|
الطَّـبـابـات الـجَّـديـدة فلسفة الناتوروپاثيا ترأب الصَّدْع بين الإنسان والكون الحالةُ المثاليَّة تكامُلٌ بين الطَّبابة الرَّسمية والطُّرُق الطَّبيعية للعلاج
روبير ماسون Robert Masson واحد من ألمع الاختصاصيين الفرنسيين الجِدِّيين في المعالجة الطبيعية، خاصة بواسطة التغذية؛ ولهذا كُلِّف إبان سنوات عديدة بإلقاء المحاضرات على الأطباء في كلِّية الطب بجامعة باريس. في لقائنا معه، سألناه عن طبيعة ممارسته، فلسفتها، وموقعها بالنسبة إلى الطبابة التقليدية.
جدير بالذكر أننا استبقينا في النص مصطلح ناتوروپاثيا Naturopathie (من دمج كلمتَي "طبيعة" اللاتينية و"مرض" اليونانية) الذي يعني "معالجة المرض بطُرُق طبيعية". ويمكن للقارئ الراغب في التوسع والملم بالفرنسية أن يجد في ثبت المراجع ضالَّته، فيتعمق في مَحاور هذا اللقاء. سمير كوسا ***
سمير كوسا: ما هو الفرق بين الطب الرسمي والناتوروپاثيا؟ روبير ماسون: في نظري ونظر زملاء عديدين غيري، لا توجد طبابات مختلفة، بل طب واحد – ولهذا الطب الواحد أوجُه مختلفة. أما الذي يميِّز الناتوروپاثي [المعالِج بطُرُق طبيعية] عن الألوپاثي[1] الكلاسيكي هو أن الألوپاثية تقنية طبية تنجح تمامًا في كلِّ ما هو ملح وعاجل: كلما تعرَّض الجسم لإصابة خطيرة، سريعة التطور، كالتهاب السحايا عند الطفل، أو ذات الرئة لدى البالغين، أو السل، أو الزهري، إلخ، لا مناص من الاستعجال – وهنا تنجح المضادات الحيوية والأدوية الحديثة الأخرى نجاحًا تامًّا. لهذا لا يمكن، ولا في أيِّ حال من الأحوال، الاستعاضة عنها بتناول النقيع tisane [مغلي الأعشاب] أو أية وسيلة علاج "طبيعية" أخرى! لا يمكن الاستعاضة عن الطب العادي في حالات الإصابات الخطيرة والسريعة، كولادة طفل بعضو ضامر أو قاصر وظيفيًّا، أو بغدة درقية سقيمة: إذ تلزم، في مثل هذه الحالة، مداواته بهورمون الثيروكسين حتى يتم إنقاذُه؛ كذلك، إذا تعرَّض فردٌ لوهط قلبي أو لقُصور مفاجئ في القلب، فلا بدَّ من إعطائه موسِّعًا للشرايين في حالة الاحتشاء القلبي [الجلطة]، أو منشطًا للقلب في حالات أخرى، ليتم إنقاذُه. لا أريد التوسع في هذا الموضوع. فمن المؤكد أنه كلما واجهت الحياةُ الهلاكَ السريع، لا يمكن لنا أن نستبدل بالطب الكلاسيكي معالجةً أخرى – فلو لم يكن هذا الطب موجودًا لوجب اختراعُه! لكن هذا الطب – للأسف – أقل فعالية، بل يولد أحيانًا اضطرابات ثانوية قد تكون أخطر من المرض الأساسي؛ وتُعرَف هذه الحالات بالحالات "الياتروجينية"[2]. فالطب الكلاسيكي مقصِّر في علاج الأمراض الجلدية والنزلات، كالتهاب القصبات أو النزلة الرئوية المزمنة أو الربو، أو في مداواة داء الصدف أو القوباء [الإكزما] أو الاعتلال المفصلي والروماتيزم [داء المفاصل] التنكسي؛ والأمر كذلك أيضًا بخصوص حَبِّ الشباب وشح النظر والأسنان المصابة بالنخر والتسوس؛ وهو يقصِّر في حالات القصور الهضمي والوهن المزمن والأرق. وفي اختصار، لا يمكن لنا تعداد جميع الاضطرابات المزمنة التي لا يقوم الطب حيالها إلا بالقليل. لنقل، إذن، إن الطبيب الكلاسيكي لا يمتلك الوسائل الناجعة في الحالات المزمنة. وهو، خلافًا للناتوروپاثي، مستعجل، لا وقت لديه. ناهيك أن الأطباء لم ينشأوا على البحث العميق والدقيق عن علل الأمراض. وهذا ما يقوم به الناتوروپاثي naturopathe [الممارس غير