوار القائم بين الحضارات؛ 3. حوار المؤمنين، أفرادًا ومجموعات ومؤسَّسات دينية؛ و 4. حوار المواطَنة والمعايشة والتلاقي في مختلف ميادين الحياة. ثم يحصر توجهات الحوار اليوم في ثلاثة مواقف نتيجة للصعوبات التي يواجهها الحوار: 1. موقف يستنهض الهمم للوقوف معًا ضد الإلحاد والعَلمَنَة؛ 2. موقف يرى في الحوار استدعاءً للاعتدال الإسلامي في وجه الذين يريدون الإسلام وسيلةً للسيطرة السياسية؛ و 3. موقف يرى أن الالتزام بالحوار متجذِّر في الوعي الديني ويطالب بتناول المشكلات والعمل على حلِّها انطلاقًا من هذه النظرة. وفي مقالته "التكافل بين المسيحية والإسلام"، يقارن محمد السماك بين الديانتين، ليخلص إلى ما مفاده أن "تأكيد الرسالتين السماويتين على التكافل يؤكد أنهما ينهلان من ينبوع سماوي واحد وأن مصدرهما إله واحد"؛ وهو يرى في ذلك تأكيدًا للقاعدة الشرعية الإسلامية التي تقول إن "الدين واحد والشرائع متعددة". وفي مقالته "المحبة بين الإسلام والمسيحية"، يعقد الدكتور سامي مكارم مقارنةً بين مفهوم المحبة في الإنجيل وما يقاربها في التراث الصوفي الإسلامي، ليصل إلى ما نتيجته أن الغاية، هنا وهناك، محاولة مَحْق "الأنا" المنفصلة والعمل على فنائها للوصول إلى المحبة الحقيقية. أما هيام ملاط فيرى أن "الوجود المسيحي في الشرق مسؤولية إسلامية أولاً": إذا استمرت هجرة المسيحيين سيفقد المجتمعُ التفاعلَ الحضاريَّ البنَّاء بين الديانتين. وهو يضيف أن التفاعل هو فعل إيمان وتوافق أكثر مما هو جدال وحوار. ولو خرج هذا الحوار من أيدي الاختصاصيين فإنه يؤدي غالبًا إلى طريق مسدود. ويؤكد على ضرورة اهتمام المسلمين بعدم هجرة المسيحيين لأن المجتمعات الأحادية "لا تتمتع بالثروة الفكرية والحضارية التي تتمتع بها المجتمعات المتمازجة". ويعود محمد المجذوب إلى الدستور، ليتناول مفهوم التعايش الذي أيَّدتْه الأكثريةُ الساحقة من الشعب اللبناني. وهو يرى أن تأكيد الدستور على التعايش جاء ليذكِّر اللبنانيين بتاريخهم وأمجادهم في العيش المشترك وليجسِّد رغبتَهم في ممارسة الحريات الأساسية أو غيرها من القيم التي حدَّدتْها حقوقُ الإنسان. وهو يؤكد ذلك بقوله: "نحن المواطنين الصالحين المسالمين نؤمن بالعيش المشترك ونحافظ عليه ونعتقد أن مصير لبنان، كدولة ذات سيادة، مرتبط باستمرار وجود هذا النمط الديموقراطي من العيش." ويتناول عبد السلام التدمري "تاريخ العلاقات بين المسلمين والنصارى في مدينة طرابلس"، مستعينًا بعدد من القصص الموثَّقة، تبدأ بالفتح الإسلامي للمدينة في العام 25 للهجرة وتنتهي بأيام حكم المصريين للمدينة في العام 1835 للميلاد. ويحصر فايز سارة مقالته بالنموذج الفلسطيني للعلاقات الإسلامية–المسيحية، فيرى أنها علاقات تآلُف وتوافُق في إطار المسألة الوطنية وفي مواجهة العنصرية الصهيونية. ويراجع ميشال جحا كتاب القدس للمطران جورج خضر الذي يقول فيه: "لا سلام في العمق مع الدولة العبرية إلا بانخلاعها عن الصهيونية، أي بقبولها حقوق الإنسان لكلِّ عرق وجنس يعيش في حدودها." وفي نهاية الكتاب عدد من الوثائق المهمة: النص الكامل للعهدة العُمَرية، الإرشاد الرسولي، البيان الذي أصدره رؤساء الكنائس في القدس يطالبون فيه بإزالة السور الفاصل، والنص الكامل للبيان الختامي الذي أصدره الفريق العربي الإسلامي–المسيحي