|
في خطى يسوع المسيح في فينيقية/لبنان رؤية إسلامية[*]
تفرض الرؤيةُ الإسلامية لكتاب في خطى يسوع المسيح في فينيقية/لبنان[†] للدكتور مارتِنيانو پلِّغرينو رونكاليو التوقفَ أمام الأمور الثلاثة الآتية: - الأمر الأول: موقع المسيح في القرآن الكريم؛ - الأمر الثاني: موقع المسيحية في الإسلام؛ و - الأمر الثالث: مبدأ الشراكة في المقدسات: مفهوم الأرض المقدسة. فهذه الأمور الثلاثة متداخلة إلى حدِّ الوحدة التكاملية. وسوف أتحدث، في اختصار شديد، عن كلٍّ منها، في محاولة لوضع هذا الكتاب القيِّم في الموقع الذي هو جدير به في الفكر الديني، دون أن يعني ذلك أنني أقدم دراسة عن الكتاب أو تقييمًا علميًّا له. أولاً: موقع المسيح في القرآن يصف القرآن الكريم المسيح بأنه "كلمة من الله" و"كلمته" (آل عمران 45، النساء 171) وأنه "روح منه" (النساء 171)، ويقول إن الله أيَّده بروح القدس (البقرة 87 و253 والمائدة 110). ويذكر القرآن الكريم أيضًا أن الله آتاه البيِّنات (البقرة 87 و253) وآتاه الإنجيل (الحديد 27)، وأن الله جعله مباركًا أين ما كان (مريم 31). ويذكر القرآن الكريم للمسيح أفعالاً إعجازيةً لم تُنسَب إلى أحد غيره (واردة في الآية 49 من سورة آل عمران وفي الآية 110 من سورة المائدة): 1. "إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله" 2. "وأُبرئ الأكمَهَ والأبرص" 3. "وأُحيي الموتى بإذن الله" 4. "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" وإذا كانت هذه المعجزات التي قام بها المسيح قد تحققت "بإذن الله"، كما ورد في القرآن، فإن المسيح نفسه يقول في الإنجيل المقدس: "لا أعمل شيئًا من عندي، بل أقول ما علَّمني الآب" (يوحنا 8: 28). ويذكر القرآن الكريم أن المسيح وُلد من أمٍّ عذراء لم يمسسها بشر (مريم 20)، وأنه تكلَّم وهو في المهد صبيًّا (آل عمران 46، مريم 30-33). ويقول فيه: "وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يُبعَث حيًّا" (مريم 15 و33). ثانيًا: موقع المسيحية في القرآن الكريم الاستشهادات التي ذكرتُها عن السيد المسيح واردة في عدة سور من القرآن الكريم: مريم وآل عمران والمائدة؛ وهذه الأسماء–العناوين تشير أصلاً إلى رموز مسيحية مقدسة. ويؤكد القرآن الكريم على الإيمان بالإنجيل كتابًا مقدسًّا من عند الله، وعلى أن الإيمان به وبالمسيح أساس من أسُس الإيمان بالإسلام. ويبلغ القرآن في ذلك حدَّ دعوة أهل الإنجيل ليحكموا بما أنزل الله فيه (المائدة 47). وهو يخاطب أهل الكتاب (أي المسيحيين واليهود) بقوله: "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل" (المائدة 68). والقاعدة القرآنية هي أن "من أهل الكتاب أمَّة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون" (آل عمران 113). ومن المعروف أن "لا رهبانية في الإسلام". مع ذلك، فإن القرآن الكريم يقول: "ولتجدنَّ أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنَّا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون" (المائدة 82). إن في هذه الإشادة القرآنية بالنصارى على قاعدة أن منهم قسيسين ورهبانًا تأكيدًا على مدى إيمان واحترام الإسلام للمسيحية ورهبانيتها. يكرِّس هذا الإيمان قولُ القرآن الكريم مخاطبًا المسلمين هذه المرة: "قولوا آمنَّا بالله وما أُنزِل إلينا وما أُنزِل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربِّهم لا نفرِّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (البقرة 136). كما يكرِّسه قولُه أيضًا مخاطبًا النبي (ص) في صيغة مماثلة: "قل آمنَّا بالله وما أُنزِل علينا وما أُنزِل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربِّهم لا نفرِّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (آل عمران 84). وقولُه كذلك: "شرع