|
الترجمات الخمس ليسوع رؤية نقديَّة
كأيَّة ظاهرة من ظواهر الثقافة الإنسانية، تخضع الظاهرة الدينية لقوانين التبدل والتغير، نشوءًا وارتقاءً أم تبدلاً في الأشكال والمضامين. فكل دين يتكون في سياق تاريخي معيَّن، وفي بيئة ثقافية معيَّنة تطبعه بطابعها. ولكن هذه الصيغة الأصلية ما تلبث طويلاً حتى تأخذ في التغير، وذلك تبعًا لإيقاع تطور الجماعة، من جهة، وتبعًا لاحتكاكها بالجماعات المجاورة لها ومدى تأثرها بها، من جهة ثانية. ونحن نستطيع متابعة هذه السمة الحركية للدين منذ تعبيراته الأقدم في العصور الحجرية القديمة، وصولاً إلى أديان العالم الكبرى، البائدة منها والسائدة. ولا تشذ عن هذه القاعدة تلك الأديان التي تقوم على مفهوم الوحي والتي وضعتْ لها الأساسَ شخصياتٌ روحيةٌ متميزة قالت إنها تلقت وحيًا من السماء. هذه السمة التطورية للأديان تدعونا إلى القول بأنه سواء قام الدين على وحي أصلي أم على كدح روحي إنساني، فإن الإنسان في النتيجة هو صانع دينه. والتاريخ الروحي للإنسان ليس تبيانًا عن مقاصد الإرادة الإلهية في عالم البشر بقدر ما هو تبيان عن سعي الإنسان الحثيث إلى تلمُّس مقاصد الإرادة الإلهية والانسجام معها. بتعبير آخر، فإن الدين ليس كشفًا من الخارج بقدر ما هو كشف من الداخل. على أن قولنا بالأصل الإنساني للدين ليس دعوة إلى تقويض الدين، بل إلى فهمه فهمًا أفضل. وهذا الفهم الأفضل هو الذي يُبقي على الدين قوةً تحريرية كبرى في حياة البشر. الحس الديني عند الإنسان هو معطى قبْلي، لا يمكن إخضاعه لمختبرات العلم؛ وسيبقى عنصرًا فاعلاً في حياة الأفراد والمجتمعات، سواء آمنَّا بالوحي النازل من السماء أم بالروح الإنسانية التي تتوق إلى السماء. ففي لحظات الكشف الصافية، عندما يتواصل الإلهي بالإنساني، مَن يستطيع إجابتنا عن مَن اقتحم على الآخر عزلتَه: أهو الله أم الإنسان؟ أسوق هذه المقدمة الموجزة لأقول بأني أتفق مع مؤلِّف كتاب الترجمات الخمس ليسوع[*] (صدر في العام 1940) في الأطروحتين الرئيسيتين اللتين يقوم عليهما كتابُه: أولاهما السمة التطورية للعقيدة المسيحية، والثانية قوله بأن الدين هو نتاج فعاليات الإنسان الروحية والفكرية، وليس كشفًا يأتي من عالم الغيب. لكني، مع ذلك، أختلف معه جذريًّا في النتائج التي بناها على هاتين المقدمتين كافة. ولسوف أبدأ بعرض سريع لأفكار المؤلِّف قبل أن أعمد إلى نقدها. يقول المؤلِّف في فصله الأخير المُعَنْوَن "يسوع والعقل المعاصر" ما يلي: كثيرًا ما سُئلت خلال سني خدمتي الطويلة، كما سُئل غيري من رجال الدين المتحررين: "ما الذي تركه لنا النقد العالي من الإنجيل سوى الغلاف؟" والحقيقة أنه تركه كلَّه من الغلاف إلى الغلاف. لم يأخذ النقد من الإنجيل أيَّ كتاب أو فصل أو آية أو كلمة. إن هذا العلم يهدف إلى إعلامنا كيف وصل الإنجيل إلينا، ومساعدتنا على فهمه بشكل أفضل وتقديره بشكل أكثر. ما دمَّره النقدُ العالي هو نظرية قديمة وخاطئة عن الإنجيل. [...] لقد ورثنا، ولم نقرِّر لأنفسنا، الاعتقادَ بأن الإنجيل هو كلمة الله. من أين أخذنا هذا الاعتقاد؟ ليس من الإنجيل نفسه بل من الكنيسة. ويقول أيضًا: ليس الهدف من النقد إذًا تدمير الإنجيل بل كشفه من جديد لأذهاننا. وإن إحدى أهم نتائجه هو اكتشاف أن الإنجيل، كغيره من الكتب المقدسة، سجل حي لمحاولة الإنسان أن يجد ما يعتقد أنه الحقيقة المقدسة والأبدية، ويتحد بها، وليس هدية معلَّبة مُنزَلة من فوق. ويقول أيضًا: استنادًا إلى كلِّ ما سبق، ليس ثمة حقيقة أنصع من كون الإنجيل كتابًا إنسانيًّا. إنه كلمة الإنسان عن الله. ويقول أيضًا: لقد نجمت مشاكل يسوع عن كونه نبيًّا وقع بين أيدي كهنة. مفكر خلاق، ومصلح، ظهر في وسط الكتبة واللاهوتيين. ويقول: إننا ملتزمون بقبول النتائج التي يكشف عنها العلمُ الحديث عن إنسانية يسوع الأساسية. من هنا، فإن يسوع بالنسبة إلينا كان إنسانًا ارتقت فيه العبقريةُ الروحية للإنسانية إلى أسمى مراتبها. انطلاقًا من هذا الاعتقاد بإنسانية يسوع، يعمد المؤلِّف في القسم الأول من كتابه إلى رسم صورة حيوية لمراحل تطور العقيدة المسيحية، من يسوع الناصري، النبيِّ والمعلم الأخلاقي الذي ظهر في الجليل، إلى الإله الابن الذي أُعلِنَ كذلك في مجمع نيقيا في العام 325 م بإرادة إمبراطور روماني. فتَحْتَ الصورة اللاهوتية الشديدة التركيب التي رسمتْها المجامع المسكونية، يرى المؤلِّف الصورةَ الأصليةَ ليسوع، النبي الناصري، الذي لم يزعم في أيٍّ من مواعظه العامة ولا في حياته كلِّها أنه المسيح، وأنذر تلامذته أكثر من مرة قائلاً: "لا تقولوا البتة إنني هو." كما أن يسوع لم يكن على بيِّنة من أن له طبيعةً أو أصلاً خارقين. لقد ظهر كنبيٍّ كما ظهر يوحنا المعمدان قبله، وشعر أنه ابن لله مثل سائر الناس الذين دعاهم إلى التشبُّه بأبيهم الذي في السماوات. لم يزعم يسوع أنه ولد ولادةً خارقة ولا أنه ابن الله الوحيد. لقد عرَّف بنفسه كنبيٍّ حامل رسالة إلى شعبه، ولكنه لم يدع أية خاصية له. عمل معلمًا وشافيًا بين أبناء شعبه مثل الذين سبقوه أو عاصروه. وقف يسوع إلى جانب المنبوذين والفقراء وجميع الذين كان الفريسيون ينعتونهم بالملاعين، ودعا الصيادين والفلاحين الجاهلين بـ"نور العالم" و"ملح الأرض"، هؤلاء الذين احتقرهم الفريسيون لأنهم لا يعرفون الشريعة. لم يتكلم يسوع قط عن الإنسان كوارث لخطيئة آدم ولعنة الخطيئة الأصلية. وفي جميع تعاليمه لا يعطي أية إشارة إلى مجموعة العقائد التي شيدتْها الكنيسة باسمه في العصور اللاحقة. والخلاص الذي دعا إليه لا يتم عِبْر السيد الفادي المخلِّص، ولكن عِبْر تحقيق هدف الإنسان من الحياة، ألا وهو تحقيق الإرادة الإلهية. كان ذهاب يسوع إلى أورشليم مغامرةً غير محمودة العواقب. والمؤلِّف، في وصفه لهذه المرحلة التي انتهت بصلبه، يقول إن الزعم القائل بأن يسوع توجَّه إلى أورشليم ليموت على الصليب فداءً عن البشر هو زعم خاطئ. فعشية القبض عليه في جبل الزيتون قال لتلامذته: "نفسي حزينة حتى الموت. امكثوا هاهنا واسهروا معي." ثم انفصل عنهم مسافة رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلَّى ثلاث مرات لكي تَعبُر عنه هذه الساعة قائلاً: "يا أبَّا الآب، كل شيء مستطاع لك، فأجِزْ عني هذه الكأس." وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض. لكن صلاته لم تُستَجَبْ، وجاء يهوذا مع الجند وسلَّمه إلى أعدائه. وقبل أن يسلم الروح على الصليب صرخ: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" الأمر الذي يدل، في رأي المؤلِّف، على أنه لم يطلب الموت على الصليب، ولم يكن كليَّ المعرفة أو القدرة. في نهاية هذا الفصل الأول، الذي يرسم فيه المؤلِّف صورةَ يسوع التاريخي كما يراها، يقول لنا: هناك انتهى عمل النبي الناصري. [...] وما سنشهده في الأقسام التالية من هذا الكتاب أنه بعد موته سعتْ عقولٌ غير عقله لإعطائه موقعًا معينًا في التاريخ. فلقد توجَّه أتباعُه اللاحقين، وجلُّهم من اليهود الهيلينيين، إلى الأمم وأخذوا أساسيات عقائدهم اللاهوتية من تلك المصادر الوثنية، وجعلوا من الناصري البسيط إلهًا خارقًا. لقد صبوا فكرهم في عقل يسوع، وألقى لاهوتُهم القائم على الأسطورة بظلاله على أقوال يسوع التاريخية، وأخفى طبيعتَه الإنسانية الأساسية. في الفصول التالية، يستعرض المؤلِّف الصور التالية المتراكبة ليسوع التي ابتكرتْها عقول من يسمِّيهم "الهيلينيين" ويرفضها جميعًا، باعتبارها صورًا منحرفة عن الصورة التاريخية الأصلية. وهذه الصور هي: صورة يسوع بيت لحم الذي ارتقى إلى مرتبة المسيح، وصورة يسوع أنطاكية الذي صار الكلمة، وصورة يسوع مجمع نيقيا الذي صار إلهًا من خلال التصويت في المجمع وتدخُّل الإمبراطور قسطنطين المتحول حديثًا إلى المسيحية. هذه خلاصة سريعة للأفكار الرئيسية في الكتاب الذي يحتوي على الكثير مما يمكن مناقشته والرد عليه. ولكن نقدي سوف يقتصر على مسألتين أساسيتين اثنتين: الأولى تتعلق بالصورة التي دعاها وحدها بالتاريخية والصادقة، وهي صورة النبي الناصري؛ والثانية تتعلق بالتناقض الواضح بين مقدمات المؤلِّف والنتائج التي بناها على هذه المقدمات. فيما يتعلق بصورة يسوع التاريخي، يقول المؤلِّف إنه استند في رَسْمِها إلى الأناجيل الثلاثة المتشابهة، وهي إنجيل متى ومرقس ولوقا، في استبعاد كامل لإنجيل يوحنا الذي يعتبره إنجيلاً لاهوتيًّا بامتياز وسجلاًّ لأقوال مختلَقة لم يَفُهْ بها يسوع قط، وإنما هي إنشاء من قبل مؤلِّف الإنجيل. كما يستبعد أيضًا كلَّ رسائل بولس لأن تفاسيره قد تأثَّرتْ بالعقائد اليونانية والرومانية؛ وكذلك الأمر في بقية أسفار العهد الجديد. هذا الموقف التعسفي الانتقائي، الذي ينطلق من قبول بعض الأناجيل ورفض غيرها، يترسَّخ تدريجيًّا عندما نكتشف أن المؤلِّف كان انتقائيًّا أيضًا في اعتماده على الأناجيل المتشابهة الأولى، ولم يأخذ منها إلا ما وافق عقيدتَه وآراءه المسبقة. ولسوف أتوقف عند نقطتين فقط تُظهِران مدى انتقائية المؤلِّف: الأولى قوله بأن يسوع لم يُلمِّح إلى أنه سيذهب إلى أورشليم ليموت فداءً عن البشرية، ولم يكن عارفًا بما ينتظره هناك؛ والثانية قوله بأن يسوع لم يزعم عِبْرَ حياته التبشيرية أنه المسيح، وأنه حذَّر تلامذته من أن يُشِيعوا ذلك بين الناس. وللردِّ على النقطة الأولى أورِدُ هذه المقاطع من الأناجيل الثلاثة. فقد وَرَدَ في إنجيل مرقس، الإصحاح 10 (حيث ينبئ يسوع للمرة الثالثة على التوالي بموته) ما يلي: وكانوا سائرين في الطريق صاعدين إلى أورشليم، وكان يسوع يتقدَّمهم، وقد أخذهم الدهش. [...] فمضى بالاثني عشر مرة أخرى، وأخذ ينبئهم بما سيحدث له، قال: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، فابن الإنسان يُسلَم إلى الأحبار والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويُسلِمونه إلى الوثنيين، فيسخرون منه، ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه، وبعد ثلاثة أيام يقوم. ووَرَدَ في إنجيل لوقا، الإصحاح 9: وقال: "يجب على ابن الإنسان أن يعاني آلامًا شديدة، وأن يرذلَه الشيوخُ والأحبارُ والكتبة، وأن يُقتَل ويقوم في اليوم الثالث." ووَرَدَ في إنجيل متى، الإصحاح 16: وبدأ يسوع من ذلك الحين يُظهِر لتلاميذه أنه يجب عليه أن يذهب إلى أورشليم ويعاني آلامًا شديدة من الشيوخ والأحبار والكتبة، ويُقتَل ويقوم في اليوم الثالث. [...] فقال لهم يسوع: "إن ابن الإنسان سيُسلَم إلى أيدي الناس، فيقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم." هذا ما وَرَدَ في الأناجيل الثلاثة حول معرفة يسوع المسبقة بمصيره وقبوله له، بل وسعيه إليه. فما هي المصادر التي اعتمدها المؤلِّف إن لم تكن عقيدته وآراءه المسبقة التي اكتسبها من المذهب "التوحيدي" Unitarian الذي تحول إليه في أمريكا بعد هَجْرِه المذهب الأرثوذكسي؟ أما قول المؤلِّف بأن يسوع لم يزعم طوال حياته أنه المسيح، فقول لا تؤيِّده الشواهد من الأناجيل الثلاثة التي يدَّعي الاعتماد عليها وحدها. صحيح أن يسوع قد أمر تلامذته ألا يقولوا لأحد إنه المسيح، – والسبب في ذلك، على الأرجح، رغبته في عدم الارتباط بمفهوم المسيح السياسي الذي كان اليهود ينتظرونه، – ولكنه ارتضى لنفسه هذا اللقب من قبل تلامذته عن طيب خاطر، وأثنى على بطرس الذي كان أول مَن أطلق هذا اللقب عليه. نقرأ في إنجيل متَّى، الإصحاح 16-17: فقال لهم: "ومَن أنا في قولكم أنتم؟" فأجاب سمعان بطرس: "أنت المسيح ابن الله الحي." فأجابه يسوع: "طوبى لك يا سمعان بن يونا. فليس اللحم والدم كشفا لك هذا، بل أبي الذي في السماوات." [...] ثم أوصى تلاميذه بألا يخبروا أحدًا بأنه المسيح. وفي مشهد المحاكمة، كما قدَّمه إنجيل مرقس (وهو أكثر الأناجيل بساطةً وبُعدًا عن التأملات اللاهوتية)، أعلن يسوع بكلِّ صراحة ووضوح أنه المسيح. نقرأ في الإصحاح 14: فسأله عظيم الأحبار ثانية قال له: "أأنت المسيح ابن المبارك؟" فقال يسوع: "أنا هو. وسوف ترون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القدير، وآتيًا في غمام السماء." أنتقل الآن إلى المسألة الثانية التي يدور حولها نقدي لأفكار المؤلِّف، والتي تتعلق، كما أسلفت، بالتناقض الواضح بين مقدمات المؤلِّف ونتائجه. فإذا كان الإنجيل "سجلاًّ حقيقيًّا لتطلعات الإنسان" و"بحثًا عن الحقيقة الدينية"، وليس "هدية معلَّبة مُنزَلة من فوق" (على ما يقوله المؤلِّف في الصفحة 129 والصفحة 134)، وإذا كان الإنجيل "كتابًا إنسانيًّا" وكان "كلمة الإنسان عن الله" (كما يقول في الصفحة 134)، فلماذا يجب علينا أن نقبل بالصورة الانتقائية ليسوع الناصري كما رسمها المؤلِّف، ونرفض معه بقية الصور التي هي من صنع الإنسان أيضًا؟ ولماذا يجب علينا أن نتجاوز كلَّ تأملات الإنسان اللاهوتية التي رسمت صورة يسوع المسيح ويسوع الكلمة ويسوع الأقنوم الثاني في الثالوث؟ ألا تشكِّل هذه التأملات اللاهوتية، بدورها، سجلاًّ لتطلعات الإنسان وبحثًا عن الحقيقة الدينية؟ لماذا لم تتوقف تطلعات المسيحيين وبحثهم عن الحقيقة عند صورة يسوع الناصري، المعلم الأخلاقي، بل تجاوزتْها إلى يسوع المسيح المخلِّص؟ أليس لأن صورة المسيح المخلِّص الذي مات على الصليب طواعيةً فداءً للبشرية هي الصورة الأقرب إلى النفس الإنسانية في بحثها عن الخلاص؟ لقد اعترف المؤلِّف بهذه الحقيقة اعترافًا غير مباشر عندما قال في الصفحة 116: إن الطبقات الفقيرة في الإمبراطورية الرومانية لم تكن تكترث لرسالة اجتماعية، وإنما كانت تطلب خلاصًا شخصيًّا عبر سيد مخلِّص، في عصر غير آمن روحيًّا. وهذا ما قاد الإنسان الاعتيادي إلى اعتبار المسيح المعبود صديقَه ومساعدَه الإلهي. لم يعد الله كائنًا بعيدًا، بل ها هو يرافق الناس في طريق حياتهم الصعبة في شخص ابنه الذي كان بشكل غامض هو الآب نفسه أيضًا. لقد تعذب يسوع ولكنه انتصر أخيرًا. لهذا كان الصليب، رمز عذاب المسيح ومحبته، يمنح المجاهد روحيًّا دعمًا إلهيًّا ويحفظه ويهوِّن عليه في ساعات المرض والألم، ومعزيًا كلِّي القدرة في ساعة الموت. كلمات المؤلِّف هذه تقودنا إلى القول بأن المسيحيين قد صنعوا مسيحهم عبر القرون الثلاثة أو الأربعة التي تلت حياة يسوع، ولم يتلقوه "هدية معلَّبة" من الأعلى. فلماذا يجب علينا أن نرفض هذا المسيح اليوم لصالح هدية معلَّبة فعلية يقدِّمها لنا المؤلِّف هي صورة يسوع الناصري، المعلِّم الأخلاقي البسيط، التي يضفي عليها وحدها صفةَ الواقعية والتاريخية، بينما لا تعدو أن تكون صورة انتقائية تمَّ رسمُها رسمًا تعسفيًّا اعتمادًا على قراءة متحيزة للأناجيل الثلاثة – صورة لا تصلح لأن يُبنى عليها أيُّ دين حقيقي. وفي الحق أن الإبقاء على هذه الصورة وحدها، وشطب كلِّ تأملات المسيحيين اللاهوتية اللاحقة، من شأنه أن يخلق "مسيحية بلا مسيح"، ويجعل من يسوع مجرد نبيٍّ يهودي حاول إصلاح اليهودية من داخلها. وهذا بالضبط ما سعى إليه الفكر اليهودي على الدوام، ممتطيًا ظهر طوائف مسيحية جديدة، بينها طائفة "الموحدين" التي ينتمي إليها المؤلِّف. وهي طوائف نشأت في تربة الپروتستانتية الأمريكية، تسعى جاهدةً للاستيلاء على روحها، لأن في ذلك استيلاءً على الروح الأمريكية – والاستيلاء على الروح الأمريكية هو عنصر هام من عناصر التحكم في عالم اليوم. *** *** *** [*] إبراهيم متري رحباني، الترجمات الخمس ليسوع، بترجمة وتحقيق أسامة عجاج المهتار، دار أطلس، دمشق 2005. |
|
|