للحوار بعنوان "نداء القدس" بعد انتهاء اللقاء الذي انعقد في حزيران 1996. *** ما إن تنتهي من قراءة الكتاب حتى تخالجك أفكارٌ متضاربة. من ناحية، نشكر الله أن في لبنان مَن يفكر في جمع هذا الكمِّ من المقالات في هذا الموضوع بهذا القدر من الأناقة والطباعة الفاخرة، ونشكر الله أن في لبنان والعالم العربي مَن سعى، على مستوى الفكر على الأقل، لأن يجمع ويقارب ويوحِّد ويدين الطائفية والتعصب والانغلاق على أنها ليست من جوهر هذا الدين أو ذاك؛ ومن ناحية أخرى، يتراءى لك الواقع المر الحزين! فالكلام بهذا الشكل على التعايش يعني أن ثمة "لاتعايشًا"، والكلام على الوحدة يعني أن ثمة تفرقة. إن أكثر ما آلمني، وأنا أقرأ بعض المقالات، دعوة رجال الدين إلى الوحدة بين المؤمنين، مسلمين ومسيحيين، لمواجهة المادية والإلحاد والعَلمانية. فأنا من مدرسة روحية ترفض التمييز مهما كان نوعه: لا يخرج الكافر والملحد والمادي ولا أي كائن آخر، صَغُرَ أم كَبُر، من دائرتي. فإنْ أنت بدأت في التمييز ضد فئة، أيًّا كانت، لا تكون مخلصًا لإيمانك، مسلمًا كنت أو مسيحيًّا. إنْ بدأت في التمييز ضد "الكافر" و"الملحد" و"العَلماني" و"المادي"، فما أسهل أن ترمي الآخر بأوصاف سلبية تحمل في طياتها معنًى من معاني التمييز والتفريق. الطائفية داءٌ خبيث، إن أصاب النفسَ أرداها. ولا نستأصل شأفة هذا الداء بكتاب ومقال وحوار ولقاء، على أهمية ذلك كلِّه؛ فهذه كلُّها ليست أكثر من جرعات دواء صغيرة لمرض متأصل، لا يعالَج إلا بالممارسة المستمرة، لنقضي على جذوره في الذات الفردية للكائن البشري. الخطوة الأولى أن تتحمل، أنت بالذات، المسؤولية، بإعلانك، بينك وبين نفسك، أنك إنسان صحيح لم تلوِّثه جراثيم الطائفية؛ ثم تمارس ذلك، بالفعل والفكر وفي كلِّ مناسبة، أمام نفسك وعائلتك ومجتمعك والعالم كلِّه. مهما كان موقعك في مجتمعك، رجل دين كنتَ أو رجل أعمال، أستاذًا أو مسؤولاً رسميًّا، وحتى لو كنت سياسيًّا (والسياسي مدين لطائفته بمنصبه)، عليك الامتناع عن كلِّ كلام طائفيٍّ أمام أولادك وأهلك وأصحابك؛ بل أكثر من ذلك، عليك أن تشعر بالخجل من هذا الكلام وتُشعِر الذين يقولونه أمامك بالخجل. الكلام الطائفي والسلوك الطائفي وَسَخٌ في النفس يشبه الأوساخ التي نرميها على طرقاتنا وشوارعنا: فكما نشمئز من الذين يرمون أوساخهم على طرقاتنا ونقرف، نشمئز أيضًا ونقرف من الكلام الطائفي، حتى لو جاء من أولادنا وأبناء طائفتنا أو مذهبنا ضد أبناء طائفة أو مذهب آخر. ليس المسلم مَن يولد على الإسلام، ولا المسيحي مَن يولد على المسيحية، ولا الدرزي مَن يولد على التوحيد. أنت لا ترث الحقَّ عن أبويك، بل تصله بالمجاهدة. عليك أن تعمل بالانفتاح والتسامح والمحبة والفضائل كلِّها لتستحق إسلامك ومسيحيتك وتوحيدك. عند ذاك تدرك أن الجميع أبناء النور، وأن في "الآخر" صورة النور، فلا تستكبر ولا تميِّز، بل لا تنقطع عن حمد الله وشكره لوجود الآخر أمامك. فأنت لست أدرى منه بخَلْقِه. *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة [1] شارل مالك، لبنان في ذاته، مكتبة التراث اللبناني، 1973، ص 60. [2] كتاب من إعداد وتوثيق مجلة تاريخ العرب والعالم بإشراف صاحبها فاروق البربير، في 216 صفحة من القطع الكبير وفي طباعة فاخرة وصور ملونة يظهر بعضُها للمرة الأولى.
|
|
|