لكم من الدين ما وصَّى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصَّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أنْ أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" (الشورى 13). ثالثًا: مفهوم الأرض المقدسة الآية الأولى من سورة الإسراء تقول: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله". بعض الناس ضيَّقوا حدود "بَرَكة" الله وحصروها في بيت المقدس؛ ولكن رحمة الله وبركته أوسع وأشمل: فما وطِئ الأنبياء والرسل أرضًا إلا وحملوا إليها بركةَ الله. وعندما يقول القرآن الكريم إن المسيح مبارك أين ما كان (مريم 31) فإن هذه الإطلاقية تشمل كلَّ أرضٍ وطئها المسيح. وهذا يقودنا إلى لبنان والى كتاب د. رونكاليو. ولكن ما كان لهذه البركة أن تكون موضع اعتراف من الناس ما لم يؤمن هؤلاء الناس بالرسالة السماوية التي حملت البركةَ إليها. ولذلك كان لا بدَّ لنا من الحديث عن موقع المسيح والمسيحية في الإسلام. فعندما يذكر العهد القديم أن النبي سليمان بنى أول هيكل يهودي لعبادة الله الواحد من الأرز والسرو اللبناني (1 ملوك 5: 24)؛ وعندما يذكر العهد الجديد أسماء مدن لبنانية عدة مرات مقرونة بالتوبة والنعمة (متى 11: 21-22، لوقا 4: 26 و6: 17)؛ وعندما تطأ أقدام المسيح وأمِّه وعدد من تلامذته أرض لبنان ويجترح فيه أكثر من معجزة؛ وعندما يكون لبنان منطلَقًا للقديسَين بولس وبطرس إلى أنطاكية وروما؛ ثم عندما يؤمن الإسلام بالتوراة والإنجيل رسالتين من عند الله على النحو الذي أشرت إليه – فإن هذا الإيمان يكون، في الوقت نفسه، إيمانًا بالبركة الإلهية التي حلَّتْ بما حول المسجد الأقصى. من هنا أهمية كتاب د. مارتِنيانو الذي يقدم لنا بشكل علميٍّ موثَّق بصماتِ هذه البركة في خطوات السيد المسيح في أرض لبنان، وخاصة في صور وقانا؛ وكذلك بصمات خطوات القديس بولس الذي أبحر من صور وصيدا (فينيقية) إلى روما (أعمال الرسل 21: 3 و27: 3) (ص 93). كما تبرز هذه البركة من خلال معجزة شفاء ابنة المرأة الكنعانية على يد المسيح في نواحي صور وصيدا (إنجيل متى 15: 21-28). وإذا تتبَّعنا خطوات رسل المسيح لا نقف عند قانا وصيدا وصور فقط، لكننا نصل شمالاً إلى طرابلس (ص 333)، وشرقًا إلى البقاع (ص 394)؛ بل إن الكتاب يثبت لنا أنه كان للبنان حضور في ولادة الكنيسة الأولى (ص 396) وفي تبلور التقاليد الأولى للمسيحية (ص 403). ولعل أروع ما في معجزة عرس قانا الجليل وجود مريم أم المسيح معه، ووجود عدد من حوارييه وتلامذته كانوا مدعوين إلى العرس (إنجيل يوحنا 2: 1-12). لقد بدت هناك رمزية اليوم السابع بأجلى صورها، باعتباره اليوم الأول بعد الخلق الجديد (ص 131). وتشكِّل هذه الرمزية – العدد 7 – نقطة أخرى من نقاط الالتقاء المثيرة للاهتمام والبحث بين الرسالات السماوية الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية، وحتى مع عدد من العقائد الإيمانية الأخرى غير الكتابية، كالهندوسية والبوذية والشنتوية وغيرها. ذلك أن القاعدة الأساس هي أن الإنسان مخلوق على فطرة الإيمان، وان الله يبعث بالرسل والأنبياء لإنارة الطريق إلى الإيمان. فلا مساءلة من دون معرفة. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: "وما كنَّا معذِّبين حتى نبعث رسولاً" (الإسراء 15). ثم إنه ليس كل الأنبياء والرسل هم الذين وردت الإشارةُ إليهم في الكتب السماوية: "ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك فمنهم مَن قصصنا عليك ومنهم مَن لم نقصص عليك" (غافر 78)، كما جاء في القرآن الكريم أيضًا – الأمر الذي يفتح الباب السَّمْح لتقبُّل الآخر المختلف من سائر الأديان بكلِّ احترام ومحبة. والله يحكم بيننا يوم القيامة فيما كنَّا فيه مختلفين. *** *** *** عن النهار، الأحد 8 كانون الثاني 2006 |
|
|