الطبيب] والناتوروثيراپوتي naturothérapeute [المعالِج الطبيعي]، اللذان يبحثان عن إتيولوجيا étiologie [أسباب] المرض. وحتى يتوضح ما يميِّز الألوپاثي عن الناتوروپاثي، سوف نأتي على أمثلة من أمراض شائعة: يصاب طفل بالتهاب الحرقوة [الأنف والبلعوم]، أو بالتهاب الأذن أو الحنجرة، أو بالتهاب القصبات، أو بالنزلة الرئوية المتكررة، فيستمر هذا لسنوات. وفي كلِّ مرة، تتم مراجعة الطبيب المختص بالأذن والأنف والحنجرة ORL، الذي يصف، كلَّ مرة، المضادات الحيوية على مدى ثلاثة أسابيع. ويتغيب الطفل من جراء ذلك عن المدرسة، كونه متعبًا من مرضه ومن تأثير المضادات الحيوية. فهذه المضادات تحتجز فترةً "الضروريات"[3] [العناصر النادرة] التي يحتاج إليها الجسم في عملية الاستقلاب[4] [الأيض]؛ إذ يتدخل عنصر الزنك، على سبيل المثال، في أكثر من ثمانين استقلابًا أو تفاعلاً إنزيميًّا. عندما يأتي طفل مصاب لاستشارتي، فإنني أمنعه عن جميع مثبطات الهضم، مثل الصودا والأشربة بأنواعها والليموناضة والعلكة، وأحذف تناول الطعام من دون توقف، أي "اللقمشة" بين مواعيد الطعام؛ وأجنِّبه بعض الأغذية عسرة الهضم، كالعسل والموسلي[5] والپيتزا والرافيولي والقهوة بالحليب إلخ؛ وأتجنب أيضًا الإكثار من التغذية الكاملة، وذلك لتسهيل عملية الهضم. يجب أن نعلم أنه عند تباطؤ عملية الهضم، يطرأ ارتفاع في التخمرات والتعفنات في القناة الهضمية، مما يؤدي إلى زيادة فوعة virulence بعض الفيروسات والبكتيريا ذات القدرة العدائية الكامنة التي يمكن لها دخول الجسم، من خلال التهاب الغشاء المخاطي أو بالانتشار من القولون إلى المعي الغليظ والمعدة والبلعوم. إذ يصل هذا الاحتقان–الالتهاب في المخاطية إلى مجاري الهواء العليا، كالأنف والجيوب والأذنين، أو السفلى، كالحنجرة والقصبات والرئتين. إن تنظيم التغذية واجتناب ما سمَّيتُه "عسر الهضم المزمن" المولد للإصابات يسمحان بشفاء الطفل من الإصابات المزمنة والمتكررة بنسبة 95%. ويمكن لي القول بأن حالات الفشل الوحيدة يتحمل مسؤوليتَها الأهلُ الذين يرفضون التنظيم الغذائي، أو بسبب وضع الأطفال في دور الحضانة أو في عهدة مربية، وما شاكل، أي حالة الأطفال الذين لا تقدَّم لهم تغذيةٌ صحيحة. لدينا، إذن، 95% من حالات الشفاء عند الأطفال الذين اتبعوا في السابق علاجًا أساسه المضادات الحيوية كلَّ ثلاثة أسابيع وعلى مدى سنوات. وبهذا يتبين التوفيرُ الهائل في النفقات التي يمكن أن يفيد منه الأهلُ ومؤسَّساتُ الضمان الصحي؛ علاوة على أن هذه الإصابات المزمنة والمتكررة مسؤولة، في تقديري، عن 80-90% من حالات التغيب عن المدرسة. س.ك.: فما هي تغذية الطفل الصحيحة، بما أننا جئنا على ذكرها؟ ر.م.: يبدأ الصباح مع مشروب ساخن وخبز، أو خبز وزبدة، أو خبز وجبن، أو خبز وبيضة مسلوقة: لا شيء تقريبًا في الصباح. أما الغداء والعشاء فيتألفان من: نيئات متنوعة (سلطة، إلخ) + خضار وبطاطا (أو معجنات أو رز) + لحم (أو سمك أو بيض أو جبن؛ إذن، پروتين على الخاطر) + تحلية صغيرة (فطيرة، كريم كَرَميل، شوكولا، إلخ) + ماء نقي. أما حوالى الخامسة بعد الظهر، فتقدَّم كـ"عصرونية" الفاكهةُ والجبن الأبيض [المائع]، أو فاكهة ولبن رائب، باستثناء كلِّ النشويات والكربوهيدرات: خبز، بسكويت، سكريات، شوكولا، تمر، إلخ. وأنا أؤكد أنه عندما نعطي للطفل الماء وحده للشرب، فنلغي الأشربة والصودا والليموناضة والملبَّس والعلكة، وعندما نلغي الغلوسيد الرباعي، أي الخبز، بين أوقات الطعام في فترة العصر – أؤكد أنه، مع الوجبات الثلاث المتوازنة هذه، تختفي الإصابات المزمنة والربو إلى غير رجعة، لأن منشأها غذائي أساسًا. س.ك.: ولدى البالغين؟ ر.م.: النتائج هنا أصعب؛ إذ تتدخل عوامل أخرى، كالتعب والإنهاك والأرق، فتتعقد القضية. يمكن للإنهاك الناتج عن أسباب مختلفة أن يولِّد الالتهاب والإصابة، بسبب الانخفاض العام في الحيوية وفي القدرة على مقاومة المتعضِّيات المجهرية. لكن ذلك يبقى نادرًا نسبيًّا؛ فالعلة لدى البالغ من منشأ غذائي غالبًا. وتوجد، بالطبع، أسباب غير التغذية، كما في الأمراض العَرَضية، كالزهري والإيدز والسل؛ لكن، ليس في الأمراض المتكررة والمزمنة الشائعة. س.ك.: تحدثت عن الميدان العملي لكلٍّ من الطب الألوپاثي والطبابة الناتوروپاثية. فهل لك أن تصف المفاهيم الموجِّهة للناتوروپاثيا؟ ر.م.: سوف نأتي على ذكرها. لكنني أود قبلئذٍ الانتهاء من حديثي السابق ببعض الأمثلة: فلننظر إلى داء التهاب المفاصل: يعاني رجل في الستين من العمر من آلام، وتبدأ مفاصلُه بالتيبس، فيُجرى له تصويرٌ شعاعي، ليتبين أن الغضاريف قد تلفت بعض الشيء. يقوم الطب الكلاسيكي، في هذه الحالة، بوصف مضادات التهاب، تقوم بتسكين الألم من دون أن تمس في شيء عمليةَ التنكس، حيث يكمن سبب الالتهاب المفصلي. لكننا حين نكتفي بتلطيف الألم من دون معالجة المرض، نوجِد لا محالة مشكلاتٍ مَعِدِية هائلة، قد تقود المريض إلى الإصابة بقرحة خطيرة. وفي هذه الحالة، يصف الطبيب مجددًا مهدئات لالتهاب القرحة؛ وبذلك ننشط عملية تشكُّل الرمل الكلوي، الذي تتطلب مكافحتُه أدويةً جديدة تؤدي إلى أمراض أخرى. وهكذا فإننا، ابتداءً من مرض وحيد هو التهاب المفاصل، أوجدنا قرحة معوية ورملاً في الكلية وغيرهما – وهذا ما هو "جهنمي" في الطب! فماذا يفعل الناتوروپاثي؟ يبحث، أولاً، في أسباب التهاب المفاصل: هل هو نتيجة الشيخوخة، أم الأرق، أم الإفراط في تناول المنبهات (الشاي والقهوة)، التي تحتجز الضروريات التي لا غنى عنها في تشكل الغضاريف؛ إذ ترتبط جميع الأنزيمات المساهِمة في هذا التشكل بالمعادن. وهكذا نبحث في عناية عن الأسباب، كالتي جئت على ذكرها وغيرها، لنبطلها؛ ونقدم المكمِّلات الغذائية، كالأوسفور والپوپ[6]، التي توفر الضروريات اللازمة بكميات كبيرة وفي صورة عضوية؛ ونلجأ إلى التداوي بالأعشاب أيضًا، فنصف نبات الدردار وملكة المروج إلخ. وهكذا نقوم بشفاء التهاب المفاصل تدريجيًّا من دون تحريض اضطرابات ثانوية. لنتناول حالة أخرى هي القوباء: يصف طبيب الجلد مرهمًا جلديًّا (قد يكون أساسه الكورتيزون)، ويبدو بعده أن القوباء تتحسن. لكن الواقع هو أن طرح السمِّيات عبر الجلد قد توقف. فالقوباء مرض واقٍ للحياة؛ وعندما نترك السموم (أو الفضلات) داخل الجسم، وعندما نقاوم القوة الحيوية الذكية، فإننا نحرض أمراضًا ثانوية، كالربو والأورام والتهاب المفاصل وغيرها. في كلِّ مرة نقاوم مقاومةً غبية سيرورةَ الحياة الدفاعية، فإننا نوجد أمراضًا جديدة تكون غالبًا أخطر من المرض الأصلي! ولا مناص هنا من التمييز بين زمرتين كبيرتين من الأمراض: فهناك الأمراض "الواقية للحياة"، التي تظهر في كلِّ سيلان وكل تقشُّر، كالتهاب القصبات (أو النزلة الرئوية)، حيث يطرح الجسم السمِّيات التي ترهقه عبر الغشاء المخاطي، أو كالقوباء، حيث يتم هذا عبر الجلد. فإذا شئنا الشفاء من المرض لا بدَّ من إبطال أسبابه – وهذا ما يقوم به الناتوروپاثي. أما إذا اكتفينا بوضع مرهم على القوباء أو بإيقاف سيلان مهبلي لدى امرأة تطرح من خلاله النيكوتين مثلاً (وهناك طبعًا أساليب أخرى لهذا)، فإننا نوجِد ما سمَّاه جان روستان Jean Rostand "الحياة السيئة". ولا يرجع ذلك إلى سُمِّية الأدوية، بل ينتج عن فهم مغلوط للعمليات والسيرورات البيولوجية. س.ك.: وما هي فلسفة الناتوروپاثيا؟ ر.م.: تتلخص هذه الفلسفة في ثلاث كلمات: الحيوية[7]، الأخلاطية[8]، العلِّية[9]. توجد في الجسم طاقة حياة "ذكية"، تميل دائمًا نحو الصحة، على الرغم من عوارض الحياة كلِّها. وهذا ما يسمى بـ"الكمون الحيوي الهومِيوستاسي"[10] [الذي سنرمز له بحروف ك.ح.هـ.]. والهومِيوستاسِيا [الانتظام الذاتي] عبارة عن الانتظامات التلقائية التي تتم في الجسم الحي: ففي هذه الغرفة، مثلاً، الحرارة معتدلة؛ وعندما نذهب إلى الخارج، حيث الحرارة منخفضة، ينبِّه الجلدُ إلى ضرورة انقباض العروق حتى يُتجنب ضياعُ الحرارة بالإشعاع، وتعمل الغدة الدرقية على رفع حرارة الجسم. تلك هي الآلية الهومِيوستاسية. ولنطرح مثالاً آخر: لنفترض أن صديقًا دعاك إلى مأدبة، وتجاوزتَ خلال الطعام هناك قدرتَك على الهضم، مما يؤدي إلى تخمر المأكولات وتعفنها في المعدة؛ إذ ذاك يتعرض الجسم لخطر التسمم. فماذا يفعل ك.ح.هـ.؟ إنه يحرِّض قيئًا وإسهالاً لكي يتجنب التسمم. خلاصة القول إن ك.ح.هـ. هذا يكفل انتظام الآلة البيولوجية الحية. وينشحن ك.ح.هـ. أساسًا في أثناء النوم وفي الطبيعة، من خلال استنشاق الإيونات [الشوارد] السالبة ورؤية ألوان الطبيعة وأشكالها وشمِّ روائحها، التي تساهم في التوازن. وينشحن أيضًا بالتغذية، وخاصة بالحموض الأمينية والضروريات والحموض الدسمة غير المشبعة. ولا يمكن الاستعاضة عن هذه الأخيرة في عمليات النقل عبر أغشية الخلايا العصبية؛ فهي تدخل في تركيب الأغشية الخلوية، وتسمح بمرور النواقل العصبية[11] وبتمرير الأوامر الواردة من المخ إلى سائر الأعضاء. وينفرغ ك.ح.هـ. في الحياة النباتية[12]، كالهضم والدوران والتكيف ونشاط الغدد الصماء إلخ. فكل أمر هضم، مثلاً، يتطلب حوالى ثمانية أو تسعة لترات من العصارة الهاضمة. وينفرغ أيضًا في الحياة النفسية: فنحن نفكر ونخطط إلخ. وينفرغ كذلك في النشاط الرياضي والجنسي، في العمل وفي العلاقات. وتنتج الصحة عن التوازن بين تشكُّل ك.ح.هـ. (الشحن) وصَرْفِه (التفريغ). فإذا لم نكن على تواصُل مع الطبيعة، وإذا لم نحظَ بحقِّنا من النوم، كمًّا ونوعًا، وإذا لم تكن المواد اللازمة للتوازن العصبي–الصمائي كافية، لن تكون شحنة ك.ح.هـ. كافية. وإذا تناولنا الكثير من التبغ، الكحول، القهوة، إلخ، يتم صرف كمية هائلة من الطاقة العصبية في مقاومة التسمم. كذلك إذا "لقمشنا" من دون توقف، كما يفعل الصغار، يتم تفريغ ك.ح.هـ. تفريغًا مفرطًا على مستوى جهاز الهضم. والواقع أنه بعد نصف ساعة على انتهاء الطعام، ينظِّم الجسمُ الهضمَ وفقًا للطبيعة البيوكيميائية للمأكولات في المعدة. فلو أدخلنا، بعد ساعة أو ساعتين أو ثلاث، حبة تين أو تمر أو قطعة شوكولا صغيرة، تتغير الطبيعة البيوكيميائية لمحتوى المعدة، ويتعين على عملية الهضم التي باتت في المرحلة "ع" أو "ل" أو "ت" أن تعود إلى المرحلة "أ"، مما يؤدي إلى تفريغ هائل للطاقة. فإذا كررنا العملية مرات عدة كلَّ يوم، قد يقود انفراغ ك.ح.هـ. إلى ضياع في التحكم الخلوي وإلى نشوء سرطان. تنشأ الإصابات عندما يفقد الجسم سيطرته على المتعضِّيات المجهرية الكائنة على الأغشية المخاطية وعلى الجلد. كذلك، فإن الإجهاد المتكرر في العمل، أو معاشرة قرين صعب المراس، يقود إلى تفريغ كبير على الصعيد النفسي. كذلك، فإن شخصًا يقاوم طويلاً البرد أو الحر، أو يقوم بعمل منهِك، يصرف الكثير على مستوى العلاقات. التفريغ (الصَّرْف) على المستويات النباتية، الفسيولوجية، الجسمانية، والنفسية، هو أمر طبيعي. لكن عندما يصبح التفريغ كبيرًا، أو عندما يكون الشحن غير كافٍ، فإن الطاقة الحيوية تعاني الإنهاك؛ ويضيع، في هذه الحالة، التحكم في طرح الفضلات، ويبدأ تراكُم السموم المعدية والخارجية والنفايات الخلوية في الجسم، ويكون هذا "التلوث" أو التسمم مصدرًا للأمراض العَرَضية، كالقوباء والتهاب المفاصل وغيرهما. ومع فقدان التحكم بالمتعضِّيات المجهرية، تظهر الإصابات المزمنة المتكررة، ويقود فقدان التحكم الخلوي إلى السرطان – وهذا كله نتيجة تفريغ ك.ح.هـ. وهنا نفترق تمامًا عن الألوپاثيين: ففي نظرنا، ليست أسباب الأمراض محددة، على الرغم من أن الصورة التي تقع فيها محددة، وأعني تفريغ الطاقة. وبهذا يمكن للقوباء أن تنتج بسبب الإفراط في تناول القهوة، أو بسبب نقص في الحموض الدسمة غير المشبعة (الفيتامين F)، أو بسبب ضغط نفسي... وهذه كلها تسبِّب تفريغ ك.ح.هـ. وبالتالي، فإن إصابة أو عدوى قد تنشأ عن عسر هضم، حيث تُستقطَب الطاقةُ الحيوية على القناة الهضمية، فلا يتبقى من الطاقة ما يكفي للتحكم بالمتعضِّيات المجهرية، كما عند الذين "يلقمشون" طوال الوقت. ثم إذا ترك أحدهم المدينة (ولنقل باريس) – حيث يستنشق في المتر المكعب كمية هائلة من الكائنات المجهرية (لنقل 40 إلى 50 مليونًا) من دون أن تؤذيه – وذهب إلى الريف (لنقل غابة بولونيا) – حيث يستنشق حوالى 40 كائنًا مجهريًّا في المتر المكعب؛ إذا فوجئ بعاصفة سيبتل ويرتجف من البرد، فيبدأ أنفُه بوخزه قبل الوصول إلى مأوى، فإن المرض ينشأ بسبب صرف ك.ح.هـ. في المحافظة على حرارة الجسم، ولا يبقى ما يكفي منه لمقاومة الميكروبات. ففي كلِّ مرة يصرف الجسم الكثير على نقطة بعينها، يفقد قدرتَه على الاهتمام اهتمامًا مناسبًا بنقطة أخرى. فلنذكِّر، في هذا الصدد، بتجربة كلود برنار الذي بعدما أطعم كلبين، ترك أحدهما يستريح وأخذ الثاني ليركض طويلاً لساعات: بعد أن فتح معدتَي الكلبين، تبين له أن محتوى معدة الحيوان المستريح تمَّ هضمُه، في حين أن الآخر صَرَفَ طاقتَه الحيوية على المستوى العلائقي، ولم تعد لديه طاقة كافية للحياة النباتية، فبقي طعامُه على حاله. س.ك.: ذكرتَ أن هناك ذكاء جسديًّا. فهل يختلف هذا "الذكاء" عن ك.ح.هـ.؟ ر.م.: يكفل ك.ح.هـ.، كلَّ لحظة، عمل الآليات الفسيولوجية وتوازُنها وتنسيقها بين الأعضاء. ويُعَد "الجهاز العصبي الصمائي" مركز ك.ح.هـ.، وهو يرأس الوظائف كلها. والواقع أن الذكاء الجسماني، أو الذكاء الخلوي، هو الذي يكفل الانتظامات في الحياة كافة. ويظهر المرض بأشكال مختلفة منذ اللحظة التي يكون التفريغ فيها مفرطًا. وحتى نرى كيف أن القوانين الحيوية تهيمن على القوانين البيولوجية، لنرجع إلى مثال الشخص الذي تعرَّض طويلاً للبرد: فبعد عودته إلى المنزل، لا يشعر أنه على ما يرام، يرتجف بردًا، ولا يقوى على تناول الطعام. فإذا أدخلنا إلى معدته الأنبخانة والشحماز والپروتياز (وكلها خمائر هاضمة)، فإننا لن نتمكن من إعادة شهيته. أما إذا أخذ حمامًا ساخنًا ودفَّأ جسمَه فإنه يستعيد شهيته؛ إذ إننا تجنبنا صَرْفَ الطاقة على المستوى الحراري، فصارت متوفرة على المستوى الفسيولوجي. مثال آخر: إذا قمنا بتلقيح طفل وهو على وشك التغلب على مرض، فإننا سنستقطب ممانعته البدنية على نقطة التلقيح كي يتم إنتاج الأجسام الضدية anticorps الخاصة، ردًّا على المولدات الضدية antigènes اللقاحية. وهكذا يمكن للمرض الذي كان على وشك الانتهاء أن ينتكس. من هنا فإن اللقاح خَطِرٌ في بعض الحالات. أخيرًا، مثال معروف: عندما أراد پاستور نقل الكوليرا إلى الدجاج، كان ينقع الدجاجات لساعات في الماء البارد، حتى تضعف قوتُها نتيجة استنفار الطاقة على المستوى الحراري، فيمكن عندئذٍ نقل المرض إليها... س.ك.: تحدثتَ عن الناتوروپاثيا وكيف أنها، من خلال التنظيم الغذائي واتباع قواعد حياتية سليمة، تحاول أن تمنح الفرد أفضل صحة ممكنة. فما هي الحال مع الطبابات الأخرى "الموازية"، بحسب تسمية بعضهم – هل لها المفاهيم ذاتها؟ ر.م.: هناك بعض الاختلاف؛ بمعنى أن الناتوروپاثي الحقيقي يبحث عن أسباب المرض الحقيقية. و"الطب اللطيف" médecine douce، أو بالأحرى الطبيعي، – الذي ليس "لطيفًا" دومًا! – هو على وجه الخصوص: التداوي بالأعشاب، بالضروريات، بالوخز بالإبر acupuncture، إلخ. وهذه الطبابات ممتازة، ويستخدم الناتوروپاثي بعضها أحيانًا لمساعدة الجسم العليل. فإذا أصيب طفل بالحرقوة (التهاب الأنف والبلعوم) المتكررة، فإضافة إلى ما نقوم به عادة، يمكن لنا أن نساعد الطبيعة بإعطاء الطفل بعض الأعشاب المناسبة للتعجيل في شفائه. س.ك.: إذا جاءك شخصٌ مصاب بسرطان، ماذا يمكن لك أن تفعل؟ ر.م.: عندما يأتيني أحدهم ويقول ذلك، فهذا القول يعني عمومًا أنه يتابع علاجًا كلاسيكيًّا منذ أشهر أو سنوات. أحاول في هذه الحالة أن أدلَّ المريض على أفضل نظام صحي، ليتمكن من مقاومة مرضه ومقاومة العلاج الكيميائي المستخدَم غالبًا. وكثيرًا ما ننجح في تخفيف الآلام تخفيفًا ملموسًا، ونصل أحيانًا إلى تجميد المرض لفترة طويلة. س.ك.: فإذا لم يكن المريض ممَّن يتابعون العلاج الكلاسيكي؟ ر.م.: بما أني لست طبيبًا فأنا أرفض المعالجة – ولا يرجع هذا إلى نقص في المحبة والتعاطف: إذا نجحتُ في إنقاذ المرض أصبحتُ في نظره "إلهًا"؛ وإذا لم أنجح فإن أسرته برمتها ستقوم قيامتها وتقول: "آه، يا ليتك عالجتَه بواسطة الطب الكلاسيكي!" لهذا أرفض معالجة المريض بالسرطان. ففي كلِّ مرة يتوفى مريض بين يدي الناتوروپاثي يقال إنه "قتله"! أما إذا توفي على يدي طبيب كلاسيكي فيقال إن المرض هو الذي قتله. لكن، لنقل إن بعض الناتوروپاثيين قاموا، في شجاعة، بمعالجة بعض مرضى السرطان، وذلك بحماية المريض وتغذيته بعصير الخضار طوال أيام أو أسابيع. وتتكرر الحمية على فترة أشهر، تتخلَّلها عودةٌ إلى التغذية المعتادة. وقد أدى هذا، في بعض الحالات الميئوس منها، إلى الشفاء التام. وأتوجَّه هنا بفكري بالأخص إلى پول ريفولت – وهو ناتوروپاثي من وسط فرنسا – حصل على نتائج رائعة في معالجة السرطان بهذه الطريقة. والواقع أن الحمية هي صيام مقنع، يقوم الجسم إبانه بتحليل (أو هضم) ذاتي للورم. فعندما لا يتغذى الجسم، يأمر ك.ح.هـ. بالقيام بـ"تغذية ذاتية" أساسها الأنسجة المريضة؛ وهذا يعني أن الأنسجة المتصلبة أو الهرمة أو المتورمة يتم تحليلها ذاتيًّا كي تقتات الأنسجةُ السليمة عليها: يقوم الجسم خلال الصوم بهضم (أو تحليل) ذاتي للأنسجة الدهنية لصنع الحموض الدسمة والغليسرول، وبتحليل الأنسجة العضلية لصنع الحموض الأمينية، وبتحليل الأنسجة الضامة والدهنية، التي تختزن الفيتامينات والمعادن والضروريات، بغية تحرير العناصر الغذائية الأساسية؛ أما الغلوكوز، فيتم تصنيعه من الغليسرول والحموض الأمينية. وهكذا يحصل الجسم على حاجته من الأغذية إبان الصوم. وتتجلَّى هنا الفطنة العضوية – إذ إن التحليل (أو الهضم) الذاتي يتناسب عكسًا مع أهمية الأنسجة: كلما كان النسيج حيويًّا للحفاظ على الحياة (الجهاز العصبي، الغدد الصماء، القلب، إلخ)، لا يُصار إلى تحليله؛ وبالعكس، كلما كان النسيج مريضًا، زاد حظُّه من التحليل – مما يؤدي إلى الشفاء. وفي اختصار، إن فلسفة الناتوروپاثيا هي فلسفة ترأب الصدع بين الإنسان والكون، وتقبل بأن قوانين بيولوجية غير صارمة تحكم الإنسان، وبأن انتهاك هذه القوانين يؤدي إلى المرض، وبأن العودة إلى التوافق معها يعيد الصحة. إنه تصور فلسفي تتبيَّن صحتُه في الواقع. وأود هنا أن أطمئن القارئ: إن فن الطهي يشكل جزءًا من نصائحي الغذائية! فلا يعتقدنَّ بعضهم أنني داعية تغذية بائسة: فأنا أرفض جميع الأنظمة الغذائية وجميع أنواع "الريجيم". فكل ما يلزم هو في بساطة: تغذية طبيعية متوازنة وفردية، تبعًا للمناخ، للموسم، للبنية الجسمانية، للعمل، للسن، للاستطاعة الهضمية. وهذا ما يُسمَّى الأوتينوتروفيا Eutynotrophie، أي "التنظيم الغذائي الفردي". س.ك.: أنت تستخدم أيضًا، في مزاولتك، علم القزحية Iridologie. فهل لك أن تحدثنا في اختصار عن هذا العلم؟ ر.م.: يستخدم العديد من الناتوروپاثيين علم القزحية. وهو فن قديم، يحاول المعالِج فيه، من خلال فحص قسم العين الملون (القزحية)، – وليس الشبكية، كما يفعل طبيب العيون، – كشفَ "تربة" الفرد: استعداداته المرضية الكبرى، وأحيانًا تشخيص المرض في دقة. لكن علم القزحية هو، قبل كل شيء، "بطاقة هوية" لما ورثناه، لماضينا المرضي، ولما ينتظرنا من أمراض في السنوات المقبلة. ويمكن لنا فهم هذا الفن إذا علمنا أن كلَّ تبدل و/أو شذوذ في التركيب البيوكيميائي للدم يأتي لينطبع على القزحية من خلال تبدل ألوانها. وبالمثل، تنطلق من كلِّ عضو خيوطٌ عصبية جاذبة تصل إلى المراكز العصبية، ومن بعدُ إلى المخ، فيعكس المخ وضعَها على مستوى القزحية. ومن المثير أن اضطرابًا في عضو كالقلب، مثلاً، ينعكس في القزحية اليسرى: إذا قارنَّا القزحية اليسرى مع ميناء ساعة، لرأينا أن نقطة الانعكاس توافِق مثلاً الساعةَ الثالثة وخمس عشرة دقيقة. أما الاختلال المهبلي عند المرأة، فإن توضُّعه في القزحية يقابل منطقةً تقع بين السادسة وخمس وثلاثين دقيقة والسابعة وأربعين دقيقة. يقع الانعكاس، إذن، وفقًا للعضو المصاب، في زوايا مختلفة. وتُسمَّى هذه الدراسة "علم القزحية القطاعي"؛ وهي تخص كلَّ اضطراب في الأعضاء، حيث يتم نقله في صورة عصبية.
التشخيص بقراءة قزحية العين: تشير كل نقطة في القزحية إلى ما يقابلها من أجهزة الجسم. وهناك أيضًا "علم القزحية التربي" الذي يختص بدراسة طبيعة مركِّبات الدم وتبدلاتها. وبعض الأطباء يستخدم هذه الوسيلة الفعالة. س.ك.: ما موقف الطب "الرسمي" من الناتوروپاثيا؟ ر.م.: العلم "الرسمي" منقسم على نفسه تمامًا – وإن كنت أستقبل أطباء كثيرين يأتون مستفسرين عن ممارستي؛ ويشعر بعضهم بالسرور لتعاوُنه مع ناتوروپاثي قدير. إذ يوجد بين الناتوروپاثيين مَن تنقصهم الجِدية، فينصحون للناس بأنظمة غذائية خطرة؛ لكنهم – ولله الحمد – ليسوا الغالبية. بعض الأطباء الرسميين المنفتحين يقبلون، إذن، بهذه التقنيات المختلفة. ويجب أن نقبل، مع هذا، أننا من طرفنا نعتمد على مفاهيم حيوية؛ ويمكن، في نظرنا، السيطرة على التركيب البيوكيميائي للفرد ككل من خلال القوانين الحيوية. وعلى كلِّ حال، يتوافق الأطباء المنفتحون مع الناتوروپاثيين المنفتحين. فالناتوروپاثي الفهيم يرفض معالجة قلب عليل وسائر الإصابات الخطيرة والسريعة؛ إذ لا بدَّ إذ ذاك من وصف المضادات الحيوية. وفي المقابل، فإن الطبيب الفهيم، الذي لا ينجح عادة في الحصول على نتائج طيبة في حالات القوباء وداء المفاصل وغيرهما، يوجِّه مرضاه إلى ناتوروپاثي قدير. وأعتقد أن تعاونًا كهذا هو تعاون ذكي. *** *** *** حاوَرَه: سمير كوسا
المراجع
[1] الآلوباتية allopathie: مداواة الأمراض بواسطة علاج معاكس لها. [2] المرض الياتروجيني iatrogène: المرض الذي ينجم عن تعاطي الدواء. [3] الضروريات oligo-éléments: مواد معدنية تلزم، بكميات ضئيلة، لعمل الأجسام الحية، ومنها: الحديد، المنغنيز، البور، المغنيزيوم، الكوبالت، إلخ. [4] الأيض أو الاستقلاب métabolisme: مجموعة التحولات التي تطرأ على المواد المبتلَعة في جسم حي. [5] الموسلي muesli: طعام يتألف من القمح الكامل، مع فاكهة مجففة متنوعة (زبيب، تفاح) ومكسرات (لوز وجوز وبندق). [6] الپوپ P.O.P. والأوسفور Osfore: مستحضران من تركيب روبير ماسون. والپوپ هو حبة مؤلفة من مسحوق المحار البرتغالي الوحشي؛ أما الأوسفور فهو مركب من محار الرخويات والصدف وطحين العظم ونبات الأمسوخ. ويوفر هذان المستحضران احتياجات الجسم الغذائية من الضروريات. [7] الحيوية vitalisme: حيثما تكون الظروف مؤاتية تنتظم الحياةُ وتتكاثر. [8] الأخلاطية humorisme: ترافق المرضَ إصابةٌ في الخلط، أي في سوائل الجسم العضوية (الدم، اللمف، السوائل الخلوية، إلخ)؛ ويكون الخلط نقيًّا إذا كان الفرد في صحة جيدة. [9] العلِّية causalisme: لكلِّ مرض عللُه أو أسبابه؛ وبإزالة هذه الأسباب تعود الصحة. [10] الهومِيوستاسِيا homéostasie: مصطلح ناتج من دمج كلمتَي "السواء" و"الثبات" اليونانيتين، ويعني "الثبات على السواء" أو ميل الأجسام الحية إلى الانتظام الذاتي في التفاعلات كلِّها. [11] النواقل العصبية neurotransmetteurs: وسائط كيميائية يتم تركيبها على مستوى نقاط الاشتباك العصبية synapses، وتكفل نقل السيالة العصبية. [12] الحياة النباتية végétative: العمليات التي تكفل الحفاظ على الحياة ونمو الحيوان (أو النبات)، ولا تتعلق بالتكاثر ولا بالظواهر التي تحكمها قشرة المخ ولا بالحياة النفسية.
|
|
|