"مولع بيسوع"

قراءة في كتاب

الوجه الآخر للمسيح

 

وائل السوَّاح

 

للمرَّة الأولى في كتبه جميعًا يُعَنْوِنُ فراس السواح فاتحةَ كتابه الأحدث الوجه الآخر للمسيح[*] – فهو عادةً ما يكتفي بكلمة "فاتحة". أما هذه المرة فقد عَنْوَنَ فاتحتَه بعبارة "مولع بيسوع"؛ وهو بذلك يعطي كتابَه الجديد بُعدًا ذاتيًّا، إضافةً إلى بُعده الموضوعي والجهد الكبير الذي بذله السوَّاح في هذا العمل.

يقول السواح في "فاتحته" إنه طالما فُتِنَ بشخصية يسوع التي رأى فيها "نموذجًا للثوري الذي جاء ليعلن نهاية عالم قديم وتأسيس عالم جديد، يتحقق المثالي فيه باعتباره واقعًا". وانطلاقًا من هذا الفهم الخاص للمسيح، بدأ السواح مشروعه الجديد بتقشير الطبقات المتراكمة التي تغطي الصورة الحقيقية للمسيح وللمسيحية من أجل إبراز الوجه الأصلي للمسيح الجليلي الكنعاني الذي نادى برسالة إنسانية شمولية، لا المسيح "اليهودي" الذي أحدث انقلابًا داخل المؤسَّسة الدينية اليهودية من خلال تعاليم ومواقف وأفعال عبَّرتْ عن تجاوُز الموروث وقادت إلى تشكيل كنيسة مستقلة، على الرغم من بقائها على ارتباط روحي بالتركة التوراتية.

حتى يصل فراس السواح إلى هذه النتيجة، بدأ بدراسة الأناجيل الأربعة التي تعترف بها الكنيسة رسميًّا، فابتدأ بملاحقة الفرق بين الأناجيل الإزائية (وهي أناجيل متى ومرقص ولوقا) وبين الإنجيل الرابع، إنجيل يوحنا، الذي هو نسيج وحده بين الأناجيل الرسمية الأربعة، "يمتلك رؤية خاصة به وبنية عامة وتحقيبًا زمنيًّا ونسيجًا لاهوتيًّا ليس له مثيل بين الأناجيل الإزائية الثلاثة"؛ والأهم من ذلك أن رسالة يسوع فيه مختلفة عن رسالته في الأناجيل الأخرى. ولقد تبيَّن للسواح أن أية محاولة للتسوية بين الأناجيل الأربعة لن تعدو أن تكون توفيقًا غير ناجح: إذا كان يوحنا على حق، كان الإزائيون على خطأ؛ إذ يستحيل أن يكون كلا الفريقين على صواب.

للبحث في أسباب هذا الاختلاف، رجع الباحثُ إلى تاريخ كاد أن يصير نسيًّا منسيًّا بفعل السطوة التي مارستْها المداخلات اليهودية على العهد الجديد والتي لا بدَّ أن تبدو للمحقِّق غريبة كلَّ الغرابة وشاذة عن السياق العام للنصِّ المسيحي وأقوال يسوع ومواقفه العملية. هذا التاريخ هو التاريخ غير الرسمي للمسيحية الذي انتهى مع تبنِّي كنيسة روما الأناجيل الأربعة الرسمية.

غير أننا بالعودة إلى القرن الأول والثاني الميلاديين نكتشف حركةً مسيحيةً راديكالية عارضت كنيستَي روما وأورشليم، متخذةً في القرن الثاني شكل كنيسة غير منمَّطة عقائديًّا وغير منظَّمة تراتبيًّا. وقد عدَّت هذه المسيحية الغنوصية نفسَها "الممثل الحقيقي للدين العالمي الجديد". وهي لم تكتفِ بإعلان "استقلالها التام عن اليهودية، بل أظهرت العداء لكلِّ الميراث التوراتي وتصوراته عن الألوهية والإنسان والعالم". وقد أنتج المسيحيون الغنوصيون أناجيلهم التي استمدوها من فهمهم "الأصيل لتعاليم يسوع المبثوثة في الأناجيل القديمة، ومن تعاليم أخرى له سرِّية بثَّها في تلاميذه"، وكذلك من تعاليم بولس "التي بثَّها في رسائله المعروفة أو التي قالها سرًّا لأتباعه المخلصين".

ويرى المسيحيون الغنوصيون أن في إمكان "كل مَن تلقَّى الروح [...] أن يتواصل مع الإلهي دون واسطة". كما أنهم يعبِّرون عن معارضتهم للهرمية الكنسية ولدور رجال الدين في الكنيسة. ويرى بعضهم أن "طاعة رجال الدين تسلِّم المؤمنين إلى قيادة عمياء تستمد سلطتها من إله العهد القديم، لا من الله الحق".

ويقودنا هذا إلى جوهر المسيحية الغنوصية الحقيقي: ترى المسيحية الغنوصية أن الله الحق ليس هو إله العهد القديم، صانع هذا العالم المادي الناقص المليء بالشرور، بل هو "الآب النوراني الأعلى الذي يتجاوز ثنائيات الخلق، ولا يحده وصفٌ أو يحيط به اسم، الذي بشَّر به يسوع، وبالآب دعاه، وليس بأيٍّ من أسماء الألوهة التوراتية". وهي بذلك تربأ بالإله الآب عن أن يكون هو مَن خلق عالم المادة المليء بالشر.

فمَن هو خالق هذا العالم إذن؟ إنه إله التوراة الذي "يوازي آنجرامانيو، شيطان الزرادشتية". والمسيحيون الغنوصيون يتصورونه "على شكل مسخ مزيج من هيئة الأفعى والأسد". وقد أطلقوا عليه أسماء، منها يهوه ويلضباعوث و"أمير هذا العالم". وهو لذلك جاء عالمًا ناقصًا سِمَتُه الألم والمرض والموت. وينجم عن هذه العقيدة رفض الغنوصيين لهذا العالم ومتطلباته التي تعرقل سعي الروح إلى الانعتاق واستعادة حالة السقوط إلى حالة الكمال.

إذا كانت المسيحية على ما ذكرنا أعلاه، فكيف تغيرت هذا التغير الجذري واتخذت الشكل الذي نراه اليوم؟ يجيب فراس السوَّاح عن هذا التساؤل بردِّ هذا التحول إلى المداخلات اليهودية التي "أفلحت في خلق شوكة في خاصرة المسيحية عندما تم في القرن الرابع الميلادي الجمع بين العهد القديم وأسفار العهد الجديد في الكتاب المقدس". ولقد لعبت المداخلات اليهودية، كما يرى السوَّاح، دورًا محوريًّا في عدد من القضايا، أهمها مكان الميلاد والشريعة ونَسَب يسوع وعالميَّة رسالته.

ويرى الباحث أن قصة الميلاد في إنجيل متى هي أخطر المداخلات اليهودية في العهد الجديد؛ إذ هي التي رسَّخت فكرة أصل يسوع اليهودي. فلقد ولد يسوع، بحسب متى، في مدينة بيت لحم اليهودية الواقعة قرب أورشليم من أسرة يهودية. ثم لكي يبرِّر رسالة يسوع وحياته التي قضاها في الجليل، يدبِّج متى قصة مذبحة بيت لحم وفرار العائلة المقدسة إلى مصر، ثم عودتها إلى ناصرة الجليل. على أننا، إذا ما نحَّينا هذه المداخلة جانبًا، لا نجد أيَّ شيء يربط يسوع ببيت لحم ومقاطعة اليهودية. فهو جليلي، ولد وترعرع وبشَّر في الجليل، أبواه جليليان، وكذلك تلامذته وأتباعه كلهم. ولا يكل الإنجيل أبدًا من الإشارة إلى "جليلية" المسيح: فهو يسوع "الناصري"؛ وكلما جرى حديثٌ بين اليهود عنه ذُكِرَ اسمُ الناصرة أو الجليل.

وفي ذلك كلِّه اعتمد الكاتب في منهجه على مقاربة نقد–نصية، قرأ من خلالها نصوص الإنجيل بعيدًا عن التفسيرات الرسمية؛ كما اعتمد مقاربةً تاريخية، بحث من خلالها تاريخ الجليل، موطن يسوع وتركيبه الثقافي والإثني. ثم أعطى بعد ذلك حيزًا للبحث في المسيحية الغنوصية التي أسَّست لكنيسة واسعة الانتشار طرحت نفسها بديلاً عن كنيسة روما، مُحدِثةً قطيعةً تامة مع التاريخ الديني اليهودي ومطابِقةً بين إله اليهود والشيطان.

كتاب من الصعب الإحاطة به في عرض موجز. فهي، إذن، دعوة إلى قراءة الكتاب بعين ناقدة، منفتحة، جديدة، وتكوين وجهة نظر عذراء في هذا الموضوع الشائك.

*** *** ***


 

horizontal rule

[*] فراس السواح، الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهود واليهودية وإله العهد القديم ومقدمة في المسيحية الغنوصية، طب 1، دار علاء الدين، دمشق 2004، 258 ص من القطع الكبير